on
دارينا الجندي “أسيرة بلاد الشام”
تهامة الجندي
- علينا أن نقف إلى جانب كل حالم بالحرية
“لم يكن من المفترض أن ألتقي ميّ زيادة، هي وُلدتْ عام 1886، وأنا وُلدتُ في سنة 1968. كنت أسمع عنها في طفولتي أنها حبيبة جبران، وأن لديها صالونًا أدبيًا، ثم أُصيبت بالجنون، وكنت ألعب في حديقة مستشفى الأمراض العقلية الذي قبعتْ فيه، وحين كنت أصوّر دوري في ثلاثية لمحطة “إل بي سي”، كان التصوير في قرية “الفريكة”، واكتشفت أن البيت الذي كنت أختبئ فيه، كي أنفرد بنفسي وأدخن، كان بيت أمين الريحاني، وإلى جواره كان البيت الذي وضُعت فيه ميّ، بعد خروجها من المشفى، وفي باريس اكتشفت أن بيتي يقع على مقربة مئة وخمسين مترًا من الفندق الذي نزلتْ فيه، وكنت أمشي كل يوم على ضفاف السين، أصل إليه وأعود. وبت على يقين أن كل المصادفات تأخذني إلى هذه المرأة وتربط قدري بها”.
هكذا بدأت الفنانة والكاتبة دارينا الجندي حديثَها، في حوار أجريته معها حول كتابها الجديد (أسيرة بلاد الشام) الصادر عن “دار غراسّه” ضمن سلسلة (بطلاتنا). يتناول الكتاب سيرةَ الأديبة اللبنانية الفلسطينية المعروفة مي زيادة، باللغة الفرنسية ولقارئ أجنبي؛ وبهذا يكتسب خصوصيته، قلتُ لدارينا، فقالتْ:
**حتى في اللغة العربية لا يوجد الكثير من الكتابات حول ميّ زيادة. كانت الباحثة سلمى حفار الكزبري أكثر من كتب عنها، لكنها تناولتها بمنظور أكاديمي، ومن الصعب العثور على كتاب يتناول حياة ميّ بشكل سردي، بحثت كثيرًا ولم أجد، نحن نقرأ عنها في مناهج التدريس، إنما هل نعرفها حقًا، هل اطلعنا على مؤلفاتها، هل نعرف ما تعرضت له من عذابات؟ أعتقد؛ لا.
*وماذا كتبتِ عنها؟
**في أول صفحتين أحكي عن علاقتي بها، ثم أنتقل إلى ميّ، منذ أن وصلت إلى القاهرة، وأخذت تتذكر بيتها وأخاها في الناصرة، خطوبتها إلى قريبها التي فسختها لأنها شعرت بخيانتها للأدب، واقتناع والدها أن عليها أن تكمل دراستها بدلًا من الزواج. أحكي عن التحاقها بالجامعة كأول فتاة عربية، عن أول محاضرة لها في لبنان وفي مصر، كيف أسست صالونها الأدبي، رسائلها مع جبران، نضالها من أجل حقوق المرأة وتغيير القوانين، كيف كانت تعامل طالباتها، ماذا كانت تكتب في الجرائد، علاقتها بالمثقفين، أحكي عن كل هذه الأجواء التي عاشتها حتى وفاة جبران وأبيها وأمها، ودخولها في حالة حزن فظيع، ثم استقدام أقاربها لها إلى لبنان وحجزها في مستشفى الأمراض العقلية، معاناتها وقرارها أن تبدأ الإضراب عن الطعام والكلام، وتعرضها لأشكال بشعة من التعذيب، من كسر أسنانها لإجبارها على إدخال أنابيب الطعام، إلى سجنها وحيدة في القبو، ثم خروجها من المستشفى وعودتها إلى القاهرة وحتى وفاتها في عام 1941.
*أيّ تلك المحطات كان لها الأولوية في كتابتكِ؟
**تناولت حياة مي في كل مراحلها، لكن الأولوية كانت لمرحلة تواجدها في مستشفى الأمراض العصبية، والمعركة التي خاضتها لاستعادة حقوقها وحريتها. المحطات الأخرى من سيرتها كانت تتمحور وتغذي هذه المنطقة المؤلمة من سيرتها.
