الكتابة عن سوريا، داخلٌ وخارج


صادق عبد الرحمن

هذا النص هو الخامس ضمن ملف «عن الكتابة ومشاغلها»، الذي تنشر الجمهورية نصوصه صباح كل يوم خميس، ونُشِرَ منها حتى الآن: «الكتابة والأسماء» بتوقيع مجهول، «طريق أخرى للشعر في سوريا» لـ رائد وحش، «حصار الكتابة: سؤال المعنى والجدوى» لـ أوس المبارك، «تلك الفكاهة المنجية» لـ رشا عباس.

*****

ما معنى الداخل والخارج في سوريا؟ أو ما هي حدود سوريا التي سأتحدث عن الكتابة من داخلها ثم من خارجها؟

تتطلب الكتابةُ عن «الكتابةِ عن سوريا من داخلها وخارجها» الإجابةَ على السؤالين أعلاه حتماً، والبحثُ عن الإجابة هنا ليس «فذلكةً» على ما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، ذلك لأنه قبل قيام الثورة السورية كان الداخل السوري مقفلاً بحيث تستحيل الكتابة منه تقريباً، وبعد قيام الثورة انكسرَ ذاك الإقفال الصلب مؤقتاً، لينفتح بعدها الداخلُ على الخارج في سوريا وتضيع الحدود بينهما.

الكتابة من داخل سوريا الأسد

فلنتخيل بلاداً يعيش فيها الناس في شروط الحرية العادية، يستطيعون أن يقولوا ما يريدون بما لا يخرق القانون العام المعلن، ويستطيع الكاتب فيها أن يسأل الناس والجهات الحكومية ويحصل على إجابات، وأن ينشر ما يصل إليه من نتائج دون أن يخاف على حياته، أو حياة أولئك الذين سألهم. ترى ما الذي سيكون عليه الفارق بين أن يكتب أحدهم عن بلاد كهذه من داخلها، أو أن يكتب من خارجها؟

سيتعلق الفارق بالتقاط التفاصيل اليومية التي تراها العين، وبإدراك بعض الإشكاليات التي يعيشها الناس في تلك البلاد بشكل مباشر، وتحليل عناصرها والبحث في خلفياتها، وعلى هذا ستكون الكتابة من بلاد كتلك من خارجها قليلة الفائدة، إذ ما الذي قد يعنيه أن تكتبَ عن أمرٍ لا تراه ولا تسمعه ولا تلمسه بحواسك، ما دمتَ قادراً على الذهاب إليه، والاحتكاك بتفاصيله الحيّة؟

أما في سوريا الأسد، فقد كان الفارقُ أنَّ من يحاول الكتابة من داخل سوريا سيلتقط التفاصيل اليومية التي تراها العين، وسيدرك بعض الإشكاليات التي يعيشها السوريون بشكل مباشر، وستنتهي المسألة هنا. ما كان الكاتب أو الباحث أو الصحفي في سوريا قادراً على تحليل العناصر والبحث في الخلفيات، ولا قادراً على سؤال الناس والجهات الحكومية والحصول على أجوبة حقيقية، وما كان يستطيع أن ينشر ما يصل إليه من نتائج دون أن يخاف على حياته، أو على حياة أولئك الذين سألهم.

كان السوريون غير مرئيين تقريباً، أو أنهم كانوا مرئيين جزئياً عبر الدراما التلفزيونية المرعية حكومياً على وجه الخصوص، وليس عبر الكتابة والصحافة والعمل البحثي.

من يرجع إلى النصوص التي صدرت عن سوريا خلال العقود الأخيرة، في كتب أو صحف أو مجلات، سيجد أن النسبة العظمى منها تتحدث عن التاريخ البعيد أو القريب نسبياً، حتى ما قبل حكم البعث، أو عن قضايا لا تمسّ حياة السوريون برصانة وعمق، أو عن الجيوسياسة وموقع سوريا الاستراتيجي ودورها الإقليمي، أي عن سوريا الأسد، أو سوريا مجسدةً في «القيادة السياسية».

