إيران الفارسية تتلطى وراء إيران الشيعية


مركز حرمون للدراسات المعاصرة

 

المحتويات

مقدمة

أولًا: عودة الإمبراطورية البائدة

ثانيًا: الاستفادة من الفوضى

ثالثًا: الديني والقومي             

رابعًا: نتائج خطرة

خامسًا: أطماع مستمرة

سادسًا: نفوذ غير مستقر

سابعًا: خاتمة

مقدمة

أعلنت إيران عودة الإمبراطورية الفارسية، وقالت إنها سيدة العراق وأفغانستان واليمن وسورية والبحرين، ولم تتردد في تهديد العرب باستعدادها لسحقهم إن لم يرضخوا لـ (إيوان) كسرى الجديد، هذه الصراحة الإيرانية أكّدت -من دون مواربة- البعد القومي الفارسي للمشروع الإيراني، وفسّرت الإصرار الإيراني على التدخّل في شؤون دول الجوار لتخريبها طوال عقود.

أولًا: عودة الإمبراطورية البائدة

في نهاية أيار/ مايو الماضي، أعلن وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان، أن العراق بعد عام 2003 «أصبح جزءًا من الإمبراطورية الفارسية، ولن يرجع إلى المحيط العربي، ولن يعود دولة عربية مرة أخرى»، واستطرد بلهجة فوقية موجّهًا كلامه إلى العراقيين العرب «على العرب الذين يعيشون فيه أن يغادروه إلى صحرائهم القاحلة التي جاؤوا منها، من الموصل وحتى حدود البصرة، هذه أراضينا وعليهم إخلاؤها».

لم يكتف قائد القوة الجوية السابق للحرس الثوري الإيراني بذلك، بل هدد العرب عمومًا، وقال إن قوات الحشد الشعبي الشيعي في العراق، الموالية لإيران «ستُسكت أي صوت يميل إلى جعل العراق يدور حول ما يُسمّى (محيطه العربي)، لأنه عاد الآن إلى محيطه الطبيعي الفارسي»، وحذّر من أن إيران «وصلت إلى مرحلة تُصمّم فيها الصواريخ البالستية ذات المدى 3 آلاف (كم) وتُنتج حاجتها منها»، وختم «لقد عدنا دولة عظمى كما كنّا سابقًا، وعلى الجميع أن يفهم هذا، نحن أسياد المنطقة، العراق وأفغانستان واليمن وسورية والبحرين عما قريب».

دهقان، المقرب من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، صاحب السلطة السياسية والعسكرية والدينية العليا في إيران، لم يتمالك هذه المرة أعصابه، وعبّر في جوهر تصريحه عمّا يدور داخل أروقة الحكم ودهاليزه في طهران وقُمْ، وكشف الاستراتيجية الحقيقية للقومية الفارسية التي تسيطر على المشروع الإيراني الذي كثيرًا ما حاولت إيران إلباسه لبوسًا مذهبيًا شيعيًا.

تصريحات الجنرال الإيراني، في الحقيقة، ليست جديدة تمامًا، بل هي استمرار لما قاله علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني، في الثامن من آذار/ مارس 2015، الذي أعلن أن إيران «أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حاليًا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي».

وقال أيضًا إن «جغرافيا إيران والعراق غير قابلة للتجزئة، وثقافتنا غير قابلة للتفكيك، لذا إما أن نقاتل معًا أو نتحد»، وذهب بدوره إلى أبعد من العراق وحدوده وقال «منطقة الشرق الأوسط كلها إيرانية، وسنقف في وجه التطرف الإسلامي والتكفير والإلحاد والعثمانيين الجدد والوهابيين والغرب والصهيونية».

