on
السياسة الأميركية وأفول اللّعب الإيراني
عمار ديوب
استغلت إيران طموح بوش الابن، واستفادت من إسقاطه لكلٍّ من طالبان وصدام حسين، وتعاونت مع أميركا حتى توسع نفوذها في أفغانستان والعراق. في العراق هيمنت بالتدريج، ومع أوباما صار العراق محكومًا من إيران؛ وعزز ذلك السياسة الانكفائيّة لأوباما، أو كما يقال من الخلف كذلك، وربما المصطلحان مفيدان لقراءة تلك السياسة. أورثتنا أميركا إذًا، “فرعنة” إيرانية؛ فتمّت تصفية الإصلاحيّة الإيرانيّة، وفُشّلت نتائج انتخابات 2009، وكذلك أصبح “حزب الله” دولة في الدولة اللبنانية. إيران التي سيطرت على العراق، سعت بعدئٍذ للهدف نفسه في كلٍّ من سورية واليمن والسعودية والبحرين، وفي بلاد عربية وإسلامية أخرى؛ طبعًا لم يكن الأمر ممكنًا في سورية قبل أن تتحطم القوة الصلبة للنظام “الجيش”، وأيضًا في اليمن قبل انقسام مؤسسة الجيش وتحالف الحوثيين مع الرئيس “المحروق” والمعزول هناك، وقد فشلت في بقية البلدان أو توسعت بشكل محدود.
نقطة الضعف الإيرانيّة داخل إيران وخارجها تكمن في استمرار السياسات الطائفيّة في هذا البلد، وتشجيع الميول المحافظة دينيًّا والطائفية عالميًّا، وهي -وإن كانت تُؤزم الوضع مع بقية الطوائف داخليًّا وخارجيًّا- تمنع تشكيل دولةً قويّةً في الداخل والخارج؛ التطور في المجال العسكري ليس مهمًّا مقارنة بأميركا أو أيّ دولة متقدّمة، ولهذا فإن مشكلات إيران الحالية تتعمق داخليًّا وخارجيًّا. إطلاق صواريخ متوسطة المدى إلى دير الزور، قُرئَ دوليًّا وإقليميًّا كرسالةٍ للأميركيين وللروس وللجميع، بأنّ لإيران حقوقًا إقليميّةَ لن تتنازل عنها، أو لنقل ستساوم عليها حينما تأتي مواعيد الصفقات الكبرى، الصفقات الخاصة بتواجدها الطائفي في الدول العربية.
السياسة الروسية العائدة للعبِ دورٍ عالميٍّ، أيضًا ضعيفة وتتخوف من تطوراتٍ محليّةٍ قد تقضي على طموحها هذا، كما حدث في أثناء هزيمتها في أفغانستان؛ وبالتالي اعتمدت على الميليشيات الإيرانية في سورية. أميركا مع ترامب، اجتمعت فيها سياسات بوش وأوباما معًا؛ فهناك رغبة في فرض سيطرتها مجددًا على منطقتنا، ولكن دون سياسات حربية هجومية، أي عبر السياسة واللين وتشكيل أحلافٍ جديدة في المنطقة، وكذلك عبر الاعتماد على فئاتٍ سياسيّة كرديّة في العراق وسورية، كأوراق ضاغطة ضد تركيا وإيران وروسيا. السياسة الأميركية الجديدة كان من نتائجها فرض “خوّةٍ” على دول الخليج وتحصيل أكثر من ألف مليار دولار مقابل تأمين حماية لها، وطبعًا الحماية من بعضها، ومن إيران بالتحديد.
في سورية هناك تحالف دولي ضد الإرهاب، قبل مجيء ترامب، ولم تتغيّر سياساته كثيرًا بمجيئه و(داعش) ينهار بسببه، وإنّ ضعف الفصائل الوطنية والقوات الروسية والإيرانية فرضَ معادلة جديدة، وهي اقتسام النفوذ والمصالح بين القوى العالمية، وفي هذا الإطار أصبحت سورية مكانًا لحرب الآخرين بشكل كامل؛ التوسع الروسي والأميركي يفترض بالضرورة انسحابًا إيرانيًّا كما تم تهميش الوجود التركي. إيران تعلم ذلك، وذلك ضمن السياسة الأميركية بشكل خاص، وما يحدث من اختلافات وصدامات في درعا والتنف والبوكمال والرقة ودير الزور، كلها تقول إنّه لم يعد للوكلاء الإقليميين (تركيا وإيران) الدور السابق نفسه في سورية، وصار لا بد من تهميشهم. الصواريخ الإيرانية رسالة رفض، ولكن إسقاط الطائرة السورية وقصف أرتال عسكرية إيرانية، وتعزيز القاعدة العسكرية الأميركية في التنف، وإصدار قرار أميركي مؤخرًا بإرسال قوات أميركية إلى سورية وغيرها، كلها رسائل واضحة أن أميركا لن تتقبل الوجود الإيراني ذاته ولا بد من تقليصه. الخطوات الأميركيّة الهادئة وتعزيز تواجدها في شمال وشرق سورية وربما في العراق، وطبعًا استمرار تخويف الخليج ورفض عقد صفقات بين روسيا وأميركا؛ تقول هذه المسائل جميعها إن السياسة الأميركية ستقلص التواجد الإيراني وتقطع طريق بغداد دمشق، وستكون البوكمال بالضرورة تحت الأيدي الأميركية.
