“ميثاق وطني” وسؤال العلمانية الغائب


جمال الشوفي

قدم الإخوان المسلمون ورقةً، تحت مسمى “ميثاق العمل الوطني”، لرفض التقسيم في سورية، في حزيران/ يونيو 2017، وقد جاء “الميثاق” في اثني عشر بندًا مفصلًا، من تبني الثورة ومطالبها الشرعية، إلى “التمسك بالمجتمع المدني الموحد، المؤسس للدولة المدنية الحديثة التي تُعلي قيم المواطنة بعيدًا عن تصنيفات الأكثرية والأقلوية”، حسب الفقرة الثالثة منه، إلى رفض ومقاومة أي مشروع يسعى لتقسيم سورية، وصولًا إلى تحذير الجميع (دون تحديد من هم الجميع) من خطوةٍ، “تثير الفوضى والقلاقل في هذه المنطقة عدةَ قرون” (في إشارة خفية إلى مشروع دويلة كردية مستقلة على شاكلة الكيان الصهيوني) المنطقةِ التي لم يستطع المجتمع الدولي احتواءها إلى اليوم، حسب ما ورد في الفقرة 12 منه.

تباينت الأوساط السياسية السورية في رؤاها لقراءة ميثاق الإخوان الجديد، فبين متحفظ، لا على ما ورد فيه من نقاط تُعدّ نقاط إجماع وطني ومقدمة لعقد اجتماعي سوري عريض، بقدر فقدان الثقة بالإخوان ومراوغتهم السياسية طوال الفترة الماضية من عمر الثورة، وبين موافق عليه جملة وتفصيلًا، وبين قراءته على أساس أن الإخوان في مأزق سياسي راهن على أثر تبعات الخلافات الخليجية الأخيرة وموقف دول الخليج من قطر؛ ما جعلهم يبادرون للتوضيح بأنهم لا علاقة تربطهم بالقوى المتطرفة بسورية رافضين أن يخطفوا راية الشعب السوري وإيمانه بتعدديته وتعايشه الثقفي والمتنوع، حسب الفقرة 7 منه.

في خلفية المشهد السياسي السوري، ليست هذي المرة الأولى، في تاريخ المعارضة السورية، التي تحاول فيها تقديم وثيقة عمل سياسية وطنية تكون مقدمة أولى لعقد اجتماعي عام ووطني، يرمي لإنقاذ مسيرة الدمار والتدهور التي يسوقها حزب البعث وجبهته الوطنية وسلطة نظامه التي تقود سورية إلى كارثة محتمة، فالتاريخ القريب ما زال حاضرًا بوثائق عدة، تُعدّ محطات مهمة في سياق الطرح السياسي، منها:

وثيقة (إعلان دمشق) عام 2005، وقد شكلت أول تحالف عريض للمعارضة السورية عامة، وذلك قبل أن تصيبها الانقسامات المتتالية بدءًا من صيغتي هيئة التنسيق والمجلس الوطني، وصولًا إلى تشظ عريض على مستوى المكونات الكردية وغيرها، تحالف جمع أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي مع لجان إحياء المجتمع المدني، أحزاب سياسية منفردة وهيئات حقوقية في مجال حقوق الإنسان، وعدد من الأحزاب الكردية، والكثير من الشخصيات الوطنية المستقلة، وأهم ما جاء فيه شعار التغيير الديمقراطي التدريجي السلمي، وبقبول التعاون مع رجال النظام غير الملوثين بالفساد حينئذ، وقد أصدر لاحقًا حزب الإخوان المسلمين تأييده لها.

وثيقة (العهد الوطني) الصادرة عن مؤتمر القاهرة، منتصف عام 2012، جاء فيها بالإجماع على “بناء دولة الشعب السوري على قاعدة الوحدة في التنوع، بمشاركة مختلف مكوّناته دون أيّ تمييز أو إقصاء”، كما نصت على دستور جديد لسورية، يقر حقوق الأكراد والأقليات والمرأة ويصون الحريات العامة والفردية، ويقر بحق أي سوري في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، بغض النظر عن دينه وقوميته، وبغض النظر عن كونه رجلًا أو امرأة.

خطة (التحول الديموقراطي) الصادرة عن بيت الخبرة السوري والمركز السوري للدراسات الاستراتيجية، في آب/ أغسطس 2013، وتناولت تفاصيل الانتقال السياسي السوري، سواء على مستواه الدستوري المؤقت، أو رؤية القادم منها والقانوني المتمثل بالعدالة الانتقالية وشكل الدولة والحكم البرلماني فيها.