يونسي، الذي كان رئيسًا لوزارة الاستخبارات والأمن القومي الإيراني حتى عام 2005، كان يُشير إلى نيّة إيران في استعادة زمن الإمبراطورية الفارسية الساسانية التي أسست قبل الإسلام، وكان الفرس عمادها، واستمرت أكثر من أربعة قرون، ووضعت محاربة الخلافة الإسلامية بين استراتيجياتها في مرحلة من مراحلها المتأخرة، وسيطرت في أوجها على أجزاء من أرمينيا وأفغانستان وباكستان وتركيا والعراق، واجتاحت بلاد الشام وجعلت المدائن عاصمة لها، ثم استولت على بيت المقدس ومصر، وهزمها هرقل روما في آسيا الصغرى واستعاد منها سورية ومصر وهزمها هزيمة ساحقة قرب أطلال نينوى، وفي مرحلة لاحقة أجهز العرب المسلمون على ما بقي من أطلال هذه الإمبراطورية بعد ضعفها.

هذا غيض من فيض من تصريحات المسؤولين الإيرانيين التي تؤكد النيات الفارسية القومية الاحتلالية التي تُهيمن على استراتيجية الدولة الإيرانية، وتحمل تفسيرات واضحة للمشروع الإيراني التوسعي، وكذلك تفسيرات للحروب التي شنّتها أو دعمتها أو أشعلتها، أو حاولت إشعالها، في أنحاء كثيرة من المنطقة العربية، كالعراق وسورية واليمن والبحرين، والميليشيات العسكرية الطائفية التي أنشأتها وغذّتها مذهبيًا وشجّعتها على ارتكاب جرائم حرب في أكثر من مكان، وعلى رأسها (حزب الله) اللبناني، وعشرات الميليشيات المذهبية العراقية.

قبل ثلاث سنوات ونيّف، وتحديدًا في شباط/ فبراير 2013، بعد نحو سنتين ونصف من انطلاق الثورة السورية، قال رجل الدين الإيراني مهدي طائب، رئيس مقر (عمّار الاستراتيجي) لمكافحة الحرب الناعمة الموجهة ضد إيران، إن سورية «هي المحافظة الإيرانية رقم 35»، وأضاف «إن هاجمَنا العدو بغية احتلال سورية أو الأهواز، الأَوْلى بنا أن نحتفظ بسورية»، وبذلك منح أهمية استراتيجية قصوى لسورية أكثر من أهمية إقليم (الأهواز) العربي المحتل، الذي يضم 90 في المئة من حقول النفط الإيرانية.

وبعد ذلك بأشهر، أعلن الحرس الثوري الإيراني، استعداد إيران لإرسال 130 ألفًا من عناصر قوات التعبئة (الباسيج) إلى سورية، وتحدث عن تأسيس (حزب الله السوري) ليكون ذراعًا للحرس الثوري الإيراني، كما يفعل نظيره في لبنان (حزب الله اللبناني)، ونظيره العراقي (ميليشيات الحشد الشعبي).

تسمح تصريحات دهقان ويونسي وغيرهما، بالاستنتاج بأن العامل القومي الفارسي يطغى في حقيقة الأمر على العامل الديني المذهبي في المشروع الإيراني، فالمسؤولون الإيرانيون يريدون فتح العالم مرة أخرى، والسيطرة على آسيا، أوسطها وغربها، لإحياء إمبراطورية، حكمت وصالت ثم بادت، ويستخدمون لذلك أساليب التدخل المباشر وغير المباشر كلها، السياسي والعسكري والديني والأيديولوجي، ويأملون في أن يستطيعوا تغيير التاريخ والديموغرافيا والمذاهب، وإرساء وعي تاريخي جديد لسكان المنطقة.

