في مصاير أنظمة الاستبداد


منير شحود

لكلّ نظام استبدادي طريقته في الموت؛ في صراعٍ داخلي، أو في مواجهة قوى خارجية، أو في وصوله إلى طريقٍ مسدود وتفكّكه بفعل مرور الزمن وتحولات الحياة ذاتها. منذ بداية القرن العشرين تسبّبت الأيديولوجيات الشمولية بالمزيد من الكوارث جرّاء طموح قادتها وحشدهم للجماهير وراء أهداف قومية أو دينية أو مثالية، في ظروف تاريخية محدَّدة، مستغلين حاجة الجموع لاسترداد كرامة مفقودة أو أمجاد ضائعة أو التعلُّق بأحلام مستحيلة.

حشدت النازية في ألمانيا وحليفتها الفاشية في إيطاليا الجماهير وراء شعارات قومية وعنصرية، واندفعت في محاولة مجنونة للسيطرة على العالم في الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمتهما الساحقة، بعد أن خسرت أوروبا عشرات الملايين من الضحايا والكثير من المدن المدمَّرة في أفدح الكوارث الحربية عبر التاريخ.

في السبعينيات، استنفذ نظام الجنرال فرانكو في إسبانيا طاقته، بعد وفاة مؤسسه، وتحوَّل تدريجيًا نحو الديمقراطية من خلال استعادة المَلَكية الدستورية السابقة للحرب الأهلية. وسقط نظام بينوشيت في تشيلي في الثمانينيات تحت وطأة التظاهرات الشعبية والتحالف بين القوى اليسارية والكنيسة الكاثوليكية، وحدث الشيء ذاته لمعظم دكتاتوريات أمريكا اللاتينية.

أقامت الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، على رأسها الاتحاد السوفييتي السابق، أنظمةً بوليسية يقودها حزبٌ واحد وزعيمٌ أوحد، وتحققت فيها تطورات اقتصادية مهمة، لكن بأثمان باهظة تمثلت بمقتل الملايين والزجّ بالآلاف في المعتقلات السرية كقربان يقتضيه الوصول إلى الجنة الأرضية الموعودة (الشيوعية)! تأسس ذلك على فكرة لينين المتمثلة بإمكان بناء الشيوعية في البلدان الرأسمالية الأقل تطورًا، مثل روسيا، بخلاف ما ذهبت إليه الماركسية التقليدية.

استرخصت الأنظمة الشيوعية الإنسانَ، تحت مسميات الصراع الطبقي والثورات الثقافية، وطُبِّقت فيها أساليب عمل أقرب إلى العبودية. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، تحولت هذه الأنظمة بالتدريج إلى مجرد هياكل فارغة، بعد استنفاد طاقتها التاريخية، ثم انهارت كأحجار الدومينو في نهايته، ولم يحلْ امتلاك الاتحاد السوفييتي لآلاف الرؤوس النووية دون انهياره المدوّي.

وفي عام 2001 لاقى نظام طالبان القروسطي في أفغانستان المصيرَ نفسه على يد القوات الأميركية. كما سقط نظام صدام حسين بالضربة القاضية عام 2003 بعد إضعاف نظامه وإنهاك المجتمع العراقي بالعقوبات الأممية التي تلت غزو الكويت وحرب الخليج الأولى التي استتبعته.

كان للصين الشيوعية طريقها الخاص في التحوّل، فبعد وفاة ماو تسي تونغ عام 1976، قاد دينغ سياو بينغ عام 1978 تحولات اقتصادية عميقة؛ أفضت إلى ما يسمى “اشتراكية السوق”، لكن بتخطيط مركزي. انتشلت التحولات الاقتصادية الجديدة عشرات ملايين الفلاحين من تحت خط الفقر، ونما الاقتصاد بصورة مضطردة وبنسب فاقت 10 بالمئة سنويًا. كان ذلك مخرجًا تاريخيًا مناسبًا للصين كمرحلةٍ انتقالية، لكن بثمن سياسي باهظ، ولو من الناحية الرمزية، حيث قُمع المطالبون بالديمقراطية، في ساحة تيانانمن في 4 حزيران/ يونيو 1989. الآن، بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود، حمل التطور الاقتصادي والتقني الكثير من الحريات للصينيين، وتحول الحزب الشيوعي الحاكم إلى ما يشبه جهازًا إداريًا لتنظيم عملية التطور المتسارعة، ولن يطول الأمر كثيرًا حتى تحلق الصين، البلد الأكبر في العالم من حيث تعداد السكان، بجناحيها الاقتصادي والديمقراطي معًا.

مع قدوم ثورات “الربيع العربي”، انهار نظاما الحكم في تونس ومصر بسرعة، مقارنةً بنظام القذافي في ليبيا؛ بسبب المستوى الأقل نسبيًا لاحتكار السلطة والحدّ الأدنى من الحريات وتجارب التنوير السابقة في هذين البلدين، بخاصة ما تميَّزت به تونس في عهد الرئيس بورقيبة من إرساء الكثير من الحقوق المدنية. وتعقَّد الوضع في اليمن لأسباب عدّة، منها النزاعات القبلية والتدخلات الخارجية، وما زالت الحال تراوح مكانها بين كرّ وفرّ في الصراع العسكري مع انغلاقٍ في المخارج السياسية حتى الآن.

لا تختلف الحالة السورية عن اليمنية إلاّ بدرجة التعقيد، ومنها تعدد الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع، ما يعكس أهمية الموقع الجغرافي لسورية، وما نجم عن ذلك من تدخلات خارجية مباشرة أو من خلال تكليف الأطراف الداخلية المتناغمة معها في مهمات تحقيق مصالحها. أفضى ذلك كله إلى حجب المسألة الأساس؛ تجاوز حالة الاستبداد إلى استعادة الديمقراطية الغضّة التي عاشها السوريون في منتصف الخمسينيات بمنظور عصري.

مثلما كان النظام السوري فريدًا في تركيبته وتحالفاته؛ سيكون تلاشيه بالطريقة المركّبة والمواربة ذاتها. ففي الداخل، لم يختلف النظام السوري عن أي نظام دكتاتوري في هذا الشرق المنكوب في طريقة تعامله مع الموروث الديني، أي اعتماد ثنائية الحاكم (الدينية-الدنيوية) التي تلائم المستوى الأدنى للوعي الشعبي في انفصامه عن وقائع الحياة المجرّدة والعنيدة والتعلق بحبال السماء. الفرادة السورية تمثلت في أن النظام تعامل مع تجمعات وهيئات المجتمع المدني على نمط “هات ما عندك لنتقاسمه مقابل حمايتك”، هذا ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل الروحي أيضًا! أما على المستوى الخارجي فكانت السياسة ذات وجهين؛ تحالفات فوق الطاولة، وأخرى احتياطية تحت الطاولة يمكن أن تُستخدَم عند اختلال توازن النظام نتيجة خطوة غير محسوبة بدقة.

ربما تمثلت إحدى مشكلات تعقد عملية التغيير في سورية في فجائية اندلاع الاحتجاجات التي كشفت عن عدم وجود البديل السياسي، أو أن هذا البديل لم يكن على تلك الدرجة من التنظيم المؤسساتي، ليقوم باشتقاق آلية تفكيك النظام من خلال فهم نقاط قوته وضعفه. عدم وجود البدائل السياسية الملائمة صفة ملازمة للأنظمة المستبدة التي تثبط عملية التطور الطبيعية لمجتمعاتها.




المصدر