on
نيويورك تايمز: كيف أنشأت وكالة الاستخبارت المركزية الأمريكية قنواتٍ خلفيةً سريّةً لاستعادة الرهينة الأمريكي من النظام السوري؟
في الأيام الأولى من إدارة ترامب بدأ مسؤولو الأمن القومي في البحث عن سبل لتحرير “أوستن تايس”، وهو صحفي أمريكي وضابط سابق في البحرية، يُعتقد أنه محتجز من قبل الحكومة السورية حينما كان في مهمة منذ ما يقارب خمس سنوات. ومنذ اختفائه أثارت حالته الذعر في صفوف المحققين والدبلوماسيين.
وبسبب حساسية الوضع قرر مسؤولو البيت الأبيض إنشاء قناةٍ سريّة، لكن نظراً لتدهور العلاقات بين الولايات المتحدة وسوريا، كانت الخيارات محدودة. وفي أوائل شباط/فبراير جمعت مكالمة هاتفية بين مدير الاستخبارات الأمريكية “مايك بومبيو”، ورئيس جهاز المخابرات في جهاز الأمن القومي السوري “علي مملوك”، علماً بأنه متّهمٌ بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان خلال الحرب الأهلية السورية، وقد فرضت عليه الولايات المتحدة العديد من العقوبات. وكان هذا الاتصال أعلى مستوى اتصالٍ بين الحكومتين منذ سنوات.
على الرغم من أن المكالمة التي جمعت “بومبيو” بـ “مملوك” دفعت إلى مزيد من الاتصالات، وبعثت الأمل في إمكانية إطلاق سراح “تايس”، لكن العملية ألغيت بسبب الهجوم الكيميائي الذي شنته الحكومة السورية في شمالي البلاد في المناطق التي يسيطر عليها المعارضون، في نيسان/أبريل، والضربة الصاروخية الأمريكية التي أعقبت ذلك. وهذا وفقاً لما أفاد به عدة مسؤولين سابقين في الولايات المتحدة، رفضوا الكشف عن هويتهم لأن الجهود المبذولة لتحرير “تايس” يجب أن تظلّ سرية.
والجدير بالذكر أن محنة الأميركيين المحتجزين كرهائن من قبل الحكومات الأجنبية قد حظيت بمزيد من الاهتمام منذ وفاة “أوتو وارمبير”، وهو طالبٌ جامعي يبلغ من العمر 22 عاماً من أوهايو، تمّ اعتقاله في كوريا الشمالية في يناير/كانون الثاني من سنة 2016.
وكانت أعتى حالات الاحتجاز تشمل دولاً، على غرار سوريا، لا تجمعها بالولايات المتحدة علاقاتٌ دبلوماسية؛ ممَّا يعطي المسؤولين الأميركيين نفوذاً ضئيلاً للتفاوض.
وعلى خلفية ذلك، يظهر تواصل إدارة ترامب مع سوريا إلى أي مدى كانت واشنطن على استعداد لتأمين الإفراج عن الأميركيين المحتجزين في الخارج. وفي هذا الشأن، أفاد “دانيال روسيل”، مساعد وزير الخارجية في عهد الرئيس “باراك أوباما”، قائلاً: “أحياناً ينجح السحر، وأحياناً لا يفعل ذلك”.
وبينما تمت محاكمة “وارمبير”، وعرفت أسرته منذ الوهلة الأولى أنه كان محتجزاً لدى حكومة كوريا الشمالية، كانت قضية “تايس” معضلةً بحدّ ذاتها. وتعتقد الولايات المتحدة أن الحكومة السورية تحتجزه، ولكن ليس لديها أيّ دليلٍ على ذلك. وفي المقابل تصرّ سوريا على أنه لا دراية لها بما حدث له. وفي هذا الشأن قال نائب وزير الخارجية “فيصل مقداد”، لوكالة “أسوشييتد برس” العام الماضي: “إن أوستن تايس ليس في يد السلطات السورية، وليس لدينا أي معلومات عنه”.
والجدير بالذكر أن عائلة “تايس” رفضت التعليق على الموضوع، على غرار وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الاتحادي. غادر “تايس”، وهو قائد سابق في البحرية من تكساس، إلى سوريا قبل إنهائه سنته الأخيرة في كلية الحقوق بجورج تاون. وقد سافر إلى المنطقة، وكان يعمل لحساب إحدى وسائل الإعلام الخاصة عندما اختطف في آب/أغسطس من سنة 2012.