ثانيًا: الاستفادة من الفوضى

ما ورد، ليس اتهامات للسياسة الإيرانية، بقدر ما هو توصيف، فلإيران -وفق مؤرخين وسياسيين- تاريخ طويل من الاستفادة من الفوضى، ولم يكن لها تاريخ من العلاقات الطيبة مع جيرانها، فقد استفادت إيران، إلى حد بعيد، من حرب الخليج الثانية وفوضاها، وسيطرت على العراق، كما أنشأت (حزب الله) اللبناني خلال فوضى الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينيات من القرن الماضي، وعملت على التغلغل في المجتمع السوداني في مرحلة تمرد الجنوب ثم انفصاله عام 2011، وحاولت نشر التشيّع في مصر وبعض دول أفريقيا مستغلّة الوضع الاقتصادي المتردي وهيمنة دكتاتوريات على الحكم، وأسست في العراق طبقة حاكمة فاسدة، سياسية ودينية وعسكرية، وميليشيات طائفية وثّقت بعض المصادر الحقوقية عددها بنحو 75 ميليشيا، وذلك كله خلال فوضى الغزو الأميركي للعراق، وقد استغلت الفوضى الأفغانية، فدعمت طالبان وزوّدتها بالسلاح لمحاربة قوات الحكومة وادّعت عكس ذلك، ودعمت قياديي تنظيم (القاعدة) المصنف إرهابيًا في العالم كله، واستضافت بعضًا من قيادييه لديها وما زالت، واستغلت الخلافات السياسية في البحرين وسعت لتحويل الاحتجاجات المطلبية إلى حرب أهلية، واستخدمت الحوثيين في اليمن وزوّدتهم بالسلاح، وشحنتهم بالأيديولوجيا المذهبية لتُشعل حربًا ما زال سعيرها يحرق جنوب الجزيرة العربية، وكذلك فعلت في سورية حين دعمت حكمًا طائفيًا شموليًا فاسدًا، وتسببت معه بتدمير سورية وتهجير سكّانها والقضاء على ماضيها وحاضرها، وجنّدت ميليشيات عسكرية بالعشرات لتعيث فسادًا في البلد.

تحلم إيران بإعادة تأسيس الإمبرطورية الفارسية، وهو حلم أهم من المشروعات السياسية والأيديولوجيات الدينية التي تستخدمها أدوات للوصول إلى هذا الهدف، وتُغطي الحالة القومية الفارسية بالحالة المذهبية الشيعية، لتمرير مشروعها الذي لا يمكن أن يكون مقبولًا إقليميًا ودوليًا.

بعد الثورة الإيرانية عام 1979، بدأت إيران بتصدير ثورتها، مستندة إلى رغبة الإمام الخميني وحلمه الذي كان يختزن تاريخًا من الصراع العربي – الفارسي، وهو تاريخ مليء بالحزن والغضب بالنسبة إلى الفرس، وقامت استراتيجيته على رفض الخرائط الراهنة في ذلك الوقت، وخطط نظامه لأن تكسب إيران مواقع نفوذ جديدة، بتغيير الحدود، أو باستتباع الأنظمة السياسية، أو من خلال إشعال حروب بين دول المنطقة.

تميزت الثورة الإيرانية بوصول رجال الدين الشيعة المحافظين إلى الحكم، وروّجت وسائل الإعلام الإيرانية، والمسؤولون كلهم، السياسيون والدينيون، لفكرة أن الطائفة هي الأساس لا القومية، فاستنهض الحكم الديني الجديد الروح الطائفية عند شيعة المنطقة، في العراق ولبنان والبحرين واليمن وغيرهم، وروّجوا لولاية الفقيه، ودفعوا بالوسائل كلها إلى أن تكون إيران المركز الإسلامي الشيعي العالمي الجامع لهم، واستخدموا المال السياسي والمساعدات والترويج المذهبي والاختراق المجتمعي لإنجاح هذه الفكرة، ولم تهتم إيران كثيرًا بالتنافس مع النجف العراقية لتزعّم المركز الشيعي العالمي لأنها تستفيد من النجف ونفوذه على الشيعة العرب أيضًا.

