on
الكتاب الأحمر هلوسات القرن العشرين
إبراهيم الزيدي
إذا كانت دورة العلم عمرها ثمانية عشر شهرًا -كما يقولون- فإن الفاصل الزمني بيننا وبين عام 1939 قد تعاقبت فيه دورات كثيرة، وأصبحت الكثير من المعارف والعلوم والنظريات في ضمير التاريخ، وإذا كانت المقولة: “إن التطور الذي شهدته البشرية، في الخمسين سنة الأخيرة، يفوق ما شهدته البشرية عبر القرون السالفة كلها”؛ فإننا سنصل إلى النتيجة نفسها، إلا أن ذلك لا يعني انقطاعًا في سباق التتابع للمعارف الإنسانية، فالاكتشافات والفرضيات والنظريات لا تنبت في فراغ، وإنما هي حلقات متتابعة، تسهم في نشأتها عوامل كثيرة. فتتخلى العلوم التي تجاوزها الزمن عن قيمتها العلمية، وتحتفظ بقيمتها التاريخية. إلا أن (الكتاب الأحمر) لكارل غوستاف يونغ، قد نجا من عواقب هذه المقدمة، فالكتاب الأحمر ليس كتابًا كبقية الكتب الذي كتبها يونغ، وهي ليست قليلة. إنه مشروع أدبي، موضوعه علم النفس.
في عام 1913 في سن الثامنة والثلاثين، عانى يونغ من تجربة مريرة من “المواجهة مع اللاوعي”. فالصور التي كان يراها، والأصوات التي كان يسمعها، أصابته بالقلق من احتمال إصابته بانفصام الشخصية. فراح يكتب كل ما يراه، ويسمعه، في كتاب، وكان غلاف ذلك الكتاب من الجلد الأحمر. امتدت هذه التجربة ست عشرة سنة، يعتبرها يونغ من سني حياته المهمة، وتوفي قبل أن يكتمل ذلك الكتاب، فأودعته الأسرة في أحد مصارف سويسرا حتى عام 2009، حيث وافقت العائلة على نشره باللغتين الألمانية والانكليزية.
هكذا يكون يونغ، بدأت حياته بحلم، وانتهت بحلم! فالأحلام -برأيه- تسهم في صنع العالم الخارجي، وتستشف المستقبل البعيد، وتسوق الإنسان نحو تحقيق ذلك المستقبل! وكأنه يتحدث عن حقائق نفسية، علمًا أن تلك المقولات ما زالت فرضيات على ذمة! فالطريقة التي يتحدث فيها عن الأحلام، فيها الكثير من لغة الأدب الفضفاضة “الأحلام باب خفي في تجاويف النفس، أعمقها غورًا، وأخفاها سرًا، مفتوح على ذلك الليل الكوني من النفس، قبل أن يكون ثمة آنية واعية بزمن بعيد، النفس التي سوف تبقى نفسًا مهما امتد الزمان بآنيتنا الواعية”. هذا الكلام الذي يشبه التهويمات الصوفية، اشتغل عليه يونغ طويلًا، فأصبح الماندالا السحرية بالنسبة إليه.
يُعدّ الكتاب بمنزلة ردة فعل على الحياة الاستهلاكية، والصراعات الطبقية، وتوجه الإنسان الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولى، ومحاولة إلقاء اللوم على الآخر. لقد طرح يونغ فكرة أن حقبة العقل والريبة التي دُشنت في الثورة الفرنسية، قد قمعت الدين واللاعقلانية؛ وأدى هذا بدوره إلى عواقب خطيرة، أدت إلى اندلاع اللاعقلانية المتمثلة بالحرب العالمية، ولهذا كان الاعتراف باللاعقلانية -كعامل سيكولوجي- ضرورةً تاريخية، وهذا القبول للاعقلانية هو أحد الموضوعات المركزية في (الكتاب الأحمر).
لقد أدرك يونغ أن المشكلة تبدأ داخل الإنسان، وتنتهي فيه، وأن اللاوعي ليس مادة خاملة، بل هناك من يعيش في تلك الأعماق، وهذا ما جعله يتحول إلى أعماقه باحثًا عن تشخيص مقنع لما أصبح الإنسان عليه. فدرس النفس البشرية من تلك الزاوية التي ما زالت معتمة، وقد أغرته تلك العتمة طويلًا، إلى درجة أنه كتب في يومياته: “كانت تلك السنوات التي حدثتكم عنها، حين كنت أتعقب الصور الداخلية، أهم وقت في حياتي. يمكن اشتقاق كل شيء منها. بدأ الأمر في ذلك الوقت، ولم تعد التفاصيل اللاحقة تهمّ كثيرًا. تتألف حياتي كلها من إسهاب ما، انفجر من اللاوعي، وغمرني كجدول غامض، وهدد بتحطيمي. كانت تلك المواد تكفي لأكثر من عمر واحد. كل ما حدث لاحقًا، كان مجرد تصنيف خارجي وإسهاب علمي”. كان يونغ يظن أن جزءًا من الإنسان يعيش في الحاضر، والجزء الآخر مرتبط بالقرون الغابرة، وقد اشتغل على تفريغ اللاوعي للوصول إلى تأكيد ذلك.
مع الصفحات الأولى للكتاب الأحمر، نلاحظ تأثر يونغ بكتاب نيتشه الشهير: (هكذا تكلم زرادشت). وقد اعترف حول ذلك بقوله: “فجأة أمسك الروح بي وحملني إلى بلاد صحراوية، قرأت فيها زرادشت”. أيضًا، يبدو واضحًا تأثره بمؤلف (الكوميديا الإلهية) لدانتي، إلى حدّ أنه ساعد في تشكيل بنية العمل. يصف (الكتاب الأحمر) هبوط يونغ إلى الجحيم. وكما فعل نيتشه في “زرادشت”، قسم يونغ المادة إلى سلسلة، لكن بينما أعلن زرادشت “موت الله”، وصف الكتاب الأحمر “ولادة الله” من جديد في الروح. استطاع دانتي استخدام علم أكوان راسخ، بينما كان (الكتاب الأحمر) محاولة لتشكيل علم أكوان فردي.
الكتاب الأحمر مخطوط غير منتهي، يمكن ملاحظة ذلك من صفحته الأخيرة التي انتهت بجملة لم تستكمل؛ وهذا ما أثار إشكالًا بعد وفاته، حول اتخاذ القرار بنشره، أو الاحتفاظ به كتجربة شخصية لا تخص الآخرين، في عام 2015 خرجت النسخة العربية إلى النور عن دار الحوار، وقد قام بالترجمة كل من متيم الضايع، ورنا بشّور. ولم تتضمن الترجماتُ الرسوماتِ التوضيحية التي كان قد رسمها يونغ داخل المخطوط الأصلي!
خلاصة القول إنها تجربة قام بها عالم كبير، ومات قبل أن يستكملها؛ من هنا جاءت شهرة الكتاب، ومن عنوانه المثير للفضول، أما مادته العلمية فهي في ذمة علماء النفس، قد يشهدون بها ذات يوم، وقد..
المصدر