ضمن إطار تطويق السياسات الإيرانية، تأتي صفقات الأسلحة مع الخليج، وربما التغيير الأخير لوليّ العهد في السعودية، وهو المتُشدّد ضد إيران. نتائج ذلك ستكون دحر الحوثية وتهميش التواجد في سورية، وهذا سيتم عبر التوافقات مع روسيا، وسيطرح مجدّدًا مصير الحشد الشعبي في العراق، وكذلك هناك تقارير تقول بإمكانية شن حرب ضد “حزب الله” في لبنان.
يبدو أن إيران لن تفهم ذلك، نظرًا لعمق أزماتها في الداخل، وستحاول اللعب على التناقضات بين روسيا وأميركا وبالورقة الطائفية ومسألة الإرهاب، وبالتالي سيكون هناك ربما تضييقات كبيرة ضد إيران، اقتصادية ودبلوماسية وربما أعمال عسكرية محدودة كرسائل دقيقة للتغير في السياسة الأميركية؛ فإذا كانت إيران تستخدم الرسائل الصاروخية فستتلقى الرسائل ذاتها في المستقبل.
اقتسام العالم بين الدول العظمى، يقول بضرورة تهميش الدول الطرفيّة، وأن الاستفادة الأخيرة لها وتوسيع نفوذها هنا وهناك، كما حال إيران، أصبح من الماضي؛ فالأزمات التي تعانيها أميركا وروسيا تستدعي تدخلًا مباشرًا في العالم، وتتبيعًا واستغلالًا أكبر لموارد العالم والسيطرة على أسواقه. شكلُ التدخل في سورية والخليج عبر “الخوة”، وفي أوكرانيا وغيرها، يوضح أن مرحلة جديدة دخلها العالم، فإذا كانت الثورات العربية وجهًا لها، فإن تزايد اليمين بأوروبا، وتهميش إيران وتقسيم أوكرانيا وجه آخر. العالم هذا كان واعدًا بثوراتٍ شعبيّةٍ وبتقدمٍ لليسار كما في اليونان وإسبانيا، ولكن ذلك تعثّر عبر تشويه الثورات بإدخال الإسلام السياسي فيها، حيث تحالفت السياسة الأميركية الأوبامية معه لتفشيل الثورات، وكبديل عن الأنظمة “المستهلكة”، وضد الجهادية وأيضًا لتشجيع النزاعات الماهوية الدينية عالميًّا وتقوية اليمين أوروبيًّا. استفادت إيران من كل ذلك، وهي الدولة الدينية الثالثة بعد السعودية و”إسرائيل” في العالم، ولكن ذلك كان له شروطه، وقد أوضحناها أعلاه، واستمرار ذلك يعد مستحيلًا مع السياسة الأميركية الجديدة، وهي ضد “الإرهاب الإسلامي” السني والشيعي، وكذلك من أجل تقاسم المصالح بين الدول الكبرى.
التوظيف الروسي لإيران في سورية والأميركي في العراق، ربما وصل إلى نهايته، حيث انتهت الثورة في سورية ويوشك (داعش) على النهاية، وأصبح التواجد الأميركي في العراق “مطلبًا” لأقسام من السكان هناك؛ لهذه الأسباب يمكننا القول إنّ اللعب الإيرانيَّ لم يعد ممكنًا، وإن السياسة العالمية في منطقتنا ستُراعي مصالح كل من العرب و”إسرائيل” وتركيا.
إيران هذه إمّا أن تفهم كلّ هذه الحثيثات وتعود إلى سياسات تخص سكانها، وإمّا أن الصواريخ التي قصفتها على دير الزور قد تعاد إليها، من أكثر من دولة في المنطقة.
المصدر