أما السوريون، كيف يعيشون؟ وكيف تدير دولة الأسد شؤونهم وتحكم بلادهم؟ فهو ما كانت الكتابة عنه محدودة، متناثرة، تعجّ بالأسماء المستعارة والمصادر التي لا يمكن إعلانها، لا تستند إلى مشاهدات عيانية تفصيلية أو استبيانات أو استطلاعات جدية وموثوقة، وتعتمد التحليل من بعيد، والبعيدُ المقصود هنا هو البعيد بالمعنى النفسي والمعرفي، وليس الجغرافي.

كثيراً ما دفعَ أولئك الذي تجاوزوا كل ما سبق، وكتبوا نتائج مشاهداتهم واحتكاكهم وتحليلهم دون قيود، أثماناً باهظة من سنوات عمرهم في السجون، ودفع بعضهم حياته ثمناً لذلك. كما أن كثيرين منهم كتبوا بعمقٍ عن البلاد بعد أن غادروها، وأصبحوا خارجها بعيدين عن قبضة السلطة، فيما لم تكن الكتابة في صفحات الشؤون المحلية في الصحف السورية المرخصة وشبه المرخصة كتابةً عن حياة السوريين من داخل سوريا بأي حال، بل كانت فقط لأنه ليس مقبولاً أن تصدر صحيفةٌ محليةٌ بلا شؤون محلية، وكان أن تجاسَر بعض الصحفيين على البحث في ملفات فسادٍ على نحوٍ عميق وجاد، فتم إيقاف عملهم، على الأقل.

كانت لدي محاولات كتابية في صفحات الشؤون المحلية قبل الثورة، وكان في تلك المحاولات كثيرٌ من المشقة والعناء، وغير قليلٍ من الكذب والمداورة والاجتزاء. كنتُ أرى الحقائق فأناور كي أقول بعضها، وكنتُ أقول في نفسي إن قول بعض الحقائق، والتلميح من بعيدٍ إلى بعضها الآخر، أفضل من الصمت. واليوم إذ أطلُّ على نُسَخٍ أحتفظ بها من بعض تلك النصوص، أرى كيف أنني لم أكن أقول شيئاً تقريباً، لكن الحق أيضاً أنه كان في ذلك تمرينٌ بالغ الأهمية على المناورة والتلاعب باللغة والمفاهيم، أو التورية والفنتازيا إذا صح القول.

كتب كثيرون عن سوريا من داخلها طيلة عقود حكم الأسد، أعني وهم مقيمون داخلها، لكن كتابات معظمهم ما كانت لتختلف كثيراً عن الكتابة من الخارج، كأن جميع الكتاب والصحفيين والباحثين محكومٌ عليهم أن يكونوا خارج سوريا الأسد، أو أن يكونوا داخلها فيشاهدوا ما يحدث بأم العين، دون أن يتمكنوا من البحث فيه واستقصائه، ودون أن ينشروا ما يصلون إليه من نتائج تتأتى مما يتيسر لهم من بحثٍ وملاحظة.

أكثر من داخل وأكثر من خارج

قبل قيام الثورة في سوريا، يصحّ الكلام عن كتابةٍ من داخلها قلّما قام بها أحدٌ فعلاً، وكانت نتائجها وخيمة على بعض من كتبوا. وعن كتابةٍ من خارجها، من خارج الحدود كما ينبغي أن تكون بالنسبة لأي بلد. وعن كتابةٍ ثالثةٍ من مساحةٍ بينهما، هي داخل سوريا بالمعنى الجغرافي، لكنها ليست داخلها فعلاً، أو أنه لا مجال فيها للاستفادة ما يُفترض أن تتيحه تجربة الكتابة عن حياة السكان من قبل كاتبٍ يعيش بينهم.

غير أن هذا تحطم بعيد قيام الاحتجاجات التي انقلبت ثورة شعبية، إذ بدأ سوريون كثيرون يتجاسرون على الكتابة عن بلادهم وحياتهم من داخلها، وآخرون يتجاسرون على الحديث بحرية للصحافة والكتّاب ومراكز الأبحاث، وبدا أن حكايات عشرات السنوات المدفونة في الصدور قد بدأت تظهر إلى السطح.

ساعدت في ذلك دون شكٍ وسائل التواصل الاجتماعي، والاهتمام الإعلامي والبحثي العالمي بسوريا وما يدور فيها، لكن العامل الأبرز كان انهيار الخوف، والاعتقاد باقتراب نهاية عقود الإرهاب الكبير، وبأن السوريين على وشك أن يمتلكوا حياتهم وحكاياتهم وتجاربهم، وبلادهم.

