الاستبداد واغتصاب الذاكرة


جاد الله الجباعي

الذاكرة، باعتبارها جملة من الأفكار والرؤى والخبرات والتجارب وضوابط التفكير ومنظومات القيم والأعراف والتقاليد المتواضع عليها -تصريحًا أو تأويلًا- بين أفراد مجتمع ما، كجزء من عملية بناء المعنى في هذا المجتمع، تحيل إلى الماضي. فيما التذكر فعل ترجيع قريب أو بعيد لماضٍ قريب أو بعيد، يُستحث ويُستنهض ويُستحضر ويُستجمع بانتقاء مهدوف بمقتضى حاجة الذات، لاستكمال وجودها الراهن، أو بشكل غير مقصود بفعل توارد الخواطر، لينبغ من عمق اللاوعي المعنوي المخزون في بوتقة الزمان القصي، عن لحظة الراهن، إلى محكمة الفكر، عبر آلية المماثلة والمطابقة بين المعروف والمُتعّرف، والمقايسة بين الشاهد والغائب. والمقارنة بين الإمكان والواقع.

فالذاكرة -وإن أحالت إلى الماضي- لا تبدو كماض فحسب، بل هي جزء لا يتجزأ من مسار الحياة اليومية لدى الشعوب الحية، وإن لم تكن محل إجماع بين جميع أفراد هذا الشعب، بكل تشكيلاته وانتماءاته. كما أن الذاكرة غير التاريخ، وإن كان ثمة صلة لا تنفصل عراها بين الذاكرة والتاريخ؛ لكن الذاكرة أبعد غورًا من التاريخ في الزمان، وأوسع مدى في المكان وأقل ضبطًا وانتظامًا في الأحكام. فالتاريخ تسجيل واقعة الولادة فيما الذاكرة سردية آلام المخاض كاملة. التاريخ سيرة الظافر يدبجها حظوة القصر من الوراقين بشهية الحاكم ومشيئة سلطانه، والذاكرة صور المكلومين، والمهدومين، والمحرومين، والمنبوذين، والمنفيين، والمنسيين. ركام البيوت، وحطام الجسور، ورائحة الأجساد المحروقة، وطعم الدم المالح، ورائحة الحنين، وغصة الدمع المر، وحكايات الناس، ووجع يستعصي على الكتابة.

ومع ذلك ليست الذاكرة ذكريات الحزن والألم فحسب، بل هي ذكريات الفرح والزهو ونشوة الحياة وطقوسها وتعبيراتها وأعيادها ومواسمها … لكننا -الشعبَ- تُغتصب ذاكرتنا الجمعية، نتلعثم بحزننا المعتّق، فكلما فتحنا بابًا في مخازن ذاكرتنا ننكأ جرحًا لم يندمل.

تُغتصب الذاكرة كما تُغتصب السلطة وكما تُغتصب المدن. ولا يغتصب المستبد السلطة إلا حينما يغتصب الذاكرة الجمعية للشعب أو الأمة، ببعديها المكاني والزماني، أو المشخص والمجرد أو المجسد والروحي؛ فتغلب الذاكرة الجماعية، وهي ذاكرة جماعة، أو فئة أو طائفة، أو إثنية، أو حزب … كذاكرة منتقاة بمقتضى حاجة المستبد ورغبته، على الذاكرة الجمعية للأمة والشعب؛ فتسفّه ذاكرة الآخرين أفرادًا وجماعات وتبخسها قيمتها، وتهمل أوابدها، وتهدم “أوثانها”، وتمنع سردياتها ومروياتها، وتحور تأويلاتها، وتنكر رموزها وشخصياتها، فتُزهق روح التاريخ، ويُشوه وجه المكان، وتخسف مآثرها ومعتقداتها فتتحول تمهيدًا وتبشيرًا بمجيء “الملهم المنتظر”، سيدًا للعالمين، وواهبًا للعاملين، وأبًا للثائرين، وقائدًا للمنتصرين، وأخًا للمواطنين “المختارين” في عميق النية القصد في أحسن الأحوال، و(“يقبض” المستبد على اللحظة التاريخية كممثل للروح المطلقة).

