on
عالم هش ومتسارع في انحداره
عمار عيسى
في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الحقبة التي لطخت الملايين بالدماء، قاتلين ومقتولين، ظهرت بذرة خير في هذا العالم المتوحش، ففي 10 كانون الأول/ ديسمبر عام 1948، قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتبنّي “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، الإعلان الذي شكّل مصدر تفاؤل للبشرية، سرعان ما “لُجِمَ” نظرًا للسياق التاريخي آنذاك؛ ودينامية الحرب الباردة وانشغال المعسكرين الفكريين بالتنافس في العالم وعليه، وتبجيل “الأمن القومي” عند قيادات المعسكرين.
اضطرت البشرية لانتظار ثلاثة عقود أخرى (على الرغم من محاولات ناعمة من طبقات اجتماعية وناشطين خلال هذه الفترة للمضي قدمًا)، ثم أعيدت الكرّة في سبعينيات القرن الماضي الذي شكل انحرافًا معياريًا في العالم؛ فلم يعد البحث عن تعريف جامع لـ “المجتمع الدولي” للحفاظ على النظام العام محض الاهتمام فحسب، بل تخطته الإنسانية وأصبح الكلام عن جعل “حقوق البشر” شيئًا مُلزمًا لا “بريستيجًا” يؤخذ فيه حسب الطلب (بداية ظهور المنظمات غير الحكومية عبر الوطنية، وثيقة هلسنكي 1975، منظمة العفو الدولية، جائزة نوبل للسلام 1977، اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب 1984).
تطور المفهوم كثيرًا، وأزهر في ربيع الليبرالية (التسعينيات)، وبدأ شلال معياري لتضمين حقوق الإنسان في صياغة السياسات العالمية، وجعلها بعدًا كاملًا منفصلًا عند صنّاع القرار. طبعًا، تعرض المفهوم للرفض والنقد (خاصة الشيوعي باعتباره يضع دولةً ما تحت المجهر، ويبرر التدخل لتغيير الأنظمة بأجندة رأسمالية) بكثافة، في شتاء حرب العراق والحرب على الجماعات الإرهابية غير التقليدية، والانتهاكات التي رافقتها من تضييق على الحريات والنظم الديمقراطية، بزيادة المراقبة الحكومية على الجمهور، وإلغاء قوانين لها علاقة بحقوق الإنسان، كنقل السجناء مثلًا إلى دول تُمارس التعذيب لانتزاع الاعترافات من المتهمين، أو إعادة العمل بقوانين تم حظرها (الإغراق الوهمي بالمياه أو كيس الرأس)، أو تدشين معتقلات خارجة عن الرقابة والقانون؛ “غوانتانامو” الخارج عن السلطة القضائية. وعلى الرغم من كل ذلك؛ بقي هذا المفهوم بوصفه مجالًا لا يمكن التخلي عنه أو إهماله، مدخلًا لتغيير مأمول في حس العالم “الأخلاقي”، حاول باراك أوباما، في خطاب توليه عام 2008، تثبيت ذلك نظريًا، وبحماسة خطابية رزينة، وكان يُبهر الجميع بأنه “متماش مع روح التاريخ”، بعد أن انحرف عنها سلفه جورج بوش. ولكن للأسف، كانت الهوة بين النظرية والتطبيق واسعة، فاعتمد أوباما سياسات تؤجج الصراع، وخاصة في ثورة سورية المطالبة بالحرية والكرامة، فـ “الصبر الاستراتيجي” و”الإدارة من الخلف” و”دع الأشرار يتقاتلون” و”منع الآخرين من الفعل”، كان بمنزلة “زيت على نار” حرب حصدت من أرواح المدنيين كثيرًا، وفي نهاية حقبة حكمه، كان لا يُمانع ووزير خارجيته بإنجاز تسوية تُشرعن التدخلات الإيرانية وانتهاكها لحقوق البشر؛ ليضيف لإرثه المثير للجدل، اتفاقًا نوويًا “يجلب السلام والطمأنينة للعالم” كما يرى.
لاكتمال صيرورة الانحطاط، جاء ترامب، وأهم صقوره وزير الدفاع جيم ماتيس، ليقطع الطريق؛ ويُنهي جدل “المعيارية وأخلاقيات الحروب” وحواراتها، وليقول: “سيسقط مدنيون في حربنا على الإرهاب”. يبدو وكأنه لا يكترث حتى ببذل قليلًا من الجهد في حمايتهم، إن لم يكن سقوطهم، بحسب وجهة نظره “أداة ردع”. نعم، يسقط مدنيون في الحروب، ولكن هذه الحتمية والتبريرية في سقوطهم، هي العار، في عالم يبدو أنه أسوأ مما يتوقعه الواقعي، وصدمة للكوزموبوليتاني، وجعله في الحضيض على يد “دولة العالم”.