سياسيًا، يمكن قراءة ميثاق الإخوان الوطني على أنه خطاب متقدم سياسيًا من حيث مفرداته السياسية التي تحدثت عن دولة المواطنة والتفريق فيها عن المجتمع المدني الذي يُشكّل رائزًا فيها، وأيضًا طرح موضوعات الساعة السورية من مشاريع انفصالية أو تقسيم يروج لها بالمنطقة، لكن هل تستطيع هذه الورقة أن تُشكل نقطة اتصال حقيقة بين مكونات الشعب السوري؟ ولماذا أتت هذه المرة منفردة من قبل الإخوان دون باقي المعارضة السورية؟ هل استشعر الإخوان الخطرَ القادم على سورية؛ فبادروا للتحذير منه؟ كل الأسئلة مشروعة وتبدو، وفق المنطق، كل الأجوبة أيضًا، لكنّ ما لم تستطع إلى اليوم أي قراءة للعقد الاجتماعي السوري أن تراه هو نقطتان مهمتان فيه:

الأولى، عدم وجود قناعة دولية، إلى اليوم، بقبول دولة وطنية في سورية وبالمشرق عمومًا، بقدر رغبتهم بوجود حكومات قابلة للإدارة العسكرية، كما كانت قبل عام 2011، وبعده العمل على إيصال السوريين للقبول بسياسة الكل الخاسر؛ ما يجهض أي فاعلية للحريات الناتجة عن الثورة في روافعها الوطنية الأولى.

الثانية، موضوع الثورة السورية ومواثيقها الصادرة، إلى اليوم، لم ترتقِ بعدُ لطرح مسألة العلمانية، وحل إشكالية التكفير والتكفير المضاد، بخاصة أن ممارسات الفعل اليومي على أرض الواقع تفاقم هذه الإشكالية سياسيًا وثقافيًا وسيكولوجيًا، كما أنها لم تستطع أن تلتقط المفصل الحقيقي في موضوعة العلمانية التي نجحت الحالة الأوروبية في صياغتها، فبقدر أنها ضالعة في الحكم الزمني للقوانين الوضعية إلا أنها حافظت على شكل التدين والعلاقة مع الذات الإلهية، حيث يقول د. محمد عمارة في (العلمانية بين الغرب والإسلام): “أعادت الثورة العلمانية الكنيسة إلى حدودها الأولى إلى خلاص الروح ومملكة السماء، وجعل ما لقيصر لقيصر من دون الله، وجعل العقل والتجربة دون الدين واللاهوت، المرجع في تدبير شؤون العمران الإنساني أي عزل السماء عن الأرض. فقد استطاع فلاسفة العلمانية التوفيق بين الإيمان بوجود إله خالق للعالم وبين العلمانية التي ترى العالم مكتفيا بذاته؛ فتحصر تدابير الاجتماع البشري في سلطة البشر المتحررة من شريعة الله”.

بالتالي؛ فإن موضوع الثورة السورية ليست بيانًا أو ميثاقًا بقدر ما هو ممارسات فعلية على أرض الواقع، تمكنها أن تُدير الدفة السورية باتجاه مختلف عن مسارها الحالي، المسار الذي فتح المجال لكل القوى الإقليمية من اللعب على أوتار الواقع السوري والاستفادة من تناقضاته الطائفية لمصالحها الإقليمية، ما أفقد السوريين زمام المبادرة وجعلهم مبادرين بنفي التهم عنهم! وهذا ما يشي به نسبيًا ميثاق الإخوان الأخير على أهميته.

سورية دولة لجميع السوريين، ممارسة السياسة وحق تشكيل الأحزاب والتحالفات السياسية دون مرجعيات دينية أو إثنية، ممارسة الشعائر الدينية والطقوس الإيمانية، تداول السلطة سلميًا، دولة المواطنة والحقوق والقانون، هي حق سوري ووطني، لكنها باتت اليوم في أدبيات المعارضة السورية شعارات، لا تحمل مقدمات وجودها الفعلية على أرضية الواقع، بل على العكس من ذلك بات الروس يطرحون ما هو متقدم أكثر من ذلك في “علمانية” الدولة وإن كانت شكلية مفروضة بقوة العسكر! فاستشعار الخطر القادم، ومراجعة السياسات ونقدها حق، لكنها ما لم تنتج حوارًا سوريًا يفضي إلى كتلة وطنية سورية، أهم صفاتها الانتماء الوطني فوق أي انتماء حزبي أولًا، وفهم المسألة الدولية وتناقضاتها على سورية وفيها ثانيًا، وحسم موضوع العلمانية كضرورة أولى لأي عقد اجتماعي سوري فعلي ثالثًا، ويفوت الفرصة على الشكلانية العلمانية الروسية رابعًا؛ فإنها ستعيد إنتاج البيانات تلو البيانات بينما الواقع السوري من تدهور إلى تدهور لا تحمد عقباه. ومهما بلغت قدرة اللاعبين الدوليين على اللعب بمنتجات الواقع السوري الحالية، إلا أنه لليوم ما زال بأيدي السوريين القدرة على استعادة زمام المبادرة الفعلية لا الورقية، حين تبدأ مشاريعهم وأهدافهم بالترجمة على أرض الواقع وفق مراحل زمنية محددة وواضحة التحقق، ما يجعل القوى الكبرى الدولية تعيد النظر في متغيراته الفعلية وعدم الاكتفاء بإدارته واستثماره لمصلحتها وحسب.

هي معادلة صعبة في ظل ما يعتري المشهد السوري من تآكل ذاتي عام، لكنها ليست مستحيلة الحل، فالثورة السورية لم تعد محلية فحسب، بل باتت عبئًا دوليًا أيضًا، على السوريين بكل تنويعاتهم التمسك بثوابتهم الوطنية وترسيخها على مستوى الواقع والممارسة الفعلية، ودفع أي شبهة لمراوغة سياسية فيها مرة أخرى.




المصدر