الشخصية الروائية تغادر البطولة


دعد ديب

ما انفكت مفاهيم الحداثة تطرق أبواب مريديها، من عاشقي التجريب في الفن الروائي، كصدى لاضطرابات واقع مبهم مَرًة، وانعكاس للتجارب العالمية مرة أخرى، ضمن انتشار مفاهيم تحطيم الأطر الفنية القديمة السائدة، لاجتراح آفاق ورؤى تتحرى المناطق المجهولة في الذات البشرية ومحيطها المتنامي، وعلائقها المتشابكة وتداعياتها المتشظية.

في روايته (عياش) الصادرة عن دار الساقي 2017، يعمل أحمد مجدي همام على تحطيم الصفات البطولية للشخصية الروائية، حيث لا يظهر فيها أي تميز أو تفرد، وتكون على الأغلب أسوأ من الشخصية العادية. ولا يعني افتراقها عن مفهوم البطل الإيجابي -المتعارف عليه- أنها غير ممتعة؛ إذ هناك ميزة عجيبة في الـلابطولة التي يزخر بها عالم اليوم الذي لا يسمح ببطولات على مستوى الفرد؛ وبالتالي ينجم عنها نماذج غير بطولية، ما اتفق على تسميته بضديد البطل أحيانًا. فـ عياش سليل العز والجاه ذو الحسب والنسب، ووريث الأمجاد السالفة، ينحدر إلى مهاوي العوز ككاتبٍ مغمور، يحار في تدبير أمور حياته اليومية، بعد استقالته من مكتب العجماوي، لتأتيه طاقة الفرج وهو بعز أزمته المالية، بطلب لكتابة مقالة ستنشر في جريدة الحزب الحاكم بالجزائر، يختصر تجاوبه بعنوان المقطع “هبوني أموالكم.. أهبْكم روحي”، مستعيرًا تعبير بوكوفسكي، ليتدرج بعده في طريق الانزلاق التدريجي وبيع المبادئ والمثل، خاضعًا لأسلوب الجهات الوصائية التي تراوح بين اللين والشدة. فهم يلوحون للمرشح المختار للتعامل معهم بارتكابات سابقة مسجلة لديهم، واستعدادهم للتغاضي عنها مقابل الانخراط في سلك المُخبرين، حيث تلعب الضغائن الشخصية، إضافة إلى ما يتم تلفيقه للناس باصطيادهم في لحظات غضبهم وتسجيل ما يتفوهون به ضد الجهات العليا؛ لينتهي عميلًا لأجهزة الرقابة على الفكر، وسيلة للترقي في سلسلة المناصب، وجاسوسًا على زملائه في صحيفة المواطن، من خلال التقارير التي يرفعها إلى مسؤولي الأمن، تتضمن جملة القضايا التي تثير الجهات العليا، ألا وهي الرأي الصريح بالانتخابات والمحسوبيات والوسائط وغيرها. والنتيجة أن الرأي الحر هي المسألة التي يعاقب عليها الصحفي، وتبدأ بتجريده من منصبه وتصل إلى تسريحه من عمله.

الصورة الكاريكاتورية لعياش ذي الكرش المتدلي والصدر المتهدل، الصورة التي ترسم ملامح تكوينه الجسماني، مهيئًا لصفاته الأخرى الذميمة، بالفخاخ التي ينصبها لزملائه بالتدريج، واحدًا بعد الآخر، مستثارًا من السخرية والهزء الذي يقابله بها البعض، ليضمر بداخله أحقادًا شخصية يحرص أن تبدو بصورة مخالفة لما هو عليه بالواقع. ففي الوقت الذي يشرف فيه على حملة انتخابية لأحد المرشحين بالبرلمان، يتحاشى من توثيق ظهوره فيها، كي يبقى بعيدًا عن الشبهات، وحتى لا يكون ثمة ما يشهد على انحداره بقوله “لا أريد مصيرًا مشابها لغونتر غراس الذي اعترف في أيامه الأخيرة بانتسابه إلى الحزب النازي”.

اتكاء همام على استعارات لنماذج مشابهة للشخصية التي يرسمها، كمحفوظ عجب، من رواية محفوظ صبري (دموع صاحبة الجلالة) واستشهاده بمقطع من رواية كمال الرياحي (عشيقات النذل)، لشخصية تشبه النذل الذي يقدمه وتتلذذ بحاجة الآخرين لخدماتها، مستفيدة من الفرصة الكامنة بإفراغ مخزون الحقد والكراهية، موضحًا الذبذبات السلبية التي تنتقل بشكل غير مرئي، مولدة ضغائن دفينة، هذه الاستعارات بدت كنوع من التناص لمعنى الشخصية المتناسلة بالتسلق والوصولية، أو كأنها شخصية تتخلّق من شخصية أخرى، إن جاز لنا التعبير.

