‘أحمد برقاوي: الدكتاتور أمهر مُعبّد طرق نحو الموت والدمار’

24 حزيران (يونيو - جوان)، 2017
14 minutes

مشعل العدوي

إن حاولنا أن نُقدّم تعريفًا بالدكتور أحمد البرقاوي، فسنجد صعوبة في ذلك، لا لأنه يكره التصنيف فقط، بل لأنه متعدد الحضور، فهو أكاديمي معروف لكنه يصبُّ جام غضبه على الأكاديميين الهاربين من الحياة إلى عالمهم الضيق، وهو دكتور في الفلسفة غير أنه يرى أنّ هذا اللقب لا يُعبّر عن الذات. إنه فيلسوف وقد أصدر الكتب التالية: “العرب وعودة الفلسفة”، “الأنا”، “كوميديا الوجود الإنساني” و”أنطولوجيا الذات”، واشتغل في قضايا الفكر العربي، وأصدر محاولةً في قراءة عصر النهضة والعرب بين التاريخ والأيديولوجيا، و”أسرى الوهم”، و “دفاعًا عن الأمة والمستقبل”. وهو شاعر أصدر ديوان “أنا”، وديوان “لعبة الحياة”، ويكتب المقال الأسبوعي في عدة مواقع ومجلات، مُندرجٌ في كفاح الشعبَين السوري والفلسطيني، بقلمه الذي لا يكفّ عن الدفاع عن الحرية والكرامة، حتى إنك لا تستطيع أن تعزل سوريته عن فلسطينيته، وهو الآن في دبي يشغل منصب المدير الأكاديمي لـ (مركز الشرق للبحوث)، يواصل رحلته في العوالم كلها.

حاورته (جيرون) حول عدد من القضايا الراهنة: السياسية والفكرية والاجتماعية، وقدّم في أجوبته ما يستحق التوقف عنده، والتأمل.

بدأنا الحوار بسؤاله: إنْ كانت الثورات العربية قد أسقطت دور المثقفين، واليساريين منهم بشكل خاص، وإن كان رفضهم للثورات لأنها سبقتهم وفاجأتهم وجاءت من القواعد، أو أنهم كانوا أبعد نظرًا ورأوا مآلاتها فحذروا منها؛ فقال برقاوي:

“أكاد أقول إن حاجة الثورات للمثقف أكثر من حاجتها للبندقية، البندقية التي لا تُفكّر لا تُنتج تاريخًا، فالمثقف هو عقل البندقية إن صح التعبير، المثقف المندمج والمنتمي، وبحسب (غرامش)، العضوي المنسجم مع الحراك التاريخي الثوري يُقدّم المعرفة، يقدمها لأولئك الذين تتحول إرادتهم إلى واقع، فإرادة المثقف هي فكره ولغته، المثقف الوضيع بوصفه (أنا وضيعة)، هو ذاك الذي يُزيّف الواقع دفاعًا عن السلطة الزائفة، انطلاقًا من وعي أيديولوجي زائف، وهو يعرف الحقيقة، اليساري الذي يُدافع عن نظام مستبد قاتل يعرف الحقيقة، لكن وعيه الأيديولوجي ومصالحه الضيقة منعته من أن يُظهر الحقيقة، فانتمى للزيف، المثقف سُلطة؛ إما أن يوظف سلطته انطلاقًا من وعيه النبيل بانتمائه للبشر، أو أن يُوظّف سلطته انطلاقًا من وعيه الدنيء. لكن ما هو الوعي الدنيء؟ هو الذي آثر الخنوع ورفض المغامرة، فيما الوعي النبيل هو الذي آثر المغامرة على الخنوع، وهذا ورد في فصل السيد والعبد لدى (هيغل)، فالسيد هو الذي قرر أن يكون سيدًا، والعبد هو الذي قرر أن يكون عبدًا، لكن إلى أن تفضي حركة جدل التاريخ هذه؟ إنها تفضي إلى أن مسار التاريخ هو وعي الحرية لذاتها، لذلك فإن المثقف الذي ينتمي لحركة التاريخ هو المثقف الحر، بينما المثقف الذي ينتمي إلى عائق حركة التاريخ هو المثقف العبد. وهناك الهويات النائمة، فأحيانًا تكون أمام شخص يبدو لك أنه حر لكنه قد يُخفي هويةً غافية كالهوية الطائفية، فمن كان يظن أن شاعرًا يكتب عن اليأس والدكتاتور والحرية وهو ينطوي على هوية وضيعة نائمة؟

