يتصارعون.. وسورية “خريطتهم”


عقاب يحيى

في برنامج (ساعة حرة) على قناة (الحرة)، كنت كـ “الأطرش في الزفّة” أمام متحدث أميركي، وأخرى روسية، يتنابذان، ويتصارعان، وكلّ منهما يستخدم تعابيرًا متشابهة: “لن نسمح، ولن نقبل، ونحذّر، وهذا خط أحمر غير مسموح بالاقتراب منه، أو تجاوزه…”، وتعابير متقاربة تصبّ جميعها في لوحة الوضع السوري وما يراد فعله، كاشفة بكل وضوح عن حدود مناطق النفوذ والتنازع عليها، والسوريون غائبون، ومغيّبون، وكأنّ بلادهم جزءًا من أوطان أولئك، أو كأنهم قوة وصاية مشرّعنة، وما على السوريين سوى أن يصطفّوا في هذا الخندق، أو ذاك، كما تفعل بعض القوى، وأولها نظام الفئوية الفاقد الأهلية، والقرار.

نظريًا، في المؤتمرات والقرارات والوثائق التي يُصدرون، يُكررون الحرص على استقلال سورية ووحدتها، ويُحددون طبيعة النظام الذي يرتؤونه لسورية: “شامل، وديمقراطي، وغير طائفي”، ويتكلمون كثيرًا عن واجب، وأهمية صياغة دستور لسورية، وإشراك “جميع المكونات”، والنساء بنسب معينة يجب ألا تقلّ عن 30 بالمئة.

أما على الأرض فشيء آخر، حيث يتصارعون ويتنافسون، وأحيانًا يتّفقون، وأحيانًا يوصلون الأمور إلى حافة الهاوية، خاصة بين الدولتين الأقوى: الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. وما حدث من تطورات بعد إسقاط “التحالف الدولي” لطائرة تابعة للنظام، اخترقت الخطوط الحمراء الأميركية الموضوعة لخريطة منطقة النفوذ.

على الأرض اتفاق واضح لمرتسمات مناطق النفوذ بين “سورية المفيدة” برعاية روسية، وإيرانية (وما يزال الخلاف حول دور إيران)، ومناطق النفوذ الأميركي، والتركي، بينما تجري محاولات لترتيب وضع الجنوب، وفق صيغة معينة تتراوح بين شكل من الإدارة الذاتية برعاية أردنية-إسرائيلية، وبين هذه المناطق يتكرر الكلام عن منطقة تابعة للمعارضة، وغالبًا مما توصف بأنها تلك التي ترعاها تركيبًا.

سيضع الأميركيون، ومعهم التحالف الدولي، يدَهم على المنطقة الشرقية الممتدة من الحسكة حتى الرقة، وقد أوجدوا من يساعدهم في ذلك: (قوات سورية الديمقراطية)، بشكل عام، و(حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي الذي يُشكّل جزءًا من فلسفة وتنظيم (حزب العمال الكردستاني) التركي، وقد أهّلوا هذه القوات عسكريًا وإداريًا، وأعدّوها لاستلام الإدارة في الرقة، كما هو الشأن في محافظة الحسكة؛ وهذا ما يجد معارضة شديدة من الجانب التركي الذي يرى في هذا الوجود اختراقًا لخطوطه الحمراء، وتهديدًا لأمنه القومي، وهذا ما يُشكّل نقطة خلاف جوهرية بين تركيا وأميركا، وحدود المناوشات فيه، وانعكاسه على العلاقات الأميركية-التركية، وخيارات وبدائل تركيا باتجاه تدعيم علاقاتها مع روسيا، وحتى مع إيران، ما لم تتوصل إلى تفاهمات مع الإدارة الأميركية، ويكون لها دورها في معارك إخراج (داعش) من الرقة، وفي مستقبل المنطقة، ووجود القوات الكردية التابعة لـ (الاتحاد الديمقراطي) الكردي.

فيما يبدو أن الطرفين الأميركي والروسي لم يصلا إلى اتفاق، أو توافق حول المنطقة الشرقية: دير الزور، وصولًا للبادية السورية، والخط الواصل بين الحدود السورية والعراقية، فهذه المنطقة -إضافة إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي وتماسها المباشر مع العراق، وما يعنيه ذلك من تشابكات في الدور الإيراني وامتداداته- تحتوي على أهم مناطق النفط والغاز في سورية.

