الكلمة والعالم في الترجمة


بدر الدين عرودكي

قول الشيء ذاته تقريبًا.

في هذه الكلمة، “تقريبًا”، يضع الأكاديمي والروائي الإيطالي أومبرتو إيكو كل ما يريد أن يقوله في فعل الترجمة، وهو كثير. لكنه بقوله هذا يفتح في الوقت نفسه كل مجالات الإمكان والغموض. على أنه، بخلاف معظم من كتبوا في الترجمة، لم يكتف بالتنظير المجرد، بل قام بما اعتبره ضرورة، أي الانطلاق من تطبيقات فعلية تقدم أمثلة عينية في الترجمة من وإلى لغات مختلفة، إلى ما يمكن أن يستخلصه منها من مفاهيم، يمكن أن يصل بها إلى صوغ مفاهيم يمكن أن تؤلف عناصر، من أجل نظرية في الترجمة. ذلك أن تجربته ثلاثية الأبعاد في هذا المجال تكاد قلَّ من امتلكها: مراجعة تجارب الآخرين من خلال إشرافه في عدد من دور النشر على سلاسل الكتب، وممارسته شخصيًا للترجمة الدقيقة التي اقتضت منه سنوات من العمل على ترجمة كتابين، أحدهما لريمون كنو: (تمارين في الأسلوب) وثانيهما لجيرار دو نرفال: (سيلفي)، بالإضافة إلى مراجعته ترجمة مؤلفاته النقدية أو الروائية.

يؤكد إيكو على أحد أكثر مطالب الترجمة شهرة، “الإخلاص” للنص الأصلي المراد ترجمته. ولكن كيف يمكن “ترجمة” هذه الكلمة في الواقع العياني؟ وما الذي تعنيه على وجه الدقة؟ يرى إيكو مع القديس جيروم، راعي المترجمين، أن الإخلاص لا يتجلى في ترجمة كلمة مقابل كلمة، بل في ترجمة العالم الذي سبق أن فتحه المؤلف بكلماته، ولو بكلمات مختلفة. ومن ثم، كلّ مؤلف ينطلق، حين يتابع عمل مترجميه، من مطلب الإخلاص ضمنيًا. يكتب إيكو: “كنتُ ممزقًا بين الحاجة إلى أن تكون الترجمة “مخلصة” لما كنتُ كتبته، وبين الاكتشاف المثير للطريقة التي يستطيع بها نصّي (بل ويجب عليه أحيانًا) أن يتحوَّلَ في اللحظة التي يقالُ فيها مجدَّدًا بلغة أخرى”.

جرت العادة لدى المترجمين أن يعتبروا أن الأهم هو ما يتجلى في النتيجة التي تتواجد في النص واللغة المترجم إليها. لكن مفهوم “الإخلاص” يشارك كذلك “القناعة بأن الترجمة صورة من صور التأويل الذي يجب أن يستهدف، ولو انطلاقًا من حساسية وثقافة القارئ، العثورَ لا على قصد المؤلف، بل على قصد النصّ، أي ما يقوله النص أو يوحي به بالعلاقة مع اللغة التي عبر عنه بها، وفي السياق الثقافي الذي ولد فيه”. يؤدي ذلك إلى ضرورة أن تقوم الترجمة على “فهم نسق اللغة الداخلي وبنية النص المعطى في هذه اللغة، وبناء نسق آخر يكون نظير النسق النصّي (…) ويمكنه أن يحدث آثارًا مماثلة لدى القارئ”، على مختلف الصُّعد اللغوية والجمالية.

