بلاد الحرب أوطاني


فوزات رزق

رأيت،فيما يرى النائم، أنني أسير في الشارع، وسط حشد من الجماهير الغاضبة يتقدمهم شاب مفتول الذراعين، محمولًا على الأكتاف، يشق حنجرته بالهتاف: (شعبٌ واحد لا شعبين، من مراكش للبحرين). ولأنني وجدت نفسي بين هذا الحشد مصادفة، دون معرفة الغرض من هذه التظاهرة؛ رأيتني أسأل الرجل الذي يسير بجانبي:

ـ ما المناسبة؟

ـ أي مناسبة؟

ـ مناسبة التظاهرة.

ـ أيتظاهرة؟

ـ ألم تأت للمشاركة في التظاهرة، ما الذي أتى بك إذًا؟

ـ أنا مثلي مثلك. رأيتهم يسيرون فسرت معهم.

فجأة اعتلى أحدهم المنبر، وأخذ يتحدّث عما يحدث في المنطقة العربية هذه الأيام:

(الأردن ضد سورية، وسورية ضد السعودية، والسعودية ضد قطر، وقطر ضد الإمارات العربية المتحدة، والإمارات ضد مصر، ومصر ضد السودان، والسودان ضد أرتيريا، وأرتيريا ضد الصومال. هذا وضع لا يطاق، علينا نحن الشعوب العربية أن نعيد لهذه الأمة أمجادها).

 وأخذ يردد والجماهير تردد خلفه:

بلاد العرب أوطاني     من الشام لبغدان

ومن نجد إلى يمنٍ     إلى مصر فتطوانِ

تذكرت فخري البارودي صاحب النشيد، حيث كانت القومية العربية تأكل رأسه، فخري البارودي ذكرني بصباح فخري، وصباح فخري بدوره ذكرني بنجاح سلام وصباح. صباح التي كانت تغني أيام الجمهورية العربية المتحدة:

من الموسكي لسوق الحمدية   أنا عارفة السكة لوحدية

ونجاح سلام التي غنت لعبد الناصر:

بدي عريس أسمر عربي شرط. من المتحدة طلبي شرط. يا مين يلبيلي طلبي.

ومات عبد الناصر دون أن يلبي لها طلبها. عبد الناصر الذي قدّم استقالته بعد حرب حزيران، وكيف نزل المصريون إلى شوارع القاهرة والإسكندرية وبور سعيد، وكل المدن المصرية، وباتوا ليلتهم في العراء يطالبون عبد الناصر بالعدول عن الاستقالة ومتابعة قيادة المسيرة الظافرة؛ لإعادة الهيبة لهذه الأمة التي فقدتها في تلك الحرب اللعينة.

لا أدري لماذا نحن في سورية لم نفعل آنذاك مثل الشعب المصري، ولم ننزل إلى الشوارع نطالب القيادة بمتابعة المسيرة؛ ربما لأن قيادتنا الحكيمة، ذلك الزمان، أقنعتنا أنها باقية إلى الأبد. وأن كل شيء يمكن أن يعوّض ما دام العدو الإسرائيلي الغادر لم يستطع اقتلاع النظام الثوري من جذوره.

فجأة حضرت أمامي لودي شامية، وهي تصدح بأغنيتها الشهيرة “نهر الأردن ما بيتحول”. بعد أن كان نهر الأردن قد تحوّل وانتهى أمره.

ومن ثم انطلقت من حولي بأغنية:

عبيلي الجعبة خرطوش وناولني هالبارودي

بيكلفني خمس قروش البيقرب صوب حدودي

ولست أدري من الذي علق من الخلف على هذه الأغنية بقوله:

عبيلي الجعبة دخان وناولني هالولاعة

بدي أوصل على الشام ما في أكثر من ساعة

……………….

الخطيب الذي اعتلى المنبر ما زال يردد: صحيح أننا في تلك الحرب قد خسرنا الجولان؛ ولكن -كما يقولون- إذا كان للباطل جولة فللحق جولات.

من جانبي سمعت أحدهم يهمس بصوت لا أكاد أسمعه: لقد أعلن عن سقوط القنيطرة قبل ثلاثة أيام من دخول الجيش الإسرائيلي إليها. ورأيتني أضع أصبعي على فمي وأهمس له: هسسسسسسسس لا تفضحنا. فيما كانت دلال الشمالي تسترسل في أغنيتها:

من قاسيون أطل يا وطني    وأرى دمشق تعانق السحب.

وأكاد أسمع ألف هاتفة        وهران تلثم في العلا حلب

وما كدت أسمع كلمة وهران، حتى حضرت أمامي الجزائر بكل تفاصيلها، جزائر جميلة أبو حيرد، وأحمد بن بيلة، والهواري بو مدين، وعبد العزيز بو تفليقة الذي أبى واستأبى أن يتخلى عن مسؤوليته في قيادة الجزائر إلى برّ الأمان على الرغم من مرضه الذي أقعده، وأعجزه حتى عن قضاء حاجاته الخاصة. ورأيتني أردد:

قسما بالنازلات الماحقات

والدماء الزاكيات الطاهرات

والبنود اللامعات الخافقات

في الجبال الشامخات الشاهقات

نحن ثرنا فحياة أو ممات

وعقدنا العزم أن تنتصر الثورة السورية

فصاح الجميع من حولي: فاشهدوا، فاشهدوا، فاشهدوا

………………..

لا أدري من أين نبق أبو سلمان من بين الحشد، مادًا يده يسأل الناس صدقة: من مال الله بجاه هذا النهار الفضيل. قلت له: ألم تجد يا أبا سلمان أفضل من هذا النهار الذي سقطت فيه القنيطرة، ووصل الجنود الإسرائيليون إلى سعسع؟! وما إن تفوهت بكلمة سعسع حتى صاح أحدهم من جانبي:

عفوًا فيروز ومعذرة      أجراس العودة لن تقرع

خازوق دق بأمتنا        من شرم الشيخ إلى سعسع

التفت كيما أتبين الرجل، وإذ بأحدهم من الجانب الآخر يهتف:

أنا بعث وليمت أعداؤه     عربيٌ، عربيٌ، عربي

فقلت له هذا شعر سخيف مثل صاحبه.

كانت التظاهرة قد خرجت من ساحة السير شمالًا باتجاه جسر البواركة. وحين وصلنا إلى حافة الجسر أخذت الجماهير تنشد:

تقضي البطولة أن نمدّ جسومنا      جسرًا، فقل لرفاقنا أن يعبروا

وما إن عبر آخر متظاهر حتى رأيت أم رباح فوق رأسي تقرأ وتتثاءب:

بسم الله الرحمن الرحيم. رقيتك رقوة الست سارة. أم الجودي والطهارة،يللي فرشتها تبن ومخدتها حجارة” 




المصدر