الأزمة الثقافية في عالمنا العربي


هيفاء بيطار

لا يمكن أن أنسى ذلك الكاتب الكهل وأناقة الفقراء التي تعكسها ملابسه! التقيته في القسم الثقافي لجريدة النهار، يوم كنت أكتب في جريدة النهار قصصًا ومقالات. كان الكاتب العجوز يتوسل مديرَ التحرير (في ذلك الوقت) الأستاذ جورج كعدي، قائلًا إن على جريدة النهار أن تعطيه مالًا مقابل عشرات القصص والمواضيع التي نشرَها في الصفحة الثقافية؛ أحسست بألم فظيع –ألم العار– نيابة عن هذا المبدع الذي يتسول مالًا عن كتابته! كان رئيس التحرير (جورج كعدي) لطيفًا ومتألمًا، لكنه شرح للكاتب أن سياسة الجريدة لا تسمح بإعطاء أي مكافأة للمواد الثقافية!

كنت في بدايات النشر في الصحف، ولم أكن أهتم كثيرًا بالأمور المالية؛ إذ كنت أكتفي بسعادة النشر في جريدة النهار، وأن أشرب القهوة -من حين لآخر- مع المرحوم غسان تويني، ولم يخطر ببالي أن أتساءل عن حقوقي المالية! فيما بعد، بخاصة حين صرت أنشر في جرائد عدة، لاحظت السياسة نفسها، ففي عدة جرائد لبنانية مشهورة، لا يعطون مكافأة مالية لمن ينشر في صفحة الثقافة، بينما يتقاضى كتاب صفحات الرأي والقضايا مالًا! لم أفهم هذا المنطق المجحف لسببين، أولًا: أي ظلم وأي استغلال أن يكتب كاتب أو كاتبة شعرًا أو قصة قصيرة أو خاطرة مجانًا! المجانية مرفوضة في كل عمل، فالعمل له قيمته المادية، وثانيًا: لماذا يعتبر المسؤولون عن هذه الجرائد أن مقالات الرأي أو القضايا أهم وأعلى مستوى وقيمة من الأدب؟! كنت واحدة من مئات الكتاب الذين نشروا في صفحات ثقافية، ولم أتقاض قرشًا واحدًا!حتى إن بعض الكتاب توقفوا عن النشر في الصفحات الثقافية، ولسان حالهم يقول: لماذا ننشر مجانًا! والبعض أخذ يتمرن على كتابة مقالات القضايا أو الرأي؛ حيث المال الوفير.

أظن أن هذا التعامل هو تحقير لمفهوم الكتابة والفكر والإبداع، وهو أكبر تحقير للكاتب أيضًا، فقيمة الكتابة لا يحددها تصنيفها أو شكلها، بل الأفكار التي تطرحها، والتساؤلات التي تحرضها لدى القارئ. فبأي منطق يرى هؤلاء أن مقالًاما هو أعلى مستوى، وأكثر قيمة (يدفعون نحو مئة دولار أو أكثر)، من قصة قصيرة قد تكون أكثر إفادة للقارئ وأكثر تحريضًا لفكره وإمتاعه فكريًا! كم من كتّاب مقالات -وبخاصة أولئك الذين يكتبون مقالات يومية- لا معنى لكتاباتهم، حتى إن أحدهم صار لا يعرف من أين يخترع مواضيع كتابته، فصار يقص علينا أحلامه أو يروي نكتًا سمجة، أو يجعل من حدث بمنتهى السخف والـ لامعنى، قضية مهمة، وبتعاطف، وربما توطئ من مالك الجريدة. وكم من مواقع إلكترونية -مهمّة جدًا- يكتب فيها الكتاب مجانًا! ترى ما نسبة الكتاب في العالم العربي الذين يعيشون بكرامة من كتاباتهم؟ حتى نجيب محفوظ، وقبل حصوله على جائزة نوبل للآداب، ظل موظفًا طوال عمره! وفي سورية -مثلًا- وأثناء الاجتماع السنوي الذي يجري بداية كل عام في دمشق، لمناقشة أمور الكتاب ومشكلاتهم، وكان معظم الكتاب من كل المحافظات، يحضرون هذا الاجتماع (قبل الثورة السورية) كان موضوع رفع سقف الضمان الصحي والمعونات المادية الصحية للكتاب، ورفع تسعيرة المقالة أو القصة، هي المواضيع التي تحتل معظم وقت الاجتماع! كم هو محزن ومخزٍ أن يكون المبدع فقيرًا وأن يتسول مالًا، كذلك المبدع العجوز الذي نشر عشرات القصص والنصوص الرائعة في جريدة (النهار)، دون أن يتقاضى قرشًا، ولا يزال الحال كما هو في (النهار) وفي (السفير) -أيضًا- التي لا تدفع للقصص القصيرة والشعر.

أي ذل أكبر من أن يضطر كاتب إلى تسول كتابته، وكيف عليه أن يقبل ولا يشعر بالغبن والظلم، وهو يرى -بأم عينه- ويشهد على زمن عربي يحتقر الإبداع بجعله مجانيًا!ولعل دول الخليج بمجلاتها وجرائدها وحدها تنصف الكاتب، وتجزل العطاء؛ حتى لو كانت المادة المنشورة قصة أو قصيدة أو خاطرة. الحافز المادي مهم لأنه يُشعر المبدع بكرامته، والإنسان يبدع أكثر حين يكون شاعرًا بالكرامة والحرية، وإلا أصابه القنوط واليأس؛ وربما بعضهم جفت موهبته من القهر والإحساس بالظلم. أذكر رجلًا يعمل “نجار باطون”، وكان يكتب قصصًا بديعة ويملك موهبة عالية، قال لي إن كل الجرائد والمجلات التي نشرت قصصه لم تعطه مكافأة، فكف عن الكتابة، وصار يعمل “نجار باطون”، وكم هنالك من أمثاله! فالمبدع إنسان حساس، وحين لا يقدره أحد ولا يعطيه مالًا مقابل إبداعه؛ فإنه يُصاب بالإحباط ويطلّق الكتابة، لأن أهم شيء هو شعور الإنسان بقيمته وبقدره.

وكم من مواقع إلكترونية مهمّة جدًا مجانية، أي لا تعطي أي مكافأة مالية لكتابها، وثمة موقع ممتاز فكريًا وأدبيًا وسياسيًا، ويكتب فيه أهم الكتاب لأنهم يحترمون هذا الموقع، ولأن الكاتب يحتاج إلى منبر يعبر فيه عن أفكاره، والكتاب الحقيقيون هم نواة الثورة الاجتماعية ضد الأنظمة الاستبدادية وضد الفساد، فأي ظلم وانتقاص من قيمتهم ألا يُعطَوا حقوقهم.

ظاهرة تستحق الدراسة فعلًا، ومساءلة أصحاب هذه الجرائد والمواقع الإلكترونية، فمن أين سيعيش الكتاب؟

الدول الراقية تعطي الكاتبَ منحةً مالية كبيرة. وإن كان موظفًا فإن راتبه يستمر، لكي يتفرغ للكتابة، أما في عالمنا العربي؛ فيلجأ الكاتب إلى مهن عديدة كي يعيش، ويؤمن لقمة أولاده.

أتمنى أن تنتبه الجهات الحكومية وأصحاب المجلات لهذه القضية المهمة جدًا، وهي أن الاحترام الحقيقي للكاتب يكون بأن يُدفع له عن إبداعه، وألا يكون إبداعه مجانيًا؛ كي تنمو الموهبة في تربة صحية وسليمة.




المصدر