لم تُفصح إيران، الخمينية والخامنئية، عن هدفها القومي الأساس، ربما خشية أن يؤثر تغيير الخرائط قوميًا فيها، واحتمال استخدامه ضدها، فصحيح أن نحو 55 في المئة من الشعب الإيراني هم من أصول غير فارسية، إلا أن هناك شعوبًا وقوميات أخرى تُمثّل 45 في المئة من الشعب الإيراني، ما يجعل تغيير الخرائط خطرًا قد يهدِّد إيران من الداخل.

سعت إيران عبر (تصدير الثورة) وتجنيد شيعة المنطقة لكسب مواقع نفوذ داخل دول الجوار، وساهمت في إقامة أنظمة سياسية تتبنى الرؤية الإيرانية في الحكم، وعملت على استتباع أنظمة سياسية مأزومة، وشدَّدت على عدائها لأميركا لاستقطاب أنظمة تدّعي الاشتراكية ومعاداة الإمبريالية، واشتغلت على تأليف أحزاب سياسية شيعية وميليشيات طائفية شيعية عسكرية مسلّحة، مهمتها إحداث البلبلة والتهام الدول والسيطرة عليها بالاستفادة من البعد الطائفي ما أمكن، وساندت قوى وحركات وأحزابًا إسلامية سنّية وناصرتها بحجّة دعم (المقاومة) ضد “إسرائيل”، مثل (حماس) و(الجهاد الإسلامي)، وكردستان العراق (حزب الاتحاد الوطني ـ طالباني) ومصر (الإخوان المسلمين)، والسودان ونيجيريا (بوكو حرام) وطاجاكستان وأوزبكستان وتركيا (حزب الله التركي وحزب العمال الكردستاني)، ذلك كله لتحقيق المرامي القومية غير المُعلنة، المتمثلة بإحياء أمجاد الدولة الصفوية، المبنية أساسًا على تفوق العرق الفارسي على العربي وغيره من الأعراق التي تُؤلف الدولة الإيرانية، وهذه الاستراتيجية عبّر عنها الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي قال «لقد خلقنا عشر إيرانات خارج إيران».

ثالثًا: الديني والقومي

شبّه الإمام الخميني سلطة الفقيه بسلطة النبي، بل وتتعداها، وعدّ آية الله الخامنئي نفسه ممثل الله على الأرض، والفقيه المعصوم، وحاولا بذلك إلغاء العقبات التاريخية والدينية التي يمكن أن تواجه دولتهما المأمولة، وساهما في إرساء المذهب الشيعي بوصفه قوة سياسة وعسكرية، وسخّرا قوة دينية لحمل مشروعهما الفارسي القومي.

في وقت سابق، تصالحت إيران الخمينية مع ماضيها الإمبراطوري الفارسي، وتحديدًا في أيام حكم الرئيس الإيراني علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي زار (برسيبوليس) أو (مدينة الفرس)، وأكّد العمق التاريخي والاستراتيجي للإمبراطورية الفارسية، داعيًا الإيرانيين إلى الاعتزاز بهذا التاريخ والسعي لإحيائه.

حاولت السلطة الإيرانية تصوير ولاية الفقيه (حداثية)، وتصلح علاجًا لعلمنة المجتمع، وفي الوقت نفسه، استطاعت عبرها لملمة شيعة المنطقة ضمن مرجعية (رجعية) واحدة، مباشرة وواضحة، تحمل في واجهتها همًّا دينيًا وفي عمقها همّا فارسيًا قوميًا متعصبًا، وجرى ذلك مقابل تشتّت سنّي وضياع لمرجعياته، ساهمت فيه إيران مساهمة كبيرة بدعم التيارات السنّية المتشددة (حركة حماس والجهاد الإسلامي وغيرها) والمتطرفة (طالبان وتنظيم القاعدة وغيرها).

