السياسي عند جيل دولوز

حسين خزام

لا تبدأ الكتب -والمقالات- عادةً من السطر الأول، ولا تنتهي عند السطر الأخير، فهي تبدأ قبل بدايتها بزمن طويل (وربما بعدها!)، كما أنها تنتهي بعد نهايتها (وربما قبلها!)، ذلك أن الكتابة هي عملية التفكير التي تقوم بها اللغة حول نفسها، كما لو أنها تنظر في المرآة. لكنَّ مَنْ ينظُر في المرآة للمرة الأولى لن يبقى على حاله، سيتغيرُ، سيشعُر بالغَرابة والغُربة، وسيرى نَفسَهُ كَـ «آخر»، سيرى نَفسَهُ كما يراه الآخرون. هكذا فإن اللغة لن تبقى على حالها منذ أن تصبح مكتوبة، وستصيرُ حتماً لغةً «أُخرى»، لأنَّ الكتابةَ تُغَيِّـرُ ما تُريدُ التَعبيرَ عَنهُ (الفكرة)، وتخونُهُ(ـــها) بطريقةٍ ما.1خوسيه لويس باردو. قواعد اللعبة: حول صعوبة تعلم الفلسفة. 2004.

جدارية من عمل Thierry Ehrmann تكريماً لدولوز في معرض الفن المعاصر في إحدى قرى مدينة ليون في فرنسا

لا شك أن فلسفة دولوز هي أحد أهم الأحداث الفلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين، والخوض فيها عملية صعبة ومركبة، ذلك يعود لتعدد منابعها وفرادة نتائجها وتمردها على السائد في تاريخ الفلسفة في الوقت نفسه، فهي الفلسفة التي قلبت الأفلاطونية، وقارعت الجوهر الأرسطي ثم النفي الهيجلي، وهي الفلسفة التي أزاحت أوديب الفرويدي -الجاثم على صدورنا- باقتراح الشيزو-أناليسيس بدلاً من السيكو-أناليسيس، كما انتقدت مفهومنا للرغبة وبينت كيف أننا مصانعٌ لها، وفكّرت بالحركة والسكون خارج هذه الثنائية، ودفعت مقدمات نيتشه حول الصيرورة والاختلاف إلى نتائجها السياسية البعيدة.

يضاف إلى كل هذا الصعوبة المتأتية عن قراءة النقل الفلسفي إلى اللغة العربية، الذي ما زال يعتمد على التراجم المبهمة لجملة المفاهيم أكثر من اعتماده على هيرمينوطيقا السياقات واجتراح تلك المفاهيم من داخلها، وما زال الغموض يشكل ميزة للنصوص بين المشتغلين في الفلسفة، وكأن البساطة تعبير عن عيب منهجي، ولا يزال الوفاء للنص الأصلي يعني حبس المعنى في فضاءات لا نعيشها، بل يعيشها فقط صاحب النص ومترجمه. ويشير عبد الله العروي إلى أنه في الترجمة لا بد من الاختيار، فإما الوفاء للمعنى مع ركاكة الأسلوب، وإما البلاغة والبيان مع خيانة النص شيئاً ما، أمَّا أن يتواجد في النص الـمُتَرجَم الركاكة وعكس المعنى معاً، فهو ما لا يمكن قبوله.

ما هي الفلسفة؟

يشير باول باتتون في مقدمة كتابه حول دولوز إلى أن «هذا المفكر لا يشبه الصورة التقليدية للفيلسوف السياسي، فهو لم يكتب حول ميكافيلي أو هوبز أو لوك أو روسو، وحتى عندما كتب حول مفكرين سياسيين من شاكلة سبينوزا وكانط لم يهتم بكتاباتهم السياسية، كما أنه لم يعطِ اهتماماً لقضايا تُعَدُّ مركزيةً في الفلسفة السياسية كطبيعة العدالة والحرية والديموقراطية، لكنه وعلى الرغم من عدم التزامه بقضايا النظرية السياسية الكلاسيكية فإنه فيلسوفٌ سياسيٌ بامتياز، هذا لأنّ أعماله مع غواتاري تقدم نظرة جديدة للتفكير الفلسفي بما هو سياسي، والمساهمة الدولوزية في الفكر السياسي يجب أن تُقَيَّم انطلاقاً من مفهومه وممارسته الخاصة للفلسفة»2 باول باتتون. دولوز والسياسة. 2000..

