سيرة ذاتية


قصي زهر الدين

يولدُ الإنسانُ حرًّا!

 لحظة! لا بدّ أولًا من أن أغلقَ كتابَ حقوق الإنسان الذي بين يدي، وأبوابَ الجمعيات العمومية، ومنظماتِ الإغاثة التي تطلّ عليّ من نوافذَ إحسانها.

 لذلك؛ سأعيدُ صياغةَ ما أكتب لأكون جديرًا بحرية ولادتي أو عبوديتها!

يولدُ الإنسانُ مكبّلًا بالشرط، يولد كي يمتحن الهواءُ رئتيه، والغبارُ زجاجَ قلبه، يولدُ موثوقًا برسغِ الصدفة التي تقوده إلى فِخاخِ التجربة، فينصاعُ حينًا ويمارسُ طقسَ الرفضِ أحيانًا أُخر، فقط ليقول: أنا هنا.

وهكذا يكبرُ الطفل الذي بداخله. يكبر بكل ما فيه من فصول الألم والفرح السريع محمّلًا بمشاهداته ومشافهاتهِ التي تلقّنها جسده الطري، منذ القابلة وحتى تحطيمه لأضواءِ الساحاتِ العامة، وقرعِ الأجراسِ والهرب بالضحك بعيدًا عن غضب الجار، الطفل الذي سيفصل عنق السنونو عن جسدها، ويمتدح جريمته أمام أقرانه، الطفل الذي سيحطّم المصابيح وشبابيكَ المستوصفات، ويفتعل تلطيخَ ثيابه بأحمرَ الشفاه، قبل أن يعي لونَ الدمِ الحار؛ كي يبدو جديرًا بالتهمة التي ستوجه إليه: أنتَ بطل!

هكذا إذًا تكبر الأنا معنّفةً بجدالِ الأهلِ والأقاربِ والسلطة، الأنا المهزومة بطيشها وبهرجِ الكبارِ المتكئينَ على عكازِ وصاياهم.

2

كانَ صغيرًا جدًا عندما وقفَ أمام الباب الهائل، باب السجن الذي من شعاراتٍ وصورٍ وثقوبٍ صغيرةٍ في جداره الحديدي، أقصد بابَ المدرسة. رفع عينيهِ الصغيرتين جهة اللافتة المعدنية وراح يتهجى الأحرفَ بلسانه الثقيل:

“م ـ د ـ ر ـ سـ ـ ة. ال ـ ش ـ ه ـ ي ـ د ….”

التفت إلى أمه التي تقبض على كفه كشرطي:

“ماما.. شو يعني شهيد؟”

غدًا ستكبر. هذا كلّ ما قالته الأم الحريصة على غدِ ابنها، ومذ ذاك، أي منذُ ذاك الباب ذي القضبانِ وما يشبه النافذة في معدنه، والطفل يكبر أيّامًا مُعتقلة في باحةِ المدرسة، باحتها التي يطل عليها الحديدُ من كل الجهات متقاطعًا كأصابع معدنية:

إنّها الشرفات المستطيلة بلونيها الأبيض والرمادي وكأنها ممراتٌ في مستشفياتٍ حكومية، يحوم الذبابُ فوقَها منتظرًا ضحيةً ما، طفلًا ما، ربما سيسقط لاحقًا من هولِ الفاجعة.

3

كانَ طويلًا كفايةً كي يجلسَ في المقعدِ الأخير من الصف، بل كي يجلسوه في المقعدِ الأخير؛ إذ لا مجالَ للخياراتِ هنا في هذا السجن التربوي الباذخ. المقعد الأخير: جملةٌ تشير إلى المكان الذي سيصلحُ -دائمًا- للنعاسِ والتأمل، ورمي الأستاذ الحاذق بالشتائم الصامتة، وقطع البلاستيك القصيرة.

ما هي إلا لحظات ويدخل المعلم وفي يديه الثخينتين عصًا سيتذكرها الأطفالُ أبدًا، حتى إنهم سيألِّفون الروايات ويستمتعون بالأحاديث الطويلةِ عن لهيبِ لسعها في الأكف والأظافر ولا سيّما في الفصول الباردة:

“في بلادي يتقنُ المربّونَ أساليبَ العنف، وكأنهم ساسةٌ، أو أنهم خرجوا توًّا من معتقلات ذكورتهم، حتى الإناث منهم، يتسلحونَ بالعصي ومطرِ الوعيد، أما الطفل فلا مظلةَ له سوى رنين الجرس الذي سينهي حلقةَ العذابِ هذه”

الآن درسٌ في البلاد:

احفظوا حدودَ الوطن الكبير، وأقوال حُماتهِ التي لا تُخطئ، احفظوها جيّدًا واحفظوا أشكالهم، ابتساماتهم، عمقَ أصوتهِم، قرار أعينهم.