*تقولين في كتابك إنها “امرأة قوية أكثر من اللزوم، تُذهل بقدر ما تُقلق بالنسبة للأصدقاء والمقربين منها الذين أدخلوها إلى مستشفى المجانين”. فهل تناولت ميّ بوصفها ضحية المجتمع الذكوري؟
**لا أحب استخدام مفردة الضحية، ولا أعتبر ميّ ضحية، صحيح أن تجربتها كانت قاسية جدًا، لكنها فتحت معركتها ضد من غدر بها وخذلها، وكسبت المعركة في نهاية المطاف. تركيزي كان حول دخولها إلى المستشفى، ما الذي تعرضت له، كيف قاومت وخرجت ووقفت أمام القضاء، علاقتها بمن صمتوا وتركوها لمصيرها، على سبيل المثال صديقها المقرب أحمد لطفي السيد. كان من أهم المدافعين عن حقوق المرأة، ولا سيّما حقها في الإرث، طه حسين، خليل مطران، أنطوان الجميل، عباس محمود العقاد، وغيرهم من أصحاب المعارك الفكرية، كلهم كانوا أصدقاءها، ولم يدافع أحدٌ منهم عنها.
من القلائل الذين سامحتهم ميّ، كان أمين الريحاني الذي ساعدها في الخروج من المشفى، تخبره أنها في الأيام الأولى كانت تقول لنفسها: “المهم أن تتماسكي حتى يصل الخبر لأصدقائكِ لطفي ومطران وطه والعقاد.. هؤلاء فرساني ولن يتركوني في محنتي، لكن الأسابيع والشهور مرت ولم يسأل عني أي منهم، ولم يُفتح باب عليّ قبل مضي أحد عشر شهرًا”. وحين وصلتْ إلى القاهرة، وقرأت خبرًا صغيرًا في جريدة (الأهرام)، أنها عادت وكان في استقبالها حفل من الأصدقاء، تقول: “أين كانوا؟ فتشتُ عن وجوههم أن تطل عليّ، ولم أجد وجهًا أليفًا أعرفه في انتظاري”، بعد ذلك، حين اتصل بها طه حسين، قالت له: عفوًا يا سيد طه، حين كنت أعاني في المشفى لم تأتِ لتطمئن عليّ، الآن أرفض حتى أن أسمع صوتك، وأغلقت خط الهاتف. كنت وأنا أكتب عن تجربتها، أكشف أيضا زيفَ مجتمع المثقفين في العالم العربي.
*كيف تناولتِ الشخصيات البارزة في حياة ميّ، ولا سيّما الشيخ مصطفى عبد الرازق؟
**في حياة ميّ الكثير من الشخصيات، وكل واحدة منها يمكن أن تملأ أكثر من كتاب، لكني اختصرت الكثير منها، إنما قرأت نتاجهم وما كُتب حولهم، وقرأت ما كتبته ميً عنهم أو لهم، بمعنى أني أعدتُ قراءة كل شخصية، وفي الكتاب تجدين علاقتها بالعقاد والجميّل والريحاني وغيرهم. وكانت معركة مصطفى عبد الرازق هي الوحيدة التي اخترتها، فهي معركة ثقافية أدبية بين الرجعيين والتقدميين، إن أردت، احتدمت في صالون مي الأدبي، وكانت في باطنها معركة على ميّ بالتحديد، لأن عبد الرازق مات غرامًا بها.
*إلى أي مدى احتلت كتابات مي حيزًا من صفحات الكتاب؟
**قليل جدًا إلا البعض من رسائلها مع جبران، فهذه محطة لا يمكن تجاهلها، وهناك مقاطع أتناول مضمون ما قالته في محاضرة ألقتها أو كتاب أصدرته، لكن لا يوجد اقتباسات من مؤلفاتها أو ترجماتها، تركيزي كان على سرد حياتها، وليس نتاجها الأدبي.
*هل قاربتِ سيرتها من منظور أدبي أم توثيقي؟
**مي تسمح لي أن أفعل أشياء كثيرة وأنا أكتب عنها، أن أسرد قصتها، وأن أخلط حكايتها بحكايتي، وتسمح لي -أيضًا- أن أشتغل على مادة وثائقية مهمة، وأن أبني عليها من خيالي، كي تعيش من جديد وتنبض بالحياة. كل هذه التفاصيل اشتركت في صياغة هذا الكتاب الصغير، وفي بعض المقاطع كنت أشعر بألم حقيقي وأنتحب وأنا أكتبها أو أدققها. قدرنا وإحساسنا بالغربة متشابه. لم يسمحوا لي أن أدفن أبي في بلده سورية، وأنا سأموت في أرض غريبة، وأرمي رمادي في مكان ما، حتى لا أشعر أنْ لا أحدَ سيزورني.