عملت إيران أيضًا، خلال العقد الأخير خصوصًا، على نشر التشيّع في أكثر من بلد عربي، ولاقت دعوتها دعمًا من بعض الأنظمة، كنظام حافظ الأسد، ومن بعده نظام بشار الأسد، وقدّمت تسهيلات ومكافآت مجزية لمن يتشيّع، كالطبابة المجانية والتعليم العالي في إيران إضافة إلى رواتب شهرية جيدة بالمقاييس السورية، فضلًا عن تسهيلات تجارية وامتيازات للمقتدرين ماديًا، فبُنيت الـ (حسينيات)، وعملت السفارة الإيرانية ومستشاريتها الثقافية خلال السنوات العشرين الأخيرة عملًا شبه علني على نشر التشيّع، وافتُتحت سبع قنوات شيعية إيرانية في أنحاء العالم، تُروّج للمشروع الإيراني، ولواعظين دينيين شيعة.

قادت إيران، في العراق ولبنان وسورية واليمن، بالعشرات من ميليشياتها العسكرية غير النظامية -التي تضم مئات آلاف المقاتلين، المُدجّجين بأيديولوجيا طائفية إقصائية- عمليات تصفية واسعة للخصوم السنّة، وقامت بحملات تغيير ديموغرافي واسعة النطاق، وفرّغت قرى وبلدات ومناطق كاملة من سكّانها الأصليين ومن الوجود السني، بطريق عمليات تهجير قسري، وحاولت تأسيس ما عُرف باسم (الهلال الشيعي) الذي يمتد من إيران إلى المتوسط مرورًا بالعراق وسورية ولبنان.

أرادت -وتريد- إيران أن تُغيّر موازين القوى المذهبية الإسلامية، وأن تتلاعب بجغرافيا الجزيرة العربية والشرق الأوسط، وتُحرّف التاريخ، وتتوسع مكانيًا، وتُسيطر سياسيًا، ولأجل ذلك استخدمت فكرة ولاية الفقيه ووظفتها لاستنهاض النزعات المذهبية إلى أبعد حد، ووضعت على رأس الأولويات استعادة إرث الدولة الصفوية.

ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أن الإمبراطورية الصفوية، لجأت إلى العنـف والمجازر لإرغام سـكان إيران على اعتناق التشـيع، ما يؤكد أن حلم الهلال الشيعي هو وليد الحلم الإمبراطوري، لا العكس.

رابعًا: نتائج خطرة

خلّفت هذه السياسة الإيرانية القومية العرقية التوسعية، المستندة إلى أيديولوجيا مذهبية، موجة من التوترات الطائفية، خصوصًا بين الشيعة (الأقلية العربية) والسنّة (الأغلبية العربية)، وصلت في بعض الحالات إلى مستوى الحرب الأهلية الطائفية، كما في لبنان والعراق، وساهمت في انتشار ظواهر الحركات الإسلامية المتشددة وتوسّعها، في أكثر من منطقة من العالم، وخلّفت تنافرًا كبيرًا بين السلطة الإيرانية والسلطات الإقليمية، وخصوصًا بين إيران من جهة وكل من السعودية وتركيا من جهة أخرى، بافتراض أن الأخيرتين قطبان كبيران للإسلام السنّي في المنطقة.

أوجدت الاستراتيجية الإيرانية القومية الفارسية خللًا طائفيًا بين المسلمين، وشجّعت التنافس الطائفي العلني، الذي وصل إلى حدّ الصدام المسلّح، وتدخّلت في البنية العسكرية لدول المنطقة، وأثّرت في أمن هذه الدول وسلامتها واستقرارها، وخلقت زعامات ومرجعيات غير شرعية وغير مألوفة، ولا تمتّ بصلة إلى بنى المجتمعات التي هيمنت عليها، ولا إلى بُنى الدول الحديثة.