تتابعُ المعلمةُ تصنيفَ محاسن الأخ الأكبر، وتوزيعها حِصصًا وأجراسًا على أعناقِ الماشية/ الأطفال، الماشية الذين يهتفون خلفها بكاملِ أجسادهم، بينما آخرون يحطّمون المرايا قطعًا صغيرةً، وينحنون أسفلَ مقاعدهم ليقيسوا بها بُرك التعرقِ في فخذيها النحيلين.

4

ويرنُ الجرس، فرصةُ النجاةِ الوحيدة للقليلِ من الحريةِ المُعتقلةِ بثيابهم الرمادية وبأنظارِ المدرسين الحريصين -دائمًا- على لجمِ طفولتهم وتكبيلها بالصراخ.

كانَ صغيرًا يا صديقي، ويحب أن يلعبَ (شرطة حرامية) لذلكَ تعلّم أن يطاردَ زملاءه في باحةِ المدرسة، وتعلمّ كيف يكونُ الشرطي الذي لا يخطئ الضحية، ليمسكَ بهِ ويزجه أخيرًا في سجنِ خياله، وتعلّم أيضًا كيف يكون الحرامي الذي سيُزّجُ في خيالاتِ الأطفالِ المشاغبة.

 أجل كان صغيرًا، يا صديقي، وكان يحترف القفزَ كطيورِ الدوري فوق حائطِ المدرسة، كي لا ينتبهَ الغرابُ المُطلّ إلى السماء الشاسعة التي تلمع في عينيه.

كانَ صغيرًا يحب الله والبلاد والحلوى وسرقةَ البيض من الأعشاش، لكنه -صدفةً- كبُر، وأصبحَ يحب النساءَ النحيلاتِ اللواتي بشعرٍ أصفر وعيون عميقة، والسيرَ وحيدًا في شوارع دمشق، يدخلُ السينما ويحلم أن يقبّل البطلة التي بشفاه رقيقة وعنق طويل، فيخرجُ مبتلًّا برائحتها، ويواصلُ السير حتى يصلَ جسرَ الثورة فينتقي كتبًا لـ ميلان كونديرا وماركيز وريتسوس.

كانَ صغيرًا لكنه كبر، وأصبح لديه غرفة ومكتبة وسرير ونبيذ وحبيبة، ولفافات كثيرة من التبغِ، وصور لجيفارا ومحمود درويش والماغوط، وهكذا أصبح شاعرًا دونَ أن يكتبَ الشعر.

ولأنه كبر، ولأنه يحب السيرَ في شوارع دمشق، أوقفه رجالٌ بملابس غريبة وأصوات تحملها ألسنٌ عرجاء، ثمّ أغمضوا عينيهِ وقلبه، واقتادوه في سيارةٍ رباعية الدفع، بعدَ أن أدركَ تمامًا مَن هو الشرطي ومن هو الحرامي! ثمّ لم يعد.

5

طرقٌ قويٌّ على الباب، يدخل غرباءٌ بملابسَ سوداء وخلفهم الكاهن، الأم شاخصةٌ عيناها وبيدين مرتجفتين تأخذ هوية وقميصًا ملطخًا (ليس بأحمرِ الشفاه) وإنما ببقعِ الدمِ الحار:

ولدكِ استشهد.

ثم مضوا تاركينَ خلفهم فقدًا بحجمِ الفاجعة.

6

كانَ صغيرًا لكنه كبرَ وأصبح لديه الآنَ مدرسةٌ يحمل حديد بابها الثقيل حروفَ اسمه، بينما طفلٌ آخر يقبض بكلتا يديه على كفّ أمه ويتهجّى بلسان أعرج ما كُتبَ أعلى الباب:

“م ـ د ـ رـ س ـ ة ـ ال ـ ش ـ هـ ـ ي. د …” ثم يردف:

“ماما.. شو يعني شهيد؟”

غدًا ستكبر. هذا فقط ما قالته الأم الحريصة على غدِ ابنها.




المصدر