بعد ذلك، ينسحب رئيسه أيضًا من “اتفاقية المناخ” الذي انخرط فيها سابقه أوباما، ضاربًا بالواجب الأخلاقي تجاه العالم عُرض الحائط. أوروبا هي الأخرى تُعاني، وتُقطّب حاجبيها بوجه أميركا ترامب، ومستشارتها، تعض شفتيها، وتنظر بعتب، وتترقب من حليفتها التقليدية أميركا، أن تنطق الجوهرة، جوهرة حمايتها والالتزام بمبدأ الدفاع عن حلف (الناتو) العريق بمادته الخامسة، ويتغاضى ترامب. ثم عولت المستشارة على مؤسسات الدولة العميقة، بعد أن تغيّر ترامب “حلف الناتو لم يعد بائدًا”، وخاب ظن المستشارة وأملها؛ فـ “زمن الاعتماد على الغير قد ولى”، كما قالت.
يتقصد ترامب التغاضي، يريد أن يبتز أوروبا “سأحميكم من روسيا ونزوعها الإمبراطوري، لكن ليس قبل جباية المال والديون المترتبة”، لم يعد مقبولًا “ركوبكم المجاني” على قوتنا وردعنا النووي والتزامنا حمايتكم، دون المساهمة. إذ ترى بعض دول أوروبا أن الحماية، على الطريقة الأميركية، غير مرغوب فيه؛ تحدياتها العديدة الديموغرافية والاقتصادية كان آخرها مشكلة اللاجئين الذين يريد ترامب حتى منعهم من الوصول إليه، وطرد آخرين إن تطلّب الأمر، والمشكلة الاقتصادية في بعض الدول كدول (البلطيق) التي تعيش على مساعدات الاتحاد الأوروبي، فضلًا على أنه قد تُنفق دول أوروبية أخرى على المساهمة في دار للمسنين، وتراه أكثر نفعًا من المساهمة في الحلف، وعدم ثقة البعض الآخر بأميركا التي ليست دومًا دولة “كانطية” في مفاوضاتها وجلب مصالحها.
يرفض ترامب “الركوب المجاني”، وأوروبا بعيدة نوعًا ما عن فرز فضاء عسكري وسياسي موحّد، تحافظ فيه على مصالحها. ماكَرون هو الآخر، يريد أن يُحيي فرنسا، ويعيد لها “دورها العالمي”، يقترب من ألمانيا ليقود الاتحاد الأوروبي، ويُعلن بجانب بوتين أنه “سيتدخل بمفرده إن مات أحد خنقًا بالكيماوي في سورية”، وينخرط أكثر في أزمات العالم وآخرها أزمة الخليج، يبحث عن الهيبة والاحترام، في وقت أضحت فيه المخرجات الجماعية والمنفعة العامة على المحك، لا يتنازل لترامب حتى رمزيًا بمصافحة، وصدم بالانسحاب من اتفاقية تغيير المناخ، عاد وعوّل على المؤسسات النيوليبرالية الأميركية، ودعا علماء أميركا، تكلم بلغتهم، شجعهم وشجعوه.
بالطبع، يقف بوتين في المسافة الجديدة بينهما، يُشجّع ترامب ويشد أزر ميركل، ويوهم نفسه بأنه يخوض حربًا باردة، عكس القديمة، علّ هذه تُشكّل له مدخلًا للقيصرية. استيقظ معه أيضًا منظروه الماركسيين بجملة “ألم نقل لكم”، هذا نتاج مؤسساتكم الدولية وتكريسها الـلامساواة الاقتصادية، بدأت ثورتهم المأمولة، بدأ تعظيم الفرد قبل أن يستلم، ماري لوبان. “داعشي” أرعن يدهس في مكان ما فتجلد “التعددية الثقافية” ولا ينتقد قيصرهم الحالم الذي يبرم معهم اتفاقات في سورية.
الصين الشعبية الصاعدة من البوابة الاقتصادية الكولونيالية، بخاصة في دول إفريقيا والشرق الأوسط، تُمارس سياستها الحمائية الاقتصادية وتُغرِق الآخرين بصادراتها، وتغض النظر عن مشكلات العالم، فلا تدعم اللاجئين كما يجب، ولا تتدخل في تنمية العالم بالمشاريع، وتسابق الآخرين على بحرها الجنوبي وطريق حريرها.
نظام عالمي في خطر، فهل صرنا أقرب من أي وقت مضى، من عالم هوبزي، فيه حلقات لا متناهية من العنف، أم أنها غيمة في سماء النيوليبرالية، وسحابة صيف زاد من دكونتها حنق اليمين الشعبوي ضيق الأفق، على تأثيرات العولمة السلبية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؟!
أخيرًا، هذا العالم أصبح مليئًا بشواهد التراجيديا؛ مما يُنبئ يقينًا بسقوط مصطلحات ومفاهيم عملاقة، فحقوق الإنسان من الأفضل أن تُسمّى “حروق الإنسان بالنابالم والفوسفور الأبيض”، و”مفهوم الانتظام” ضمن “مجتمع دولي فوضوي”، المفهوم الذي انتقل منذ فترة إلى “عدم الانتظام ضمن مجتمع دولي فوضوي”، قد يجعلنا أقرب أكثر من “الفوضى في عالم فوضوي”، وما يُسرّع هذا الهبوط هو ما يحدث في سورية، بوصفها آخر مسمار في نعش الأخلاق، بينما نستمر في معاناتنا، سننتظر ارتطام وارتدادات هذا العار كله.
المصدر