تسببت الاستراتيجية الإيرانية بشروخ كبيرة بين الدول العربية، وتحديدًا بين الدول التي قررت أن تكون تحت الراية الإيرانية، وتلك التي تنبّهت للخطر الإيراني، وخرّب تدخّلها السافر في هذه الدول العلاقات البينية الجيدة السابقة، وشلّ التعاون العربي، وأسعد “إسرائيل” بالتفات العرب إلى خلافاتهم الداخلية ونسيانهم الخلاف المركزي الذي يجمعهم.

لم تقتصر الأطماع الإيرانية على دول الشرق الأوسط، بل توسّع أثر السياسة الإيرانية وامتدّ ليؤثر في دول الخليج العربي كلها، فبدأت تدعم الشيعة هناك، وتخلق شرخًا لم يكن موجودًا بينهم وبين سنّة هذه البلدان، خصوصًا في البحرين، وشرق السعودية الذي تسكن فيه أقلية شيعية، واليمن الذي يسكن فيه حوثيون قرروا أن يكونوا أداة عسكرية مذهبية إيرانية.

لإيران اليوم دور كبير في أربع دول عربية: العراق وسورية ولبنان واليمن، وتنشر عشرات الميليشيات الشيعية الصرفة فيها، وتستغل هذا المدّ الديني، لمواجهة بقية الخصوم، بحجّة دينية، من دون أن تتورط هي مباشرة في الصراع، ويستمر الغموض بهيمنته على علاقة إيران بتنظيم الدولة الإسلامية، إذ سهّل لها هذا التنظيم كثيرًا، وحيّد مواجهة الولايات المتحدة لها بعد أن نصّب هذا التنظيم نفسه العدو الأول لأميركا بدلًا من إيران، التي تراجع خطرها أميركيًا إلى المرتبة الثانية.

خامسًا: أطماع مستمرة

بحث النظام الإيراني خلال تصديره الثورة، عن الأنظمة المأزومة في المنطقة العربية، فدعمها بلا حدود، وازدادت علاقاته قوّة معها، فسهّلت عليه كسر العقوبات والحصار المفروضين على إيران منذ ما بعد حرب الخليج الثانية، وظهور البرنامج النووي الإيراني إلى العلن، مقابل أن يساعدها في أزماتها وفي كسر العزلة المفروضة عليها، سواء في مستوى الاستثمارات الاقتصادية أم في مستوى تزويدها بأسلحة ممنوعة عنها دوليًا، أو حتى بتسخير القوة العسكرية الضاربة القامعة لها إن اقتضى الأمر، وكانت الفائدة متبادلة بين هذه الأنظمة والنظام الإيراني، لكن الإيرانيين كانوا دائمًا الأقوى تكتيكيًا واستراتيجيًا، فتغلغلوا في الدولة والمجتمع في هذه البلدان، وأسسوا قوّة ضاربة تستطيع التأثير في القرار السياسي إن لم تُهيمن عليه بالكامل، وتحوّلت علاقة إيران بهذه الأنظمة، كما في العراق وسورية ولبنان واليمن، من علاقة ظرفية ترتبط بأهداف بعينها، إلى علاقة تبعيّة وتشغيل وتآمر.

بعد الثورة الإسلامية، سعت مؤسسة الولي الفقيه لصبغ الدولة الإيرانية بصفة الدولة الأيديولوجية الشيعية، التي تعتمد على المذهب منهجًا ودليلًا في عملها السياسي والعسكري، لتفادي وصفها باللاشرعية، نظرًا إلى طابعها الديني، ولم يُدرك الغرب أن إيران العميقة هي تهديد مباشر للمصالح الغربية، ورسّخت المؤسسة الدينية سلطتها بوصفها مرجعية وحيدة، وأدلجت الإسلام وسيّست رجال الدين، وابتلعت الدولة ومؤسساتها، وهيمنت عليها وقضت على أسسها، بهدف إقامة إمبراطورية فارسية على أنقاض دولة دينية طائفية، ونجحت بعد نحو أربعة عقود في تحقيق نجاح نسبي في هذا المجال، لكن ما زال الحلم الإيراني بإمبراطورية بعيد المنال، وبخاصة أن إيران لا تضمن الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية، ولا هي قادرة على المضي بهيمنتها على الدول التي تُهيمن عليها أمدًا طويلًا، ولا هي قادرة على تطويع البيئة الشعبية العربية المعادية لها التي تزداد سلبية يومًا وراء يوم تجاه إيران وسياساتها وأيديولوجياتها.