والفلسفة عنده هي عمليةُ خَلقٍ للمفاهيم3دولوز وغواتاري. ما هي الفلسفة؟. 1994.، على أن لا يُحيلَنا هذا الخَلقُ إلى فَرادةِ المخلُوق وانفصاله عن سياقاته فهو نتيجةٌ لما كان قَبلَهُ وما سيأتي بَعدَهُ، كما أنه ليس شيئاً جديداً كلياً، بل هو تركيبٌ وإعادةُ تدويرٍ لما كان عبر استشراف القادم4لدى الفيلسوف الإسباني المعاصر خوسيه لويس باردو وجهة نظر مهمة حول فكرة «الجديد»، فما هو الجديد بالضبط؟ إن ما-بعد الحداثة هي محاولة اختراع شيء جديد كلياً، شيء أجدد من الجديد نفسه الذي عممته الحداثة كبراديغم، وما الانتقال من (النيوماركسية، النيوكانطية، النيوكولونيالية، النيو-أي شيء…) إلى (ما-بعد البنيوية، ما- بعد الماركسية، ما- بعد الكولونيالية، ما- بعد أي شيء…) إلا إشارة إلى هذا السلوك، فالحداثة وصلت الى طريقٍ مسدود (موت الإنسان) ، لتأتي ما-بعد الحداثة  وتعدنا بتجاوز موت الإنسان  إلى ما بعده، الى الخلود ربما أو الأزلية…!!  يقول باردو في نصٍ جميل بعنوان الحداثة والخراب: «لذلك فإن جميع تلك الإعلانات التي تبشر بقرب الوصول إلى «شيء جديد كلياً» تنتهي بالإحباط وخيبة الأمل. وذلك من الميزات الجوهرية للعصور الحديثة أيضاً، فبدل أن نحصل على «شيء آخر» تجدنا نحصل على «الشيء نفسه» مرةً تلو الأخرى…». كما يحضرني ما قاله بودلير في احدى قصائده: «… كلُّ ماهناك هو العدم، إلا الموت…».. والشرط الذي يضعه دولوز هو أنّ لا يـُثـَّبـِتَ المفهومُ تَدَفُقَ الواقعِ في صُورَةٍ واحدة تَدّعي كونها الصُورةَ الـمُثلى فَتَحِلُ مكانَ الواقِـعِ نَفسِه. وما يطلق عليه دولوز «الصورة الدوغمائية للفكر» هو الاشتغال بتلك المفاهيم التي تـُثـَّبـِتَ وتَقطَعُ تدفقات الواقع، لهذا تراه يقترح المفاهيمَ الـُمندَمِجَةِ مع حَركةِ الصَيرُورَة. والصيرورة هي المستمر بلا انقطاع، كلية الحياة التي تستمر رغم موت الأفراد، الحياة القائمة منذ أن وُجِدَ البشر والتي لا تنحصر في زمن هذا الفرد أو ذاك. هكذا تعمل المفاهيم «ضد الزمن القائم واستشرافاً للزمن القادم»5نيتشه. حول فوائد ومساوئ التاريخ من أجل الحياة. 1874.، وتكون الفلسفة يوتوبيا تسهم في خلق الأشكال الجديدة للأفراد والجماعات حاملةً الدعوة إلى «أرضٍ جديدة وشعب غير موجود حتى الآن»، فتصير سياسةً وتحمل زمنها إلى نقطة أبعد. سيهتم دولوز بانقسامات المجتمع واختلافاته أكثر مما يساهم في الحفاظ على وحدته، وسينقُل الاهتمام من شرعية الحكومات أو عدمها إلى الطرق التي تتحول من خلالها الجماعات والأفراد وأشكال الحُكم، راصداً بذلك التحولات وليس التماثلات.

الصيرورة وزمنها

يشكل «زمن الصيرورة» أحد المفاهيم المفتاحية لفهم فكر دولوز وقراءة كتبه التي يصفها بالخرائط، فالكتاب خريطةٌ هدفها اللقاء والفيلسوفُ حقيبةٌ للمَعَدات تُساعِدُنَا ليَحدُثَ اللقاءُ مع عَقلِ القَارِئ ومشاعِره وأحاسيسِه، وإن لم يَحدُث اللقاء فعلينا بخريطةٍ أُخرى ومَعداتٍ أُخرى.

صورة أليس كما رسمها البريطاني John Tenniel

صورة أليس كما رسمها البريطاني John Tenniel

و«زمن الصيرورة» بكل ما يعنيه من إعادة التفكير بالزمن نفسه، والانتباه إلى القوة الحيوية الخلاقة للصيرورة نفسها، التي هي التدفق المتواصل والجاري للواقع بلا انقطاع، وكلُ ما يقطع التدفق هو دوغما تريد تثبيته وإيقافه6كـَمَثَلِ كرونوس Cronos الذي يُقَسِّمُ الزمن إلى وحَداتٍ ثـُلاثيّة (ماضي-حاضر-مستقبل) ويحاول حصر الصيرورة في الحاضر الذي يعيد نفسه بشكل أزلي، فهي دوماً الآن + الآن + الآن + الآن +… حتى ما لا نهاية.. يشكل عالم أليس في بلاد العجائب أحد الأمثلة المفضلة عند دولوز7دولوز. منطق المعنى، الفصل الأول: الصيرورة المحضة. 1969.، تلك الطفلة التي تكبر وتصغر حين تتناول فطراً سحرياً، لكنَّ صفات «كبير» و«صغير» تتبع الزمن القائم (الحاضر) وليس زمن الصيرورة، لأنها الآن أكبر مما كانت عليه قبلاً وهي أصغر مما ستكون عليه فيما بعد، أما في زمن الصيرورة فـ «الكبر» و«الصغر» ليست إلا صفات لأليس التي تبقى هي ذاتها، وما نعثر عليه خلف تلك الصفات هو أليس نفسها، كما يحصل عندما نرى صوراً لطفولتنا، فما الذي يجعلنا نجزم أن الطفل الظاهر في الصورة هو الشخص نفسه الذي يرى الصورة الآن؟

يبني دولوز على فكرة نيتشه حول الصيرورة مفهومَه الخاص، فالصيرورة هي التكرار والعود الأبدي، لكن ما الذي يتكرر بالضبط؟ «لا شيء يتكرر على حاله وبالدرجة نفسها، وما يتكرر ويعود هو أن لا شيء يتكرر ويعود، فوَحدَهُ الاختلافُ هُوَ مَا يَتَـكَرَّرُ، لتُصبِـــحَ الصَيرورَةُ الاختلافَ الأَزلِــيَّ الذي يَعُودُ أَبداً»8دولوز. نيتشة والفلسفة. 1962..

يحدثنا هايدجر9هايدجر. السؤال عن الشيء: حول نظرية المبادئ الترنسندنتالية عند كانط، 1963. أن سقراط كان من عادته أن يمضي وقته في شوارع أثينا يتحدث إلى الناس، فيذهب إلى الحَذَّاء ويسأَلُه ما هو الحذاء؟ وإلى الخَبَّاز ليسأله ما هو الخُبز؟ وإلى الفنان ليسأله ما هو الفن؟ … إلخ، وأن شغله الشاغل كان السؤال عن ماهية الأشياء، وأنه ذات مرة حين عاد أحد السفسطائيين الكبار من سفره خارج اليونان في جولة جاب فيها آسيا الصغرى وأعطى عدداً من الدروس، وجدَ سقراط في المكان نفسه الذي تركه فيه عندما غادر وكان قد مضى ما يقارب ستة أشهر، فسأله بكبرياء: أما زلت هنا يا هذا تكرر السؤال نفسه حول الأشياء نفسها؟ فرد عليه سقراط متهكماً: نعم، لا أزال، أما أنت فمن المؤكد أنك بذكائك لا تكرر أبداً السؤال نفسه حول الأشياء نفسها.