لا يستوي عرش المستبد ويكتمل اختبار فحولته إلا حينما تستتر المغُتَصبة بعباءة المغتصِب، وتخفي عورتها ببريق ردائه، وتهرب من ذاكرة اغتصابها، فتنكفئ على وجع هزيمتها، وتذعن لإرادته، وتنام على مشاعر حقدها وكراهيتها. وهكذا يلتبس لديها زمن الواقع بزمن بالحلم، والمستقبل بالماضي، والهوية بالأصل. ويصير التاريخ تخيلًا مفعمًا بالحنين لماض مزين بأوهام الذات ونرجسية زهوها، كرغبة لا واعية بالنسيان، وهروبًا من استحقاق لحظة الحاضر. فتستكين الضحية على مرارة واقعها، واقتناع بهامشية وجودها، وغياب إرادتها، وسلبية صمتها، ولا جدوى معارضتها. وتشارك -من حيث لا تدري- رغبة المستبد وإرادته في سلب إرادتها، وتأكيد دونيتها، ومحو تاريخها. فتنسى جرح اغتصابها حينًا وتحيا بحكم العادة، فتتقبل تأويل رموزها، وتغيير مواعيد مناسباتها، وطقوس احتفالاتها، وترضى بتحوير ذاكرتها المكانية، وتألف تغيير أسماء مدنها وحواضرها وساحاتها وميادينها ومدارسها ومعالمها وأسماء شوارعها.. التي يختمها المستبد باسمه أو بخاتم “ثورته وانتصاراته”.

هكذا يغتصب المستبد الذاكرةَ الجمعية للمجتمع، حين تصير ذاكرة المجتمع ذاكرته المحروسة والمنتقاة بعناية فائقة، والتاريخ يبدأ من لحظة ولادته أو سيادته، ومحطات التاريخ سيرة مآثره وفضله، وانتصاراته الزائفة. تصير إنجازاته تاريخية، وخطاباته تاريخية، وزيارته تاريخية، و”نصره” تاريخي. أما هزائمه فتستبدل وقائعها بوصف هول مؤامرة العالم عليه، وبعنف مقاومته.

وحين يهدم جسور التواصل بين الناس، ويقطع أواصر الألفة والمحبة والإنسانية بين البشر، ويعيق تبادل المنافع والمصالح بين الأفراد والجماعات، تتفاصل المصالح والمواقف، وتتحاجز الإثنيات والطوائف، وتسود مظاهر الشقاق بينهم، وتطغى مشاعر الكراهية والحقد والعدوان على قلوبهم، والوصولية والنفاق في نفوسهم؛ فتضعف روح الاجتماع فيهم، وتستشري العدوانية والبغضاء بينهم، وتتغول السلطة على الدولة، والعرف على القانون، والأحكام العرفية على الأحكام المدنية، ويصير المجتمع جمعًا حسابيًا للجماعات والأفراد، والمواطنون رعايا، وتقسم النساء بين فاضلات محصنات، أو محظيات وعاهرات وسبايا، ويذرر الأفراد جماهيرًا في الأغاني والخطب.

لا يستتب عرش المستبد على أمنه وأمانه إلا حين يكتب الورّاقون تاريخ مجده وسيرته. وينهلون من معالم “علمه وأدبه”، ويشاركونه في اغتصاب ذاكرتهم، وما سيأتي بعد الاغتصاب سيكون دمًا وانتقامًا وحربًا مفتوحةً على كل الاحتمالات. فهل سيكتب الوراقون يومًا تاريخ السلاطين بذاكرة معافاة؟ وهل سيكف بعض الوراقين عن كتابة تاريخ السلاطين؟

للمزيد حول الذاكرة الجمعية أنظر:

الذاكرة الجمعية عند موريس هالبواكس/ زهير سوكاح: الحوار المتمدن- العدد: 1755 – 2006 / 12 / 5 – 06:48.




المصدر