حاولت دول في المنطقة كشف الأطماع الفارسية لإيران، وحذّرت -منذ عام 2013- من سيطرة إيران على المنطقة، و(احتلالها) أجزاءً منها، وعملها على تفكيك بنى المجتمع، وعلى بثّ الطائفية في المجتمعات، وحذّرت من مضي إيران في مشروعها الإمبراطوري من دون أي مراعاة لحقوق البشر وسيادة الدول واستقلالية السلطات في هذه الدول، وأكثر من سـلّط الضوء عـلى نزعـة إحيـاء الإمبراطوريـة الفارسـية شهرة هو وزيـر الخارجيـة الأميركي الأسـبق هنري كسـينجر، الذي عدّ الإمبراطوريـة الإيرانيـة أخطـر مـن (داعش).

سادسًا: نفوذ غير مستقر

لن يكون النفوذ الإيراني في المنطقة موقّتًا، بل يمكن الجزم بأنه طويل الأمد، وربما يُخطط لمئوية إيرانية فارسية مقبلة، لكن المشروع الإمبراطوري يتعثر بعُقد كبيرة لم يحسب لها الإيرانيون حسابًا، فالعقدة السورية لم تُحل وفق الرياح الإيرانية، إذ انتبهت الدول المنافسة لذلك، فدعمت المعارضة التي يفترض أنها تريد إسقاط النظام السوري، وتريد في الوقت نفسه، والشدة نفسها، إنهاء الوجود والنفوذ الإيراني، والقضاء على فكرة (الهلال الشيعي)، وكذلك القضاء على فكرة (تفريس) المنطقة وتسعى لتثبيت (عروبتها).

لم يلق المشروع الإيراني التشييعي تجاوبًا يُذكر في المستوى الجماهيري، بل بعد التدخل الإيراني المباشر في سورية خصوصًا، بدأت بعض الدول العربية بمراقبة المسعى الإيراني، وتحجيمه أو إيقافه، وتزايد حجم النفور الشعبي العربي من إيران وسياساتها، وصار هناك عداء شعبي لميليشياتها العسكرية غير النظامية الرديفة، المنتشرة في أنحاء الشرق الأوسط، وهذا النفور يُقوّض أهم أدوات إيران التي تساعدها في تنفيذ مشروعها الفارسي.

تنبّهت أغلبية شعوب المنطقة للخطر الإيراني الفارسي القومي التوسعي، وارتفع مستوى الاستعداد لمواجهته سنة بعد سنة، وتنامى الرفض الشعبي والرسمي للوجود الإيراني بصوره كلها في دول المنطقة، وكُشفت الأنظمة التي سلّمت قرارها إلى إيران، وتلك القوى السياسية والعسكرية التي ارتهنت بالكامل للإرادة الإيرانية، ولمشروع غريب خارجي يحمل بذور دمار المنطقة، وهذا الكشف بحد ذاته سيكون عقبة كبيرة جدًا أمام استمرار إيران في مشروعها الإمبراطوري – الاحتلالي، ذلك أن البيئة العامة لم تعد بيئة محايدة أو صديقة، بل باتت بيئة معادية عداءً كبيرًا، ولن تستطيع إيران التعايش معها باطمئنان وهي مغمضة العينين.

وفي الوقت نفسه، ما يساعد إيران في المضي بمشروعها، ولو بوتيرة بطيئة جدًا، هو الصمت الأميركي على السياسات الإيرانية منذ بدايات الربيع العربي، والتحالف الروسي المرحلي معها، هذان العاملان غير مستقرين، ويخضعان لحسابات مُعقّدة للدولتين الكبيرتين، وهو ما يهدِّد إيران بأن تُخرج من المعادلة في أي مرحلة مُقبلة، سواء في المدى القريب أم المتوسط.