اليوم، تشظّت سوريا بالمعنى الجغرافي، وتكاد تكون الكتابة المفيدة عن سوريا الأسد من داخلها، أعني من مناطق سيطرة النظام، شبه مستحيلة، أو بالغة الصعوبة كما كان عليه الحال قبل الثورة تقريباً. لكن الظروف تغيرت مع ذلك، والتجربة التي اكتسبها الكتّاب والصحفيون كانت مفيدةً في توسيع هامش الكتابة عن سوريا الأسد من داخلها، وإن كانت الأسماء المستعارة والمناورة وقول بعض الحقائق فقط، لا تزال سيدة الموقف.

هناك أيضاً كتابة من داخل «سوريات» أخرى، من مناطق سيطرة الفصائل الإسلامية وفصائل الجيش الحر، ومن مناطق تنظيم الدولة، ومن مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية، ولكلٍ منها خصوصيتها ومحاذيرها ومخاطرها.

لا تتوفر في أي منها شروطٌ تتيح للكاتب الاستفادة الكاملة من عيشه بين من يكتب عنهم، لكن الأكثر قتامةً دون شك هي مناطق داعش، إذ لا نعرف على الإطلاق أحداً يكتب من داخلها سوى عناصر التنظيم في مجلاتهم ومنشوراتهم، لكننا نعرف الكثير عن الحياة داخلها من كتابات من غادروها، إلى الخارج.

تمددت سوريا بالمعنى السكاني وتبعثرت أيضاً، وأصبحت كتلٌ كبيرة من السوريين تعيش خارجها، في دول الجوار على وجه الخصوص، ويصح القول إن أجزاءً من سوريا باتت خارجها بالمعنى الجغرافي، ولن يغير من هذه الحقيقة سوى اندماج السوريين في المجتمعات المضيفة، وهذا ما لا يبدو أنه على وشك الحدوث، إذ يعيش معظم السوريين حياتهم في فضاءات سوريةٍ بالكامل تقريباً.

هنا ستكون الكتابة عن السوريين وحياتهم في الخارج من قبل من يعيش بينهم ضرباً من الكتابة من الداخل، ولكن عندما يكتب الشخص نفسه عن ما يدور في سوريا الآن، سيكون هذا كتابةً من الخارج دون شك، لكنه أيسرُ مما كان عليه الحال قبل الثورة، وأكثر قدرةً على نقل ما يقترب من واقع الحال فعلاً، وهذا لأن شبكات المعارف والتواصل والأجواء التي أنتجتها الثورة، لا تزال فاعلةً بالاستفادة من شبكة الإنترنت على وجه الخصوص، ولا تستطيع أي من القوى المسيطرة فرض إغلاقٍ كامل، وإن كانت جميعها تبذل قصارى جهدها في ذلك. لكن يبقى أن هذه الكتابة تفتقد إلى الحيوية، إذ لا يلتقط الكاتب التفاصيل بنفسه، بل يعتمد على ما يقوله الآخرون، عبر سكايب مثلاً.

على ما تقدم، سيمكنني أن أكتب، عبر تجربتي الذاتية، عن الكتابة بين داخل سوريا وخارجها من مساحتين: الأولى داخل سوريا الأسد، في مناطق سيطرة النظام بعد قيام الثورة السورية. والثانية خارج سوريا الأسد، تركيا حيث جزءٌ من سوريا، من السوريين، يواصلون حياتهم معاً.

الكتابة من هنا وهناك

ينبغي أول الأمر التفريق بين النصوص العيانية التي ترصد حياة الناس وتجاربهم من جهة، والنصوص التحليلية التي تعتمد على معارف الكاتب وملاحظاته الشخصية من جهة أخرى.

ما الذي يعنيه حقاً أن ينشر كاتبٌ نصاً عيانياً يرصد ظاهرةً أو حدثاً ما في منطقة ما، إذا كان سينشرها باسمٍ مستعار، وسيكون جميع شهوده في النص بأسماء مستعارة، وسيحرص على أن لا يقدم أي تفاصيل قد تقود إلى شخصيته أو شخصيات شهوده الحقيقية، بما في ذلك أحياناً