أحمد مجدي همام؛ وإن بدا حداثيًا في تهشيمه لصورة الشخصية الكاملة، من حيث النزعة البطولية والأعراف الاجتماعية والفضائل العليا وطرح بديلها العادي والأكثر التصاقًا بالواقع؛ بدا كلاسيكيًا، بالنسبة لخط السرد الذي أخذ شكل تتابعي وتدريجي، وصولًا إلى نهاية الحدث، مضمنًا ارتجاعات طفيفة للذاكرة والاحداث الماضية.

المثلية، كظاهرة تعكس التباس الجندر، وجرأة تناول المحظور والمسكوت عنه، كمشهد له جذور واقعية وقديمة، جاءت وكأنها استجابة لمناخ عام نشأ في الغرب، واستحدثت لها تشريعات وقوانين، وتسربت إلينا وكأنها صارت لأزمة للحداثة وما بعدها، بحيث لم نعد نشهد عملًا لايتطرق إلى أوليات فهمها وتمظهراتها بالواقع. وقد استثمرت الفكرة في الرواية لرسم شخصية مستغلة وجشعة “العجماوي– عجميستا”، ساهمت في العطب الذي لحق بنفسية عياش، أكثر منها غوصًا في البنى النفسية التي تحكم وتوجه سلوك كائنات تحمل نزوعًا مختلفًا ومخالفًا لماهو سائد ومتعارف عليه.

الشخصيات النسائية جاءت متنوعة ومشبعة بنزوعها الحر وتوجهاتها ذات السمة المتفردة من نورا، الكاتبة المغمورة المحاصرة برفض المجتمع لنمط حياتها الخاصة، والحصار المطبق عليها وحاجتها للانعتاق من العوز المادي الذي يقيد طموحها وتمردها، إلى والدة عياش المرأة التقليدية، وانعكاس تبدل المكان والزمان والظروف المحيطة على وعيها وسلوكها، حيث الإنسان ابن البيئة التي يتحرك ضمنها، فالتغيرات التي طرأت على الحاجّة والدة عياش، سواء من حيث استبدالها العباءة ببنطلون الجينز والمنديل الأحمر، إضافة إلى المشاريع العملية التي تنوي إنشاءها، وليس آخرها اقتناعها -وهي الستينية- بالزواج مجددًا، لاحتكاكها بمجتمع لا يعارض الحرية الشخصية، ولا ينكر على المرأة رغباتها الدفينة، وإن كان يمثل خروجًا وتحديًا للأعراف في البيئة التي خرجت منها، واقتصرت شخصية الأخت بطة، على كونها محبة وعطوفة، والممول المادي والمنقذ لعياش في اختناقاته المالية.

الاحباطات المتتالية تحوّل البشر إلى مسوخ سفيهة وكريهة، فالشخصية الروائية باتت ضمن موج متسارع لعمليات غريبة تحصل على صعيد الوعي والذات، ممتدة غير واضحة المعالم. فإذا كان عياش في بعض نواحيه نذلًا وسافلًا، نراه في ناحية أخرى ميالًا للشهامة عند تقريعه لـ نورا، كونها لم تجرّبه وأساءت فهمه، لما يتعلق به من المغامرة، بما يملك لمساعدتها في أزمتها المالية، بدلًا من أن تسرقه بوضاعة وخسة. فالشخصية غير المكتملة التي تحمل تناقضًا في ذاتها، تأخذ هنا شكلًا أكثر وضوحًا وجلاء، كذلك عندما يحاول تقديم دعم مادي وإنساني، لوالد صديقه المتوفي محمد كرم الذي ساهم في أذيته، كأنها محاولة لغسل ضميره. محاولة يفعلها الكثيرون من ذوي السطوة، لرشوة ضمائرهم التي ماتت؛ إذ ينهبون بيد ويمنحون القليل باليد الأخرى، كما حملت الفضيحة التي حصلت له بنشر تقاريره الأمنية المرفوعة بزملائه على صفحات (فيسبوك)، على الرغم من وطأتها، إحساسًا بالارتياح من سطوة اللواء المسؤول وهيمنته على حياته، وأوامره التي لا تنتهي، ووصول أصداء الفضيحة إلى والد صديقه الذي نبذه واحتقره، كنوع من انتقام الميت، وربما كانت محاولته خلق مبررات لنفسه، عندما يدافع عن سلوكه بأنه أقل سوءًا -على الأقل- قياسًا بالحيتان الكبيرة الأمنية، إشارةً ضمنية للتناقض الداخلي، حيث يتبين استحالة قيام تسوية بين البطل المفترض كذات ومحيط، منذ دخلنا عصر الاغتراب الفردي؛ بالتالي ذاك الاتساع الهائل في اغتراب المرء عن نفسه، واتساع الفجوة بين الفرد والمجتمع، واشتداد حدة التناقض في الذات المتشابكة الميول، أخذت شكلها المتصاعد والكاره لواقعه في العبارة التي يختتم بها منجزه الروائي: “جحيم في الدنيا، جحيم في الآخرة، شكرًا يارب، شكرًا على هذا الحضيض الذي أعيش فيه…”.




المصدر