قدم لنا تاريخ الفلسفة هذه الحكاية على أنها الطريق الواجب اتباعه، أي الإصرار والعناد في تكرار السؤال حول الأشياء نفسها حتى الوصول إلى كنهها، فما هي العدالة؟ وما هو الجمال؟ وما هو الخير؟ كل ذلك مقابل الارتباك والسطحية التي تعامل بها السفسطائيون مع الأشياء، فهم لم يكرروا قط الأسئلة نفسها حول الأشياء نفسها. وبعيداً عن الدفاع عن موقف السفسطائيين (مع أنه محق)، ركز نيتشه ومن بعده دولوز على نوع آخر من السؤال، فبدلاً من السؤال عن الماهيات (سؤال: ما هو؟) اقترحا السؤال عن البشريات، «المنهوّات»/«المنهيّات» (سؤال: مَن هو؟ أو: من هي؟)، ليتغير سؤال: مَا هي العدالة؟ إلى سؤال: مَنْ هو العادل؟ من هي العادلة؟

ففي أحد الحوارات يقوم سقراط على عادته باستيقاف أحد السفسطائيين في الشارع وسؤاله: ما هو الجمال؟ ليرد عليه مباشرة: تلك الفتاة التي تطل من النافذة، وهذا الشاب الذي يرافقك أيضاً.

يعيد دولوز تحديد مفهوم السياسي من داخل الصيرورة، فتقوم صور الفكر الجديدة التي یقترحها بتقديم بدیل عن الأنماط التقليدية التي تتنطح لشرح ماهیة عمل الاجتماعي، ذلك أن «الفكر السياسي الكلاسيكي يدرك المجتمع -منذ أرسطو- انطلاقاً من عامل مشترك يجمع بين الأفراد الذين يشكلون ما يسمى الجماعة، وقد يتعيّن هذا المشترك على أساس التعاقد (حيث تتحدد هوية الأفراد التي تنتمي الى فريق اجتماعي معيَّن)، أو على أساس الإقصاء (حيث تتحدد هوية الجماعة انطلاقاً من التعارض مع «آخر»)، لكن الاختلاف بين العناصر التي تشكل الجماعة في كلا النموذجين يستمر بتبعيته لمفهوم الهوية الضامن للوحدة والاندماج، وما نجده في أساس البديل المقترح هو الاختلاف، الاختلاف القائم بحد ذاته أو الاختلاف في ذاته، والذي يتمايز عن الاختلاف المندرج في إطار الهوية (كما عند أرسطو) أو الاختلاف المندرج في إطار التعارض (كما عند هيجل)»10مجلة الفكر السياسي، عدد نوفمبر 2012، مقدمة ملف العدد حول دولوز، بقلم كلاوديو بوينو الحاصل على ماجستير في تاريخ الفن من جامعة تشيلي وماجستير في الفكر المعاصر من جامعة دييغو بورتاليس، والذي يعد رسالة الدكتوراه حول دولوز في جامعة كارديف في بريطانيا. تعد مقدمة كلاوديو هذه أهم مرجع أعتمِدُهُ في هذا النص لاستيعاب الخطوط الواصلة بين المفاهيم التي يقترحها دولوز واللقاء الحقيقي به بعد مضي 5 سنوات على قراءته وتتبعه، هذه المقدمة تكثّفُ بلا اختزال كما تتوسع بلا إطالة في الحديث عن السياسي كما يراه دولوز، وأورد منها مقاطع كاملة..

الاختلاف في ذاته

أرسطو وهيغل

أرسطو وهيغل

تتحمل الميتافيزيقيا الغربية حسب دولوز مسؤولية تمكين مفهومين كبيرين للاختلاف، ففي المقام الأول (النموذج الأرسطي): ذلك الذي يَعتبر الاختلاف كـ حصيلة، دوماً بالنسبة لهوية أو جوهر أصلي، لتتمايز الأشياء عن بعضها بحسب بُعدِهَا أو قُربِهَا من ذلك الجوهر فتصبح  مجرد أعراضٍ له، والاختلاف هنا هو نقصٌ مَا بالنسبة لجوهرٍ أصليٍ مَا، وفي المقام الثاني (النموذج الهيجلي): يظهر الاختلاف كـ نفي أو تعارُض بين عنصرين، وهنا لم يعد هناك جوهر أصلي يحدد الاختلاف بالنسبة للهوية، بل على العكس، تتحدد كل الهويات انطلاقاً من التعارض بين عنصرين، لكن الاختلاف في هذا النموذج يستمر بتبعيته للهوية، لكن بالعكس أي بالسلب، ليبقى الاختلاف مرتبطاً بنقص ما بالنسبة للهوية11دولوز. الاختلاف والمعاودة. 1968..

يقول كلاوديو بوينو في مقدمته لملفٍ عن دولوز في مجلة الفكر السياسي: «یقترح دولوز أمام هذا الفهم المیتافیزیقي المزدوج مفهومَ الاختلاف في ذاته، والذي لن يشير بعد الآن إلى النقص بل إلى الكثرة، فمن أجل تجنب الوقوع في الوهم الميتافيزيقي علينا أن لا نفترض بدايةً أي هوية أصيلة (جوهر)، ولا تعارضاً بين عنصرين تتحدد هويتهما في هذا التعارض نفسه (ديالكتيك السيد والعبد مثلاً)، و الشيء الوحيد الذي سنجده بادئ ذي بدء هو مواجهةٌ بين الكثافات (أو القوى، بمفردات نيتشه)، وهي (أي المواجهة) ما يعيّن الحقل المحايث عند دولوز، وهو (أي الحقل) المكان الذي ينشأ منه الاختلاف في ذاته.