وبعد شهرٍ ظهر “تايس” وهو معصوب العينين في شريط مصوّر، يظهر بجانبه رجال ملثمون يحملون بنادق هجومية، وقد كان واضحاً عليه الخوف والذعر وهو في حالة مزرية. ومن ثمّ تكلّم بضع كلماتٍ بالعربية واختفى.
ويعتقد مسؤولون أمريكيون سابقون أن حكومة “بشار الأسد” اختطفت تايس، وأن التسجيل المصوّر كان مجرد خدعة لإلقاء اللوم على المسلحين وتحميلهم مسؤولية خطفه.
على الرغم من علاقة العداء بين الولايات المتحدة وسوريا، إلا أن هناك العديد من الدوافع التي تجعل الحكومة السورية تتواصل مع مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى. وقبل الحرب الأهلية كانت هناك عدة اتصالات من هذا النوع، وخير مثال على ذلك الاتصال الذي جمع “مملوك” بـ “دانيال بنيامين”، الذي يعمل منسقاً لمكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية في فترة إدارة “أوباما”، سنة 2010.
ووفقاً لدبلوماسيين فإنه حتى بعد اندلاع الحرب واعتماد الولايات المتحدة سياسة الدفع للإطاحة بالأسد، كان المسؤولون السوريون منفتحون على التواصل مع الأمريكيين. وفي شأنٍ ذي صلة قال السفير الأمريكي لدى دمشق في إدارة أوباما، “روبرت فورد”: “إن الحكومة السورية ترغب في تقليص حجم عزلتها”. كما أضاف: “في الواقع إن المسؤولين السوريين مجموعةٌ من الأشخاص المرنين، فهم على استعداد دائم للتواصل معنا، وهذه هي طريقة عملهم”.
بعد الانتخابات قرر المسؤولون الأمريكيون إحاطة “جاريد كوشنر”، صهر ترامب و”ستيفن بانون”، الذي أصبح كبير الاستراتيجيين، فيما يتعلّق بالجهود المبذولة لجلب “تايس”. لكن بانون لم يعر المسألة أيّة أهمية، وأثار تساؤلاتٌ حول سبب توجهه إلى سوريا في المقام الأول، وهذا وفقاً لما ذكره مسؤولون سابقون.
وبعد تولي ترامب منصبه مضت الإدارة قدماً في مهمة استرداد “تايس”، ممَّا نتج عنه مكالمة هاتفية جمعت بين “بومبيو” و”مملوك”، تطرقا فيها إلى مسألة “تايس”. وقال مسؤولون سابقون إنه ليس من الواضح ما قاله الرجلان بالضبط، لكن الولايات المتحدة اقترحت لاحقاً على “مملوك” أنّ تحرير “تايس” سيقطع شوطاً طويلاً في تشكيل الإدارة الأمريكية لسياسة سوريا الأوسع نطاقاً.
في الحقيقة كانت هذه الطريقة الوحيدة للإفراج عن “تايس” وإعادته لموطنه. علاوةً على ذلك حاول مسؤولو الإدارة فهم كيف يمكن للسوريين تفسير اختفاء “تايس” طوال هذه المدة. وبعد أن تحصّل الأمريكيون على دليلٍ يبرهن أن “تايس” ما يزال على قيد الحياة، ظنّ السوريون أنهم سيعلنون عن عثورهم عليه وسيضعون روايةً لشرح كيفية اختطافه، لكنه سيحاكم على انتهاكه لقوانين الهجرة في البلد ثم يعفى عنه من قبل الأسد. ومن ثم وبعد أن يهبط “تايس” على الأراضي الأمريكية من المتوقع أن يدعو ترامب نظيره الأسد للتفاوض.
لكن هذا لم يحدث مطلقاً، وأشار بعض الدبلوماسيين السابقين إلى التعليق الذي نشره “نيكي هالي”، السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة في آذار/مارس، الذي قال إن الولايات المتحدة لا تعتبر الإطاحة بالأسد أولوية. كما أخبر هالي الصحفيين “نحن نقوم بالفرز ومن ثم اختيار المعارك التي سنخوضها. وعندما نعيد النظر في هذه المسألة فإننا بذلك نغير أولوياتنا. في الواقع أولوياتنا لا تفرض علينا أن نجلس ونصب جل تركيزنا على تنحية الأسد”.
وقال دبلوماسيون سابقون إن تعليقاته كانت غير عادية. وقد أضعفت الإدارة موقفها التفاوضي من خلال إعطاء الحكومة السورية شيئاً تريده؛ ألا وهو موافقة الرئيس الضمنية على الأسد، دون المطالبة بأي شيء في المقابل. وفي هذا الإطار قال “جيمس أوبراين”، المبعوث الرئاسي الخاصّ السابق لشؤون الرهائن في إدارة أوباما: “إن الإدارة قالت إن الأسد يمكن أن يبقى في السلطة، ولكن لم تحصل على أي شيءٍ في المقابل. عموماً لا يجب الإدلاء بهذا البيان إلا عقب استرداد أوستن”.
من جانب آخر قال “أندرو تابلر”، وهو زميلٌ بارزٌ في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إنه سيكون من الصعب إخراج “تايس” من سوريا، كما أن الأحداث الأخيرة جعلت الأمر أكثر صعوبة. وقال تابلر: “ما يطلبه النظام هو أن نتجاهل ما يفعلونه”، مشيراً بذلك إلى الهجوم الكيميائي. كما أضاف: “إنها صفقة كبيرة، وليس هناك من طريقةٍ لتتجاهل بها الولايات المتحدة هذه الإجراءات”.
ويشتبه مسؤولون أمريكيون في أن “مملوك” والجنرال “بسام الحسن”، مستشار الأسد، يعرفان مكان “تايس”. وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة فرضت على “الحسن” أيضاً عدة عقوبات.
في العام الماضي توصل مجتمع الاستخبارات الأمريكي في تحليلٍ سريّ إلى أن “تايس” ما زال على قيد الحياة، وذلك استناداً إلى تقرير يفيد بأنه قد شوهد في مستشفى في دمشق، وهو يتلقى العلاج من الجفاف. عموماً “تايس” ليس المواطن الأمريكي الوحيد المحتجز في سوريا، حيث اختطفت القوات الحكومية “كيفن باتريك داويس”، وهو مصورٌ مستقل من سان دييغو، سنة 2012. في أواخر سنة 2014، اعترف السوريون باعتقال “داويس”، ثم أطلق سراحه في نيسان/أبريل 2016 لأسباب صحية.
في بعض الأحيان سعت الحكومة الروسية، المتحالفة مع سوريا، لإطلاق سراح “تايس” و”داويس” وغيرهما من المحتجزين في سوريا ممَّن لهم علاقات مع الولايات المتحدة. وفى محادثات مع مسؤولين أمريكيين اقترح الروس أنهم قد يكونون قادرين على المساعدة مقابل الإفراج عن الروس المحتجزين فى الولايات المتحدة. كما طرح الأميركيون فكرة تحرير جاسوسٍ روسيّ مقابل إعادة “تايس”، إلا أن المسؤولين الروس لم يردوا على هذا العرض.
في نهاية المطاف خلُص المسؤولون الأمريكيون إلى أن الروس لا يعرفون مكان “تايس” أو من يحتجزه.
بالإضافة إلى ذلك ما يزال العديد من الأمريكيين محتجزين في إيران، بمن فيهم أبٌ مسنّ وابنه؛ بالإضافة إلى الضابط السابق لدى مكتب التحقيقات الاتحادي ووكالة المخابرات المركزية “روبرت ليفنسون”، الذي اختفى في جزيرة “كيش” سنة 2007. ولا يزال ثلاثةٌ آخرون على الأقل محتجزين في كوريا الشمالية. ويخشى المسؤولون من أن تتمكن الحكومة هناك من اعتقال المزيد.
في المقابل توقفت إمكانية تحرير “تايس” في نيسان/أبريل، بعد أن أطلقت الحكومة السورية العنان لهجوم الغاز على المدنيين؛ ممَّا أسفر عن مقتل العشرات من الرجال والنساء والأطفال. في الأيام التي تلت ذلك أمر ترامب بشن هجوم على القاعدة الجوية السورية التي استخدمت لتنفيذ الهجوم الكيميائي.
وبناءً على كل المعطيات المذكورة آنفاً، صرح ترامب في مقابلة أجريت معه مؤخراً بأن الأسد “حقاً شخص شرير”. ولم يتفاقم الوضع إلا في الأيام الأخيرة، حيث أسقطت الولايات المتحدة طائرةً مقاتلةً سوريةً. علاوةً على ذلك، قال تابلر إن الوقت ليس صحيحاً للتوصل إلى اتفاق بشأن “تايس” الذي سيبلغ من العمر 36 سنة في آب/أغسطس. كما أضاف: “هذا أمر محزن لأوستن تايس وعائلته. يود الجميع لو كان الأمر مختلفاً، لكن هذا مجرد واقع مرير”.
الكاتب: آدم جولدمان
الصحيفة: نيويورك تايمز
المصدر