مغامرة الحرية الكبرى


رغدة حسن

كل شيء صار يوجعنا، الفرح.. الصدى.. الحلم.. والنوم.

النوم الذي يأخذك إلى صراع مرير، مع القلق والهواجس المسنونة على حجر الذاكرة، يضعك في مواجهة مع ما يحدث، وما حدث، يستدرج رائحة الأرصفة العتيقة، صوت المقاهي، قافية الليل الدمشقي النادرة، سفر البحر في جملة العاشقة، والخوف: الخوف أن تموت في سريرك غريبًا ليس إلا.

فهل ستوّقع الهدنة مع المنفى؟أم تؤجل جنازتك إلى أن يعلن حمام الجامع الأموي، لحظة انعتاق أبواب دمشق من مكر التجربة؟

صار كل شيء يوجعنا، تفقّد قلبك، لقد أصبح مطرقة مهولة القدرة، تقض مضجع اندماجك في ماراتون الجنون العظيم، للفوز بضفة تشاطئها حلمك بالسلام المفقود، تجرك إلى صفحة الخبر اليومي، وببذاءة الوقت تقول لك: انظر كيف تحول الموت إلى حادث اعتيادي.

أيها المفتون بعزلتك، إن صعدت برج بابل، أو هبطت إلى قاع البحر الأدرياتيكي، لن تنجو!!

صار لقلبك مجسات تشم رائحة البلاد أينما حلّت، تضعها لك على مائدة دهشتك الأولى، حين تتعرف على جغرافيا المنافي، ليصفعك السنديان، والآس، كلما هممت أن تلتقط صورة بقرب كاتدرائية ما، هذه الصور لن تكون للذكرى، وكأنك سائح مدلل يوثق زياراته في اكتشاف العالم، إنها طريقتك في الخداع.. خداع الألم الذي يجوب أوردتك، حين تحاول قطع حبلك السري مع سماء مكتظة بالشهداء، ثم بمحاولة جدًا فاشلة، تذهب لتقنع العالم بأنك هنا لتسترجع حقك المسلوب، وبأنك دفعت ضريبة مغامرة الحرية الأولى، وتريد مربعًا آمنًا، وساحة تتسع لشعاراتك المبجلة. ما يوجعنا أننا سقطنا في شرك الحياة، مبرر الهزائم الدائم، والجميل.

هذه ليست دعوات للموت الجماعي، لكنها الخيبة تهزأ بما نحن فاعلون، نجلس على تخوم الوقت، نبكي ضعفنا، واكتشافنا المتأخر لعجزنا.

العجز الذي منحنا متاهته بلا حدود.

 كنا نأمل، حين رتبنا حقائب الرحيل إلى الرحيل، أن ندرك كنه المعادلة المستحيلة، وأن بمقدورنا التحكم بحبال اللعبة، لكن للأسف عجزت أصابعنا عن صنع قصيدة موقوتة، تهز أركان البشاعة، على الأقل.

نحن عاجزون عن وضع خطة صغيرة ليومنا التالي، نغرق كل يوم أكثر في طين الوقت، نزاول الأخطاء ذاتها، ونشتمها.

كلنا صار كلنا يوجعنا، ولا نرى سبيلًا لتخفيف حدة الألم إلا بالدمع الحارق، والجلوس على قارعة المنفى، لنصرخ ياويحنا، ثم نهرع لتمجيد السخرية، كإسبرين فعّال في حال تخثر الدمع، أو استعصى.

نجتمع على مسرح الفضاء الأزرق، وكأننا أصبنا جميعًا بزهايمر الأمكنة، منا من يعتقد أنه يلتقي الأصحاب في النوفرة، أو مقهى الروضة، أو مقهى الفرح الحمصي، نتبادل التبريكات، ونتناول قهوة المجاز، نقدم التعازي، حتى الرقص في أعراس الأصدقاء صار مجازًا، نحب ونعشق ونقيم علاقات متكاملة على هذا الفضاء الأزرق، جدارنا الأخير.

أجل صعب جدًا أن تكون سوريًا، سورية وضعتنا جميعًا في صف الانتظار للحدث الممنوع، وبقيت هي المعجزة، حين قبلنا أن نأخذ دور الضحية! إنالضحايا لا تحرر الأوطان.




المصدر