إنَّ مفهومي الهوية والتعارض اللذين ينتقدهما دولوز بمفردات فلسفية، يتجسدان في نموذجين لفهم ما هو اجتماعي، ففي المقام الأول A = A)) تتموضع الجماعة حول هوية مشتركة (لغة، معتقد، أرض… إلخ)، وما يعين المجتمع كمجتمع هو هذا العامل المشترك الذي يقيم وحدة الأفراد، كما أنه يرسم الحدود التي تُقصي كل ما لا ينتمي إليها. ومنذ كتاب السياسة لأرسطو وحتى النموذج الديموقراطي المعاصر، استخدمت الفلسفة السياسية مفهوم الهوية لفهم وإرساء أسس الجماعة.

وفي المقام الثانيA B) ) يُستخدَم مفهوم التعارض لفهم تكوين الجماعة كنفيٍ «لآخرٍ» ما، وما يُوَّلـِدُ وحدة الجماعة في هذا النموذج هو علاقتها السلبية بعدو مشترك، أي أن المحرك المؤسس للجماعة والمولد للوحدة بين أفرادها هو علاقة تعارض، ولا شك أن مفهوم السياسي كما يراه كارل شميت يصلح كمثال جيد للمجتمع القائم على أساس التعارض: (ما يحدد الجماعة هو علاقة عدوان مشترك)، ومن الأمثلة الأخرى التي نسوقها عن هذا «التعارض التأسيسي» هو مفهوم «المدلول الفارغ» عند أرنستو لاكلاو12هو مبنى بلا معنى، أو قابل لأن نملأه بالمعنى الذي نريد بحسب القوى التي تحتكره في تلك اللحظة التاريخية المحددة، وغالباً ما يكون نفياً للآخر، كمفهوم الشعب أو مفهوم السلطة الحاكمة أو الآخر… إلخ.، ومفهوم الإيديولوجيا الذي أعاد الشغل عليه سلافوي جيجك، ففي الحالتين تتجه الإيديولوجيا نحو «فراغ أصيل» يعمل على توحيد سلاسل الدلالات انطلاقاً من علاقة نفي أولى.

يمكّنُنا مفهوم الاختلاف في ذاته من نقد هذين النموذجين للعلاقات داخل الجماعة، عن طريق اكتشاف أشكال جديدة للتفكير بالماكينة الاجتماعية13عند سبينوزا مثلا نجد، أن الجوهر/الهوية الأصيلة ليست سابقة على الخبرة ولا منفصلة عنها، بل هي تتمثل في الفعل، أي بما يقوم به الجسد لا العقل!، ذلك يعني تحليل السيرورات التي تنتظم وتتفرَّغ وتُدرَك وتتهمَّش من خلالها الكثافات والتدفقات في الماكينات الاجتماعية المختلفة14هناك ثلاثة أنواع من الماكينات الاجتماعية حسب دولوز وغواتاري، الماكينة المتوحشة والماكينة الاستبدادية والآلة الرأسمالية: تقوم الماكينة المتوحشة على فكرة الأرض أو جسد الأرض، أي أنها أرضية، وتكتب قوانينها على جسد الأرض/ التحالف والانتماء، والمهم فيها هو علاقات القرابة، وهذا لا يعني أن العلاقات الاقتصادية على الهامش، لكن صلات القربى تسيطر على العلاقات البدائية لأسباب اقتصادية، أما الماكينة الاستبدادية فتتوافق مع ما وصفه ماركس بنمط الإنتاج الآسيوي، وهنا تنشأ الدولة بشكلها الكامل والذي لن يتغير حتى في الاشتراكية الشرقية (الروسية والصينية)، فالإرث القديم يستطيل ويمتد لعصور طويلة، والدولة هي الماكينة الاستبدادية التي تعيد تغطية كل الأصقاع على جسد الأرض حيث تنظم الدولة نمطا للإنتاج يوحد النظام المناطقي السابق ويترجم قوانينه القديمة ويعيد دمجها في الخطاب الاستبدادي للحكومة. وبالنسبة لدولوز فإن ظهور الجهاز الحكومي يشكل أكبر عملية قطع في التاريخ. ولا تتأسس المجتمعات انطلاقاً من الملكية كما اعتقد مارسيل ماوسس بل من الديون، وهي سمة الماكينة الرأسمالية أي جعل الدَين غير متناه، فالرأسمالية لا تستطيع أن تفرز قوانين تحيط بالمجتمع ككل، لذلك فإنها تلجأ إلى تأسيس نسق مجرد من الكميات النقدية ويتميز النسق بوفرة مسلماته وبداهاته، كما أنه يضيف دوما بداهات جديدة.، وتحليل الأجهزة التي تعمل على إنتاج الذوات، فالمهمة لم تعد البحثَ عـمَّا يوحد الأفراد داخل الجماعة بل دراسة كيف يُدار المجال الحيادي- ما قبل الذاتي/ ما قبل الفردي- لإنتاج الأفراد والذوات في جماعة محددة. بهذا المعنى فإن مهمة الفلسفة السياسية المؤسِسَة عند دولوز تشبه إلى حد كبير العمل الجينيالوجي الذي افتتحه فوكو بالنسبة للسلطة، ففي الحالتين نستطيع التأكيد أنه علينا الابتعاد عن التساؤل حول حقوق المستبد ونقد الإيديولوجيا، لتصبح المهمة تحليل الأشكال الـمُحَدِّدَة لإنتاج الذوات (سيرورات التفرد) التي تعمل داخل كل نظام إجتماعي»15كلاوديو بوينو. مجلة الفكر السياسي. عدد نوفمبر 2012..