 وسألناه: إن كان متحيزًا للمدينة وللثقافة المدينية، ويتهم الذهنية الريفية الفلاحية التي ريّفت المدن بالمسؤولية عن كثير من التخلف، وإن كان في الجينات الإنسانية سماتٌ ريفية أو مدينية، وكيف يمكن تفسير رؤيته لهذا التقسيم الجغرافي؛ فأجاب:

“في حديثي عن المدينة والريف، إنما أنطلق من وعي تاريخي للحضارة الإنسانية، الجميع يُسهم بإنتاج الحضارة بمفهومها الشامل، لكن المدينة تحتل الدور الأبرز في إنتاج الحضارة، فالمدينة تُنتج السياسة والحرفة والسلعة والسوق والعلاقات المتحررة من العلاقات الطائفية والقبلية لصالح التمايزات الحرفية والمهنية والطبقية والسياسية تاريخيًا، هي بنت المدينة وهذا يعني أنها بنت الذهنية المدينية، والقارئ يعلم بأن المدينية من المدينة، والذهنية المدنية والمدينية تُنتج السياسة، وأساس الدولة تاريخيًا، وفكرة العاصمة تعني مركزية المدينة، بهذه الذهنية تكمن التصورات ما فوق العلاقات الضيقة للبشر، فيما الذهنية الفلاحية ذهنية تقوم على علاقة القرابة والدم، فضلًا عن أنها مرتبطة بنوع من الملكية الدائمة، وهي الأرض، فتغدو كل أشكال ملكية الفلاح الريفي كملكية الأرض، ولهذا إذا نظرت إلى تاريخ استلام الفلاحين للسلطة في سورية، بما فيها استلام العسكر المدينيين للسلطة عبر الانقلابات قبل آذار 1963؛ فستجد الاختلاف بين الذهنيتين المدينية والفلاحية، فلو أخذت شخصيتين بعثيتين حكمتا قبل السبعين كأمين الحافظ، وهو عسكري، ونور الدين الأتاسي، وهو مدني، فإنك لا تجد أي ممارسة لهاتين الشخصيتين بعلاقة قرابة أو طائفة أو منطقة، إن ذهنيتهما المدينية -على الرغم من بعثيتها- حالت دون العصبية العائلية والطائفية، فيما لو قارنت بينهما وبين حافظ الأسد ومعمر القذافي وصدام حسين، فستجد أن كل هؤلاء القرويين بنوا سلطتهم انطلاقًا من علاقات وقوة أسرية قبلية طائفية مناطقية، لأن ذهنيتهم الفلاحية لا تسمح لهم إلا أن يكونوا على هذا النحو، ولذلك شكّلوا نمطًا من الدكتاتوريين الذين لا تنطبق عليهم فكرة الدكتاتور الذي يريد أن يصنع دولة؛ وبالتالي هم أصغر من أن يكونوا دكتاتوريين”.

تساؤلنا الثالث كان عن “الأنا” ودلالاتها، وكيف يبدو مثاليًا، مع أنه يستخدم الأنا الجماعية أحيانًا بدلًا من (نحن)، ويقسّم “الأنا” إلى سويّة ومتمردة ومنحطة وشريرة، وسوى ذلك.. وكيف يمكن لهذه الأنا المنفصلة ألا تتضخم وتتحول إلى ديكتاتورية الفرد؟ وكيف يُبعدها عن النرجسية، فقال برقاوي:

“حين اكتشفت اكتشافًا مشكلة الأنا، بوصفها أس المشكلات، لأنها نائمة من حيث حضورها في عالمنا، أقول إنه لأكثر من عقد من الزمن، وأنا أبحث عن الشروط التي تجعل الأنا حاضرة، وأقصد بحضور الأنا حريته في الانتقال إلى الذات التي يريدها، لأن الذات هي انتقال الأنا إلى الفعل، وبناءً على تعيينات الأنا في وطننا والعالم، ميزت بين الأنا النبيل والأنا الوضيع، بين الأنا السوي والأنا الـلاسوي، ولقد أدرجت الدكتاتور في الأنا الوضيع، بوصفه أنا يبحث عن مجد ذاتي عبر نفي الآخر الذي يصل حد القتل، إنه ليس نرجسيًا لأن النرجسي يُحبّ ذاته ولا ينفي الآخر، فالدكتاتور أناني وليس نرجسي. حين يصير الأنا متحررًا وحرًا أن يكون في الجماعة أو لا يكون، يتحرر الأنا من غريزة القطيع، وهو ذا فصل القول في الحرية أصلًا”.

وعند السؤال عن موت الأيديولوجيا، إن كان ينبئ بموت الفلسفة؟ وإلى أي مدى تستطيع الجماهير أن تُنتج فكرًا بعيدًا عن النخب التي فشلت في القيادة الفكرية؟ وكيف يُفسّر عودة الجموع إلى الدين باعتباره الخلاص الأبدي؟ أوضح الأستاذ الجامعي:

“تحدثتُ في موت الأيديولوجيا عن موت أيديولوجيات وعن نهاية هذه الأيديولوجيات، وهي ثلاثة أنماط من الأيديولوجيا: الشيوعية – القومية – الدينية، هذه الأيديولوجيات الميتة، ميتة بمعنى أنها لم تعد قادرة على اكتشاف أسئلة جديدة وإنجاب أجوبة من حركة التاريخ، بسبب ما تنطوي عليه من أوهام جرّدت إرادات البشر، الأيديولوجيا تُحرك الإرادة تاريخيًا وتموت في حالتين: إذا لم تتحقق ومضى عليها زمن طويل، وإذا تحققت انكشفت كل عوراتها”.

وتابع “إن كل أيديولوجيا هي وعد، أيديولوجيا ذات وعد أرضي كالشيوعية والقومية من السهل إقامة القطيعة معها، أما الأيديولوجيا الدينية فهي تتكئ على وعد إلهي، وهنا أقصد الأيديولوجيا السياسية الدينية، أي كل الحركات السياسية الإسلاموية والمسيحية واليهودية، فهي حركات مناهضه لمنطق العقل في التاريخ، والتاريخ لا عود فيه للوراء، قد ينكص التاريخ أحيانًا؛ لكنه سرعان ما يستعيد قوته على السير، ولهذا يجب على العقل الآن أن يتحرك في حقل الممكن الواقعي، وأقصد بالممكن الواقعي هذا الممكن الذي ينطوي على شروط تحققه الموضوعية والذاتية، وتكمن المشكلة في ما يلي: أحيانًا تكون الممكنات حاضرة في الواقع، ولكنها لا تجد الإرادة القادرة على نقلها إلى واقع؛ فتموت الممكنات، وأحيانًا قد تجد الإرادة التي تفعل خارج الممكنات لإرادة القوى الإسلامية السياسية والنظم المنهارة، فتُقدّم التضحيات المجانية ذات الأثر السلبي على حركة التاريخ”.

وفيما إن كان يريد أن ينهض الإنسان بوعيه الذاتي، وفيما إن كان يطلب منه قطيعة عن حاضره وماضيه؟ وهل ينسف كل المنجز الإنساني باسم الحداثة وما وراءها؟ قال:

“أنت لا تستطيع أن تتحدث بحركة الوعي لا بحركة التاريخ، أنت تستطيع أن تقوم بوظيفة القابلة القانونية للتاريخ، لقد سألوا سقراط ما هو عملك فأجاب: أنا أعمل مثل أمي، وأمه كانت قابلة قانونية، أنا أساعد البشر على توليد أفكارهم للحياة، وأمي تساعد الأمهات على الولادة، أنت لا تستطيع أن تصنع تاريخًا من العدم، لكنك تستطيع أن تصنع تاريخًا من الماضي؛ وبالتالي حركة الواقع تمنعك من ذلك، فالتقدم العقلي والتقدم العلمي والفكري والسياسي هذا لا يُطاح به من أجل فكره، أهمية الوعي أنه يتعين بسلوك، كيف يمكن أن يكون وعيك منتميًا للقرن الخامس عشر، لتجيب عن أسئلة في القرن الحادي والعشرين؟ هنا أهمية تجديد الوعي والقطع مع أجوبة وأسئلة الماضي التي لم تعد أسئلتنا، فلكل عصر أسئلته وأجوبته، فعلى مستوى الوعي العلمي هل تستطيع أن تحل مشكلات الآن خارج التقدم العلمي المعاصر وانطلاقًا من علم ماض؟ لكن العلم ليس مجرد معرفة فحسب، فالعلم وعي علمي بالعالم، لذلك المشكلة التي نعيش فيها اغترابًا أنه لدينا معرفة علمية بما يجري في العالم كله دون وعي بالعلم، العلم يقول إن العلاقات السببية الموضوعية هي التي تُفسّر لي هذا المرض أو هذه الحادثة أو هذه الواقعة، أنت لا تستطيع أن يكون وعيك علميًا إذا لم تؤمن بالأسباب الواقعية الموضوعية، مبدأ السببية مبدأ عقلي، لذلك حين ندرس الآن الربيع العربي، ندرس ما قال النظام السياسي العربي عن ثورات الربيع العربي، قال إنها مؤامرة، هو انطلق من مبدأ السببية، وقال إن سبب هذا الربيع مؤامرة، هو لم يُخالف مبدأ السببية، لكنه خالف السببية بوصفها أسبابًا موضوعية واقعية، من أجل ألا يعترف بالأسباب الواقعية التي أنتجت الربيع العربي، رده إلى سبب تصوري ميتافيزيقي اسمه المؤامرة، هنا أهمية الوعي العلمي، لذلك، حتى الثورات لا تستطيع أن تنجح إلا إذا وضعت لنفسها أهدافًا قابله للتحقق، انطلاقًا من العلاقات السببية الموضوعية، الفعل السياسي ليس فعل إرادوي مئة بالمئة إذ لا بد من ربط الإرادة بالإمكان”.

سؤالنا الأخير كان في ميدان الشعر: إن كان قد هرب إلى الشعر، ليكسر موازين الفلسفة، كما كسر موازين العروض؟ قال برقاوي:

“ذهابي إلى الشعر ليس هروبًا من الفلسفة، أنا أجمع بين الشعر والفلسفة في التعبير عن زوايا رؤيتي المتنوعة لوجودي والحياة، في الشعر أنا لا ألتزم بمنطق أرسطو ولا بمناهج البحث الفلسفية، لأني أقول الحدس الفلسفي شعرًا فلا أحتاج للشرح والتأويل والبحث. قال لي: إلى أين؟ قلت: إليّ، فأنا لا أستطيع العيش بدوني، فهذا الحدس الفلسفي الشعري، لو أردت أن أكتبه فلسفةً لما كفاني كتاب كامل، وكتاب الأنا أصلًا في هذا، كيف أكون أنا أنا وليس أنا خارجي، ولهذا أنا لا أختار الشعر بل الشعر هو من يختارني”.

وتابع: “لا يستطيع أحد أن يُقرر ما يكون عليه إبداعه، وإذا نظرت إلى تاريخ الفلسفة ستجد ماركس الفيلسوف، وماركس الشاعر، وكذلك نيتشه، والفيلسوف الذي لا يقول الشعر ينسب إلى شاعر ما ليجد ضالته فيه، ألم يجد (هايدغر) ضالته في (هيلدرن)؟”.

وعن شذراته الجميلة الذي يُطلقها في مدونته، وأيها التي يمكن أن يُخّلدها وينقلها إلى المستقبل؟ قال:

“طويلًا ظلّ يزحف على بطنه، داسه الآخرون في طريقهم ولم ينتبهوا إليه، أخفى كل آلامه وأحزانه وأحقاده وخوفه، وحين أيقن أنه قادر على أن يضع الأصفاد في الأرجل الواقفة وضعها وانتصب، إنه الدكتاتور الحاقد وقد تمثّل بشرًا سويًا، فأوى إلى القصر فأرًا يعيش عمره خائفًا من المصيدة، الدكتاتور أمهر مُعبّد طرق نحو الموت والدمار”.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]