*كانت مي امرأة العواطف العذرية، وأنت مع حرية الجسد، فكيف تفسرين هذه المفارقة؟
**أنا مع حرية المعتقد والدين وكل الحريات الشخصية الأخرى، لكن لا تنسي فارق الزمن بيننا، إضافة إلى إحساسها العميق بالمسؤولية إزاء التيار الذي كانت تمثله، كانت تدرك أنها تحت المجهر، وأن أي خطأ ترتكبه سوف يُلام عليه الكثيرون، ولا سيما النساء، وهي أيضا وُلدت في الناصرة، مهد المسيح، ودرست في مدرسة الراهبات “عينتورة” بلبنان، أمها كانت امرأة متدينة تذهب إلى الكنيسة والقدّاس، وحين أُصيبت ميّ بانهيار عصبي، بعد أن فقدت جبران وأباها وأمها، ذهبت نحو الروحانيات والتصوف، وكانت تجد في الدين ملاذًا لها من قسوة الحياة. نحن من زمنين مختلفين تمامًا، ومن هنا تنبع طرافة هذه العلاقة، تغيّرت الأزمان، إنما الأحكام لم تتغيّر.
*كيف انتهت رحلتكِ مع مي زيادة؟
**حين أنهيتُ عملي، سافرت إلى مصر لأبحث عن الأماكن التي كانت ميّ ترتادها، لم أعثر على أيّ بناية من التي سكنتها، “الكافه ريش” تغيّرت، وفي مقهى “غروبي” لم يعودوا يقدموا المشروبات الروحية، ذهبت إلى المقبرة لأزورها، وقبل ذلك كنت سمعت أن قبرها جميل مغطى بالورد، لكني وجدت أنهم أخرجوها منه ووضعوها في “الجارور” وتحتها وضعوا الجميّل. قال لي حارس المقبرة إنهم فعلوا ذلك لأن زوّارها قلائل، وحين علم أني لبنانية، دعاني لزيارة قبر امرأة من لبنان لا أحد يزورها، وحين ذهبت اكتشفت أنه قبر المغنية لور دكاش، بعدها عدتُ إلى ميّ، لأخبرها أنها هي التي ربحت، ونحن اليوم نتكلم عنها، وأني لا أزال أمشي كل يوم على ضفاف السين الذي كانت تسميه النيل، وأذهب إلى المكان الذي كانت تجلس فيه، وأنها منذ أن أنقذتني لم يفارقني وجهها ولا صوتها، ولم أعد وحيدة.
*في الختام أود أن أسألكِ كيف استقبلت خبر قيام الثورة السورية، وأنتِ في باريس؟
**أنا واحدة من الكثيرين الذين فرحوا جدًا بثورات الربيع العربي، تحديدًا الثورة السورية، على الرغم من أني -القارئةَ لتاريخ الثورات في العالم- أعلمُ أنها تحتاج إلى سنوات طويلة، وأنّ أغلب الثورات تُسرق من أصحابها. حتى الثورة الفرنسية احتاجت إلى قرابة مئتي عام كي تستقر في الجمهورية التي نعرفها اليوم، قبلها دخلت مرحلة الاقتتال واخترعت المقصلة، ومنذ قيام الثورات في العالم العربي كنت أقول (الله يستر إذا وصلت لسورية)، كنت أعلم أن الأنظمة العربية تبدو ناعمة وحنونة مقارنة بنظامنا، وهو لم يكذّب لنا ظنًا، وكنت أتمنى لو كذبنا ولم نرَ ما يحدث اليوم، ولم نشهد الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب السوري، لأنه طالب بالقليل من الحرية.
*وماذا عن دور المثقف في الثورة؟
**أعتقد أن على الفنانين والمثقفين أن يبقوا إلى جانب الحق، علينا ألا نضيّع البوصلة، وأن نبقى مدركين ما الأساس الذي ثرنا من أجله، وما الغاية منه، وعلينا ألا نُؤخذ بالعواطف كي نظل قادرين على التحليل بموضوعية قدر الإمكان، ونظل صوتًا يحافظ على قدر من العقلانية خارج الجنون الذي نعيشه، وأن نقف إلى جانب كل حالم بالحرية.
المصدر