هكذا كان إيكو يكتشف وهو يتابع ثمرات مترجمي عمله إلى اللغات الأخرى التي كان يتقنها، كيف كان ينطوي نصّه على إمكانات لم يكن يتوقعها. يقول: “كنتُ أشعر كيف يعرض النصّ في تماسّه مع لغة أخرى إمكانات تأويلية مجهولة مني، وكيف يسع الترجمة أحيانًا أن “تُحَسِّنه” (أقول: “تحسِّنه”، على وجه الدقة بالعلاقة مع القصد الذي كان النص يكشفه فجأة بمعزل عن قصدي الأصلي كمؤلف). بذلك يؤكد هذا الاكتشاف معنًى للإخلاص يتمثل في أن يتمكن النص المترجم من إحداث الأثر نفسه الذي يحدثه النص الأساس في لغته الأصلية؛ ومن ثمَّ فلا بد من التخلي عن المفاهيم الكلاسيكية، مثل ضرورة “تشابه الدلالة” أو “التعادل” بين الكلمات في معانيها، لصالح مفهوم آخر: “التعادل الوظيفي”، أي أن تنتج الترجمة الأثر نفسه المستهدف في النص الأصلي. يطلق إيكو على نتيجة هذا التعادل الوظيفي “تساوي القيمة التبادلية”، وتصير في علم الترجمة، بوصفها نتيجة، موضوعًا لمفاوضة أطرافها هم، من جهة، النص الأصلي مع حقوقه المستقلة، والمؤلف حين يكون حيًا، ويرغب في مراقبة الترجمة، والثقافة التي ولد فيها النص الأصلي، ومن جهة أخرى، المترجم، ونص الترجمة، والثقافة التي سيظهر فيها، مع ما ينتظره القراء الجدد. مما يفرض على المترجم، بادئ ذي بدء، أن يصوغ فرضية تأويلية حول الأثر المتوقع من قبل النص الأصلي، كي يعمل على إعادة إنتاجه في ترجمته.

على أن المفاوضة لا تفترض الوصول مسبقًا إلى التساوي في القيمة التبادلية. ومن هنا بعض الآثار التي لا بدّ للترجمة من أن تحدثها. يقول الفيلسوف الألماني هانس جورج غادامير في كتابه (الحقيقة والمنهج): “حين نريد في ترجمتنا التأكيد على سمة النص الأصلي التي تبدو لنا هامة بوجه خاص، لا نستطيع أن نفعل ذلك إلا على حساب سمات أخرى، أو لقاء استبعادها. لكن، هو ذا على وجه الدقة الموقف الذي هو، في نظرنا، موقف التأويل (…). لكن بما أن المترجم ليس على الإطلاق في وضع يمنح فيه بصورة حقيقية تعبيرًا لكل أبعاد نصه، فهذا يعني -بالنسبة للمترجم- عدولًا دائمًا”. هكذا تعني الترجمة -في نظر إيكو- “تسحيج” بعض النتائج التي تقتضيها الكلمة الأصلية. وبهذا المعنى إنما نقول إننا بترجمتنا لا نقول الشيء نفسه. ويجب على التأويل الذي يسبق كل ترجمة، أن يبيِّن كم وأي نتيجة تقترحها الكلمة يمكن أن تُسْحَج. دون أن نكون أبدًا واثقين كليًّا من أننا لن نفقد قنديلًا فوق بنفسجي أو أشعة تحت حمراء.

بهذا المعنى يمكن القول إن المفاوضة في الترجمة ليست علاقة توزيع عادل للخسارة والربح بين طرفين، بل هي بالأحرى جهدٌ مستمر يقوم به المترجم، لا كي يقول العالم الذي يعبر عنه النص الأصلي بلغة أخرى، بل أن ينشئ نظيرًا له في هذه الأخيرة. وهو ما يعني خسائر جانبية هنا أو هناك. ويلتقي ذلك مع ما سبق أن تحدث عنه فريديريك شليرماشر (1768 ـ 1834) في كتابه (مختلف مناهج الترجمة): “إما أن يترك المترجمُ الكاتبَ أهدأ ما يمكن أن يكون، ويعمل على أن يذهب القارئ إلى لقائه، وإما أن يترك القارئ أهدأ ما يمكن أن يكون، ويحمل الكاتبَ على الذهاب إلى لقائه. الطريقان مختلفان اختلافًا كليًّا، إلى درجة أنه يمكن لواحد من الاثنين أن يُتابَعَ مع أكبر قدر من الصرامة. لأن كل مزج يمكن أن يؤدي إلى نتيجة غير مرضية أبدًا بالضرورة، ولا بدّ أن يُخشى حينئذ من أن يفشل اللقاء بين الكاتب والقارئ كليًا”.

“قول الشيء نفسه تقريبًا” يبدو ممكنًا في الترجمة بين اللغات الأوروبية التي استقى منها أومبرتو إيكو خبرته التجريبية، وصاغ مفاهيمه انطلاقًا منها. لم يكن بوسعه أن يتابع ترجمة أعماله إلى لغات أخرى غير اللغات الأوروبية التي كان يتقن ستًّا منها، كاللغة العربية أو الفارسية. لربما كان سيلاحظ، لو أمكنه ذلك، أن كلمة “تقريبًا” لن تتخذ المعنى ذاته.




المصدر