انقلاب دولوز على المفهوم الأفلاطوني للتمثـيل

أفلاطون مقلوباً

أفلاطون مقلوباً

 يقوم الفكر الأفلاطوني حسب دولوز على مفهوم التمثيل (Rrepresentaion)، فهناك عالم متعالٍ تعيش فيه الأفكار الأصيلة والجواهر، ثم عالم آخر تعيش فيه نسخ عن تلك الجواهر، وتنقسم إلى نسخ جيدة وأخرى رديئة. يعيب دولوز على التمثيل الأفلاطوني إزاحة وتصفية الاختلاف، وقبوله النسخ الجيدة فقط، ويسوق المثال التالي: لدى السيد بيريث ابنة غالية كثيراً على قلبه يريد تزويجها، علماً أنَّ الصورة المثالية للعريس القادم هي السيد بيريث نفسه، أي أنه يعتبر نفسه النموذج (الجوهر أو الصورة الأصيلة للعريس المفترض)؛ إنَّ من نافل القول أن كل عريس سيتقدم للزواج ستتم مقارنته بشخص السيد بيريث، أي قياس قربه أو بعده عن النموذج، وما العريس المثالي إلا النسخة المتطابقة، وما العريس السيء إلا محاكاة رديئة له لأنه سيشبهه في بعض الأشياء لكنه سيخالفه في كثير من المواضع.

على العريس أن يكون نسخة جيدة من السيد بيريث، لكنَّ ما يتكرر هو اختلاف العرسان بين بعضهم وليس التماثل مع الجوهر الأصلي المعطى قبلياً، فما يميزهم هو اختلافهم وليس الصفات المشتركة التي تجمعهم بالسيد بيريث أو علاقة النفي له، ذلك أن هذا التصنيف ممكن فقط إذا كنا جميعنا السيد بيريث ورأينا بعيونه، لكن ما أن نخلع نظارات السيد بيريث -التي تـُصَفِّـي التمايز وتُمَجِّد التطابق- حتى يتم اللقاء مع التعدد والكثرة والاختلاف.

لن يتردد أفلاطون إذن بإعلان الحرب على كل النسخ المختلفة (التي سيُسميها: أشباح)، فالوجود الحقيقي عنده هو فقط للمثال ومن يريد التطابق معه، ولا مكان لمن يحاكيه ويختلف عنه. لنفكر بالدولة القومية وصورتها المثالية، إنه لمن الجلي القول أنَّ أي تفكير بالدولة القومية لا يتطابق مع الصورة المثالية يُدان ويعتبر انحرافاً وتخريباً (للجوهر الأصلي أو العرق الصافي أو اللغة الواحدة… إلخ)، وستُعتَبَر كل نماذج الدُّوَل متعددة الأقوام عدوةً تجب محاربتها لأنها تضع الجوهر قيد المسائلة.

يُعلن الجوهرُ الحربَ على كل محاكاة (Simulacrum) لا تريد التطابق معه والذوبان فيه، فتحاول فلسفة دولوز قلب المعادلة والبدء من التنوع واللاتجانس والاختلاف، علّنا نخلع نظارات الواحدية والتطابق والهوية16فعبارة نيتشه الشهيرة (مات الله) لا تعني بأي حال من الاحوال موت الألوهية، بل فقط موت الإله الواحد مما سيسمح بعودة الآلهة المتعددة، أي التحول من الواحدية إلى التعدد والكثرة..

ثلاثة محاور للفكر السياسي عند دولوز حسب كلاوديو بوينو17كلاوديو بوينو. مجلة الفكر السياسي. عدد نوفمبر 2012.

1- تحليل الرأسمالية و أشكالها الجديدة:

يقول كلاوديو بوينو: «يؤكد دولوز أن المهمة الأساسية للفلسفة السياسية يجب أن تكون تحليل الرأسمالية وأنساقها، ويقوم في كتاب أنتي-أوديب جنباً إلى جنب مع غواتاري بتعريف الرأسمالية مقابل جميع الأنظمة الاجتماعية الأخرى -ما قبل الرأسمالية- انطلاقاً من الفرق بين الرموز والمسلّمات.

دولوز وغواتاري عام 1980، المصدر GZA.EDITORIAL

دولوز وغواتاري عام 1980، المصدر GZA.EDITORIAL

يتعين النظام الاجتماعي -حسب الأنتي أوديب- عند ترميز وتسجيل التدفقات التي تبني الجسم الاجتماعي نفسه، وما يميز نظاماً عن آخر هو ما يبرز على السطح حيث تُدَوَّنُ تلك الرموز (الأرض، الطاغية… إلخ). والرأسمالية تنشأ من التقاء تدفقين مجردين أو عمليتي تهجير (Deterritorialization)18والتهجير هنا لا يحيل إلى بعده الجغرافيّ فقط (ريف-مدينة/جنوب-شمال/مستعمرات-ميتروبول/هامش-مركز) بل أيضاً إلى انتزاع الفرد من الخطابات والعادات والتقاليد والابستمولوجيات وطرق العيش والسلطة التي يملكها، أي انتزاع الأفراد والجماعات من حق امتلاك ذاتها وتقرير مصيرها، ورهنها بهجرة رأس المال نفسه التي لا تقبل حدود الدول والأفراد والأقوام والخطابات. ويشير البروفيسور الماركسي كارلوس ليريا أستاذ الفلسفة في جامعة كومبلوتينسي -والذي يتفق هنا مع دولوز رغماً عنه- إلى أن الرأسمالية هي عملية تعرية الإنسان من كل صفاته الأنتروبولوجية، أي أنها عملية انتزاع الإنسان من أرضه وثقافته وقوميته واثنيته وجنسه ولغته ودينه وعاداته وتقاليده و… إلخ، بهدف الوصول إلى الانسان العاري تماماً والقابل للتسيير حسب حاجات الشركات الكبرى، وأن الحلم الأكبر لدى النظام الرأسمالي هو أن يولد البشر في مصانع بلا أم وأب وثقافة، مما يجعلهم بلا ملجأ يحميهم (القبيلة، العشيرة، الثقافة، الطبقة، الحزب، اللغة، الجنس… إلخ) وخاضعين تماماً لمتطلبات السوق.: قوة عمل العامل (الذي لا يملك أي شيء آخر) والرأسمال (القادر على شراء قوة العمل تلك وتحويلها إلى قوة إنتاجية)، والتقاء هذين التدفقين يعيّنان السلطة التهجيرية الكبرى لنمط الإنتاج الرأسمالي. وبخلاف الأنظمة الاجتماعية السابقة، لا تقوم الرأسمالية بترميز التدفقات بل أنها تحاول تصفية كل الرموز القائمة، ومن هنا ثورية النمط الرأسمالي أو ما يصفه ماركس بـ: (تبخر كل ما هو صلب في الهواء).

لكن، ومن أجل تحويل التدفقات المجردة إلى أرباح واستخراج القيمة المضافة، يحتاج النظام الرأسمالي إلى عملية إعادة تسجيل، أو ما يطلق عليه دولوز وغواتاري إعادة التوطين (reterritorialization)، ولا تنجح هذه العملية انطلاقاً من الرموز بل من الـمُسَلَّمَات.

يتميز الرمز بقدرته على تثبيت التدفق وتوطينه وترسيخه، أما المسلمات فهي مبادئ بديهية تفلت من أي استنتاج منطقي، والـمُسَلَّمَة تشبه النقطة العمياء التي تُستخدَم كأساس لكل القواعد الأخرى. هنا بالتحديد تكمن قوة الدمج الرأسمالية، أي أنها لا يجب أن تتبنى رموزاً (نجدها بسهولة مطبوعة في الجسم الاجتماعي) بل أن تستمر بإضافة مسلمات وبداهات جديدة دون أن تقطع التدفقات أو تثبتها، وهو ما يفسر النزوع التوسعي المستمر للرأسمال من حيث أنه عملية الدمج المستمر لمسلمات جديدة في الماكينة الاجتماعية.

لم تعد المسألة تتعلق إذن بحقوق السيادة أو الطابع المعياري للعقد الاجتماعي، بل بالتحليل المحدد لعمل الماكينة الرأسمالية والمسلمات الجديدة التي تجد نفسها مضطرة لتضمينها إشباعاً لتوسعيتها اللانهائية، كما يتميز تحليل نظام الـمُسَلَّمَات الرأسمالية عن نقد الإيديولوجيا بأنه لا يركز على الرموز التي تعيد خلق علاقات الإنتاج، بل على الوظيفة المحددة للماكينة الاجتماعية»19المرجع السابق نفسه.. 

 ما لا يأتي على ذكره البروفيسور بوينو، هو أن هذا التحليل سيكفّ عن اعتبار المجتمع مسرحاً كبيراً تقام فيه أدوار مُحَدَّدَة سلفاً، وسيبدأ بالتعامل معه بوصفه معملاً للإنتاج والتحويل، لينتقل الاهتمام من التمثيل (تجسيد الشخصيات في المسرح – الرموز) إلى الإنتاج القائم في المعمل (إنتاج المعاني والذوات والأفراد والسلوكيات… إلخ)، أي السيرورات التي تكمن خلف عملية التمثيل والتشخيص نفسها.

كما لن يعود اللاوعي مسرحاً نستدعي إليه شخوص الأب والأم والطفل القابع فينا، أي لن يعود ذلك السجن/القدر الذي اقترحه فرويد عندما جعلنا كلنا أوديب، بل سيصبح مصنعاً لإنتاج المعنى مما يحررنا من الأوديب المزروع فينا، وينبهنا إلى أن هناك عالماً آخر خارج المسرح، وما مكوثنا فيه (أي المسرح) إلا لتأخير انعتاقنا.

2- نقد الصورة الدوغمائية للفكر، القانون والحكم

في مقدمته نفسها يقول بوينو: «تتحدد الصورة الدوغمائية للفكر عن طريق مفهوم التَعَرُّف (La Rreconnaissance – Recognition)، أي عبر حُكم مَعرِفَة يُمَكّن المفهوم من اقتطاع جزء من تدفق الواقع أو الصيرورة وتثبيته في هوية سابقة عنه، لكننا مع التَعَرُّف ننسى خصوصية ما يتم تثبيته، فالمعرفة ممكنة في الفكر الكلاسيكي فقط عندما نُنَحي الاختلاف جانباً ونحاكم الحالات الخاصة من خلال قواعد عامة، لذلك يقترح دولوز أن نقوم بتحليل الحقل السابق لعملية تشكل المفاهيم نفسها أي ما قبل-المفهوم.

هناك نتيجتان مباشرتان لهذا النقد الدولوزي في الفكر السياسي، ففي المقام الأول يُمَكّنُنَا من نقد الإيديولوجيا، وفي المقام الثاني يُمَكّنُنَا من نقد مفاهيم الحكم والقانون، فالنقد يُوَّجَه للإيديولوجيا كون هذه الأخيرة تقوم على مفهوم التمثيل (Rrepresentaion) الذي يتضمن مفهوم التَعَرُّف، ويقترح دولوز أن نقوم بدراسة صور الفكر المختلفة أو ما يطلق عليه النولوجية، أي البحث في المجال ما قبل-التمثلي (الوجداني، القوى والكثافات… إلخ)، ودراسة سيرورات التوزيع، وتراتبيات القوى والكثافات القادمة من هذا المجال.

كما يسمح نقد التَعَرُّف بمسائلة مفهوم الحُكم الذي يشَكّل الدعامة الرئيسية لممارسة القانون، فمشكلة القانون هي مشكلة فلسفته، لذلك وعوضاً عن القانون علينا الاهتمام بفقه القانون أو الاجتهاد، فالقانون هو حالة مثالية لصورة الفكر الدوغمائية، حيث يتم تضمين الخاص في العام مع إزالة الاختلاف في ذاته، وذلك عبر التوهم أن هناك تطابق بين الحالة الخاصة والقانون العام الذي يسري على حالات مُشابهة، أما الاجتهاد فهو نظام قانوني متحرك يقوم بإدخال التعديلات لتتناسب مع كل حالة»20المرجع السابق نفسه..

3- نحو سياسة صُغرى (micro-politique)

نبقى مع بوينو في مقدمته حول دولوز: «ينشأ مفهوم السياسة الصغرى عند دولوز من التقابل الذي يقيمه بين الجزيئي والكُتَلي، وهما شكلان من العلاقة تُعيِّنَان صورتين للفكر، ففي الشكل الكُتَلي يتمركز ما هو اجتماعي حول هوية دامجة للعناصر غير المتجانسة، أما في الشكل الجزيئي فلا وجود لأي محور ناظم مع الاعتراف بالطبيعة المتغيرة لانتظام التدفقات التي تشكل كُليّة الماكينة الاجتماعية.

الفارق بين الريزوم والشجرة

الفارق بين الريزوم والشجرة

ويستخدم دولوز وغواتاري في الفصل الأول من كتاب ألف مستوى مفهوم الريزوم (أو الجذمور كما يرد في بعض المراجع والترجمات العربية) لوصف شكل التنظيم الاجتماعي، حيث يقومان بالاستعاضة عن التقابل كتلة-جزيء، بنموذجي الشجرة -الريزوم، ففي الشجرة تنتظم العناصر وفق هوية مركزية عامودية (جذع)، أما في الشكل الريزومي (الجذموري) فهناك عدة نقاط أفقية متغيرة باستمرار (الريزوم الحيواني مثلاً كجحور فئران الحقل أو أعشاش النمل ذات المخارج والمداخل المتعددة والمتصلة فيما بينها). وفي فصل متقدم من الكتاب نفسه، يُدخِل الكاتبان تقابلاً ثالثاً، هذه المرة بين سياسة الدولة (السياسة الكبرى) والسياسة المتجولة-الرَّحالة (السياسة الصغرى) التي قام العديد من المفكرين باستخدامها للتمييز بين حركة مايو 68 وبين السياسات الحزبية المركزية للاتحاد السوفيتي والصين الشعبية»21المرجع السابق نفسه..

من الممكن استخدام هذا التقابل في سياقنا لوصف الحراكات والانتفاضات الشعبية التي اندلعت في المنطقة العربية عام 2011، دون نسيان عاملين رئيسيين، أولهما أن عدم وجود قيادة/مركز واحد للحراكات لا يعني عدم وجود مراكز متعددة (تنسيقيات، خطابات، برامج… إلخ)، وثانيهما الوصف الخاطئ لها بالربيع العربي كما يشير سانتياغو ألبا ريكو22سانتياغو ألبا ريكو. الإسلاموفوبيا: نحن والآخرون والخوف. 2015.: فهو لم يكن عربياً فقط بل كان أيضاً كردياً وأمازيغياً و… إلخ، كما أنه لم يكن طفحاً ربيعياً طارئاً بل تتويجاً لمسيرةٍ شعبيةٍ نضجت خلال عقود.

تعني السياسة الكبرى ممارسة السياسة في البرلمان أو الحكومة أو المحاكم أو الصحافة، وهي تتسم بالتبعية لمركز يقوم حول ما يعده عامّـاً، لكن «ما هو سياسي» لا يقتصر على هذه الفضاءات لممارسته، فيجتازها إلى فضاءات أخرى كانت تُعَدّ مَجالاتٍ خاصةٍ كالعائلة والجنس والمؤسسات والعيادات والمدارس والسجون والمستشفيات… إلخ. فالسياسة الكبرى غير قادرة على إحداث التغيير الاجتماعي لأنها ستقوم به من فوق، وهنا تبرز السياسات الصغرى لتنفُذ إلى مناطق وخطابات أخرى من داخل الجسم الاجتماعي نفسه.

يُشيد ميشيل فوكو في مقدمة الطبعة الإنجليزية لـلـ أنتي-أوديب بالكتاب، واصفاً إياه بأنه يمثل بياناً ضد الفاشية والسياسات المركزية التي تختزل المجموعات غير المتجانسة بهوية واحدة وبرنامج عمل واحد، فهو بحق مانيفيستو لمقاومة اختزال التعدد في الواحدية والاختلاف في الهوية.

هوامش [ + ]
1.خوسيه لويس باردو. قواعد اللعبة: حول صعوبة تعلم الفلسفة. 2004.
2.باول باتتون. دولوز والسياسة. 2000.
3.دولوز وغواتاري. ما هي الفلسفة؟. 1994.
4.لدى الفيلسوف الإسباني المعاصر خوسيه لويس باردو وجهة نظر مهمة حول فكرة «الجديد»، فما هو الجديد بالضبط؟ إن ما-بعد الحداثة هي محاولة اختراع شيء جديد كلياً، شيء أجدد من الجديد نفسه الذي عممته الحداثة كبراديغم، وما الانتقال من (النيوماركسية، النيوكانطية، النيوكولونيالية، النيو-أي شيء…) إلى (ما-بعد البنيوية، ما- بعد الماركسية، ما- بعد الكولونيالية، ما- بعد أي شيء…) إلا إشارة إلى هذا السلوك، فالحداثة وصلت الى طريقٍ مسدود (موت الإنسان) ، لتأتي ما-بعد الحداثة  وتعدنا بتجاوز موت الإنسان  إلى ما بعده، الى الخلود ربما أو الأزلية…!!  يقول باردو في نصٍ جميل بعنوان الحداثة والخراب: «لذلك فإن جميع تلك الإعلانات التي تبشر بقرب الوصول إلى «شيء جديد كلياً» تنتهي بالإحباط وخيبة الأمل. وذلك من الميزات الجوهرية للعصور الحديثة أيضاً، فبدل أن نحصل على «شيء آخر» تجدنا نحصل على «الشيء نفسه» مرةً تلو الأخرى…». كما يحضرني ما قاله بودلير في احدى قصائده: «… كلُّ ماهناك هو العدم، إلا الموت…».
5.نيتشه. حول فوائد ومساوئ التاريخ من أجل الحياة. 1874.
6.كـَمَثَلِ كرونوس Cronos الذي يُقَسِّمُ الزمن إلى وحَداتٍ ثـُلاثيّة (ماضي-حاضر-مستقبل) ويحاول حصر الصيرورة في الحاضر الذي يعيد نفسه بشكل أزلي، فهي دوماً الآن + الآن + الآن + الآن +… حتى ما لا نهاية.
7.دولوز. منطق المعنى، الفصل الأول: الصيرورة المحضة. 1969.
8.دولوز. نيتشة والفلسفة. 1962.
9.هايدجر. السؤال عن الشيء: حول نظرية المبادئ الترنسندنتالية عند كانط، 1963.
10.مجلة الفكر السياسي، عدد نوفمبر 2012، مقدمة ملف العدد حول دولوز، بقلم كلاوديو بوينو الحاصل على ماجستير في تاريخ الفن من جامعة تشيلي وماجستير في الفكر المعاصر من جامعة دييغو بورتاليس، والذي يعد رسالة الدكتوراه حول دولوز في جامعة كارديف في بريطانيا. تعد مقدمة كلاوديو هذه أهم مرجع أعتمِدُهُ في هذا النص لاستيعاب الخطوط الواصلة بين المفاهيم التي يقترحها دولوز واللقاء الحقيقي به بعد مضي 5 سنوات على قراءته وتتبعه، هذه المقدمة تكثّفُ بلا اختزال كما تتوسع بلا إطالة في الحديث عن السياسي كما يراه دولوز، وأورد منها مقاطع كاملة.
11.دولوز. الاختلاف والمعاودة. 1968.
12.هو مبنى بلا معنى، أو قابل لأن نملأه بالمعنى الذي نريد بحسب القوى التي تحتكره في تلك اللحظة التاريخية المحددة، وغالباً ما يكون نفياً للآخر، كمفهوم الشعب أو مفهوم السلطة الحاكمة أو الآخر… إلخ.
13.عند سبينوزا مثلا نجد، أن الجوهر/الهوية الأصيلة ليست سابقة على الخبرة ولا منفصلة عنها، بل هي تتمثل في الفعل، أي بما يقوم به الجسد لا العقل!
14.هناك ثلاثة أنواع من الماكينات الاجتماعية حسب دولوز وغواتاري، الماكينة المتوحشة والماكينة الاستبدادية والآلة الرأسمالية: تقوم الماكينة المتوحشة على فكرة الأرض أو جسد الأرض، أي أنها أرضية، وتكتب قوانينها على جسد الأرض/ التحالف والانتماء، والمهم فيها هو علاقات القرابة، وهذا لا يعني أن العلاقات الاقتصادية على الهامش، لكن صلات القربى تسيطر على العلاقات البدائية لأسباب اقتصادية، أما الماكينة الاستبدادية فتتوافق مع ما وصفه ماركس بنمط الإنتاج الآسيوي، وهنا تنشأ الدولة بشكلها الكامل والذي لن يتغير حتى في الاشتراكية الشرقية (الروسية والصينية)، فالإرث القديم يستطيل ويمتد لعصور طويلة، والدولة هي الماكينة الاستبدادية التي تعيد تغطية كل الأصقاع على جسد الأرض حيث تنظم الدولة نمطا للإنتاج يوحد النظام المناطقي السابق ويترجم قوانينه القديمة ويعيد دمجها في الخطاب الاستبدادي للحكومة. وبالنسبة لدولوز فإن ظهور الجهاز الحكومي يشكل أكبر عملية قطع في التاريخ. ولا تتأسس المجتمعات انطلاقاً من الملكية كما اعتقد مارسيل ماوسس بل من الديون، وهي سمة الماكينة الرأسمالية أي جعل الدَين غير متناه، فالرأسمالية لا تستطيع أن تفرز قوانين تحيط بالمجتمع ككل، لذلك فإنها تلجأ إلى تأسيس نسق مجرد من الكميات النقدية ويتميز النسق بوفرة مسلماته وبداهاته، كما أنه يضيف دوما بداهات جديدة.
15, 17.كلاوديو بوينو. مجلة الفكر السياسي. عدد نوفمبر 2012.
16.فعبارة نيتشه الشهيرة (مات الله) لا تعني بأي حال من الاحوال موت الألوهية، بل فقط موت الإله الواحد مما سيسمح بعودة الآلهة المتعددة، أي التحول من الواحدية إلى التعدد والكثرة.
18.والتهجير هنا لا يحيل إلى بعده الجغرافيّ فقط (ريف-مدينة/جنوب-شمال/مستعمرات-ميتروبول/هامش-مركز) بل أيضاً إلى انتزاع الفرد من الخطابات والعادات والتقاليد والابستمولوجيات وطرق العيش والسلطة التي يملكها، أي انتزاع الأفراد والجماعات من حق امتلاك ذاتها وتقرير مصيرها، ورهنها بهجرة رأس المال نفسه التي لا تقبل حدود الدول والأفراد والأقوام والخطابات. ويشير البروفيسور الماركسي كارلوس ليريا أستاذ الفلسفة في جامعة كومبلوتينسي -والذي يتفق هنا مع دولوز رغماً عنه- إلى أن الرأسمالية هي عملية تعرية الإنسان من كل صفاته الأنتروبولوجية، أي أنها عملية انتزاع الإنسان من أرضه وثقافته وقوميته واثنيته وجنسه ولغته ودينه وعاداته وتقاليده و… إلخ، بهدف الوصول إلى الانسان العاري تماماً والقابل للتسيير حسب حاجات الشركات الكبرى، وأن الحلم الأكبر لدى النظام الرأسمالي هو أن يولد البشر في مصانع بلا أم وأب وثقافة، مما يجعلهم بلا ملجأ يحميهم (القبيلة، العشيرة، الثقافة، الطبقة، الحزب، اللغة، الجنس… إلخ) وخاضعين تماماً لمتطلبات السوق.
19, 20, 21.المرجع السابق نفسه.
22.سانتياغو ألبا ريكو. الإسلاموفوبيا: نحن والآخرون والخوف. 2015.
المصدر