روسيا، وإيران، والنظام عبرهما، يحثّان الخُطى للوصول إلى الحدود العراقية-السورية، في أكثر من نقطة مهمة، باتجاه البادية السورية، حيث وصلت قوات النظام إلى قرية الزرقة البعيدة نحو 27 كم عن قاعدة (التنف) التي تُرابط فيها قوات أميركية، وحشدٌ من قوى المعارضة العاملة معها، وتتجه منذ أيام نحو منطقة (السخنة) الغنية بالنفط؛ ما شكلّ خرقًا للخط الأحمر الأميركي؛ وأدّى إلى إسقاط طائرة تابعة للنظام في رسالة تحذيرية بالغة الدلالة، والردود الروسية الغاضبة والمحذرة، وتسخين الوضع بينهما، وفي المنطقة.

في الوقت نفسه أميركا لم تصل إلى ترتيبات واضحة للجهات التي ستتعاون معها في إدارة هذه المنطقة، وهو ما يجري التهيئة له عبر عدد من الصيغ، واستقدام بعض زعماء العشائر، وبعض التحركات لأطراف سورية تريد تقديم نفسها كمعتمد لدى الإدارة الأميركية، في حين سيكون صعبًا، وثقيلًا دفع (قوات سورية الديمقراطية) لتكون هي الجهة التي تتولى إدارة هذه المنطقة العربية.

هذا ما يجري على الأرض، صراع مصالح ومشاريع، وتصفية حسابات، بينما توجه الدعوات للقاء أستانا في الخامس من الشهر القادم، ويسارع دي مستورا لتحديد العاشر من تموز موعدًا للجولة السابعة من جنيف، والسؤال الكبير يطرح نفسه بقوة: أين موقع الحل السياسي الذي يتحدثون عنه من هذه التطورات؟ وكيف سيكون شكله ومراميه أمام هذه التموضعات والصراعات؟ ثم أين هم السوريون من كل ما يحدث؟ وما هو دورهم الحقيقي في شؤون بلادهم التي ترتسم الخرائط لها؟ وهل بالإمكان القيام بفعلٍ ما يوقف الخطر، ويوجه الجهد نحو حل سياسي شامل يحافظ على وحدة البلاد واستقلالها؟

المشهد الذي لم يعد خافيًا على أحد، بكل دلالاته وما يحمل من أخطار جدّية على وحدة سورية واستقلالها، يفرض على المعارضة السورية أن تقف وقفة مسؤولة تُعيد فيها الحسابات والخطاب والتوجه؛ بما يجعلها شريكًا في تقرير مصير البلاد، وعاملًا فاعلًا في منع التقسيم والتفتيت، والحفاظ على الوحدة الترابية والسياسية والمجتمعية لسورية.

من الجلي، والسنوات السبع شاهدة، أن الرهانات على الخارج ووضع الآمال عليه، والفشل في بناء المعادلة الذاتية، لن يقود إلا إلى مزيد من الدمار، والقتل، وإلى الاستنزاف المستديم الذي يتخذ طابع الحرب الأهلية المرشحة للاستمرار سنوات طويلة مفتوحة. دون إغفال المديات التي وصل إليه المشروع الإيراني، ومخاطره في اختراق المجتمع السوري، وقابلية تلغيمه من الداخل، وجرجرته إلى صراعات مذهبية لم تحسن المعارضة في التعامل معه بوعي، وبنظرة شمولية تضع مصلحة الشعب السوري بشتى أطيافه ومكوناته، بمن فيهم الكتلة الصامتة، أو “الرمادية” وحتى المؤيدين للنظام، فوق أي اعتبار، وتتجه للجميع بخطاب الانفتاح، والتسامح والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، والعمل على فرز تلك الفئة القليلة من القتلة والمجرمين، وفي مقدمهم رأس النظام وعصاباته، وتقديمهم لمحاكم محلية ودولية ينالوا فيها الجزاء العادل.

إن ما يجري لا يمكن تغييبه، ويجب بحثه، وبحث وسائل العمل لإفشاله، بكل ما يقتضي ذلك من حركية جديدة، وتقديم رؤية سياسية واقعية ترسم معالم سورية التي نريد، وتجمّع حولها أغلبية الشعب السوري الحريصين على وحدة واستقلال وحرية بلدهم، والتأسيس لنظام تعددي؛ ينهي الاستبداد وإرثه ورموزه، ويقيم دولة الحق والعدل والكرامة.




المصدر