سابعًا: خاتمة

إن طموح إيران في استعادة مجد إمبراطورية بائدة، يُفسر محاولات تغلغلها في الشأن الداخلي لدول الشرق الأوسط كلها، وآسيا الوسطى، وبعض دول الخليج العربي وشمال أفريقيا، وسعيها للتحكم في هذه الدول عسكريًا وسياسيًا وأيديولوجيًا، مباشرة أو بالاستعانة بوسطاء من هذه الدول.

منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، أصبح تصدير الثورة الإيرانية مصدر قلق وأذيّة للدول العربية، وأصبح واضحًا التوجه الاحتلالي المذهبي الديني الذي تنتهجه إيران، وأصبحت واضحة أيضًا النزعة الفارسية المعادية للعرب، التي باتت نهجًا سياسيًا إيرانيًا علنيًا، وما يساعدها ثلّة من الأنظمة غير المقبولة من شعوبها، قررت تسليم قرارها لإيران، سواء نتيجة أحقاد دينية مذهبية، أم دوافع سياسية وعسكرية، أم أسباب تتعلق بقدرة إيران (المرحلية) على إبقاء هذه الأنظمة على كرسي الحكم.

ومنذ قيام الثورة الإيرانية صار التدخل الإيراني في شؤون شعوب المنطقة، وفي الدول المستقلة صاحبة السيادة، وفي حركة الاقتصاد، الشرعي وغير الشرعي، من أجل زعزعة الاستقرار الداخلي لدول المنطقة، أمرًا واضحًا للعيان، وعاملًا مؤججًا للصراع الطائفي، ومُولّدًا لتنظيمات طائفية متشددة في الطرف الآخر، والجماعات ذات النهج الأيديولوجي المتطرف، ومصدر تحفيز للرفع من حدة الخطاب المتشدد؛ الديني، والسياسي، والعسكري لشعوب هذه المنطقة.

يبدو أن هناك استراتيجيتين إيرانيتين متناقضتين، الأولى تحلم بالتوسع والهيمنة على المشرق، وفرض الدولة الإيرانية بوصفها قوة إقليمية يُحسب لها حساب، بتصوير إيران مرجعًا وحيدًا وقويًا لشيعة العالم، والثانية تحلم بأن يكون المشرق كله تابعًا مباشرة لإيران، بإحياء الإرث الإمبراطوري الفارسي، وعلى الرغم من أن المشروع الثاني هو الأساس والأعمق، إلا أن القيادة الإيرانية تسير بالاستراتيجيتين جنبًا إلى جنب، من دون ترجيح الأولى على الثانية، حتى لا تفقد أهم أوراق اللعب، وأهم وسائل الضغط، وأقوى أوراق القوة، وهي الشرعية المذهبية الطائفية، وحتى لا تُصنّف دولة قومية عنصرية شوفينية بالمعنى الحقيقي للكلمة.

إضافة إلى الصعوبات المذكورة سابقًا، تبقى الأحلام الإمبراطورية الفارسية الإيرانية محكومة أيضًا بالوضع الداخلي الإيراني، والتنوع العرقي في إيران، وخطر الإخلال بتوازناته، وبإيران الدولة أيضًا، التي يفترض أن تخضع في نهاية الأمر للقانون الدولي، وتحترم سيادة الدول، ويكون لها دور إقليمي وحجم محدد بدقّة، لا يخضع لمزاجيات الولي الفقيه، ومزاجيات (حجة الله) و(آية الله العظمى)، ولا لمزاجيات سلطات عنصرية شوفينية قومية فارسية، تظن أن الماضي يمكن أن يُستعاد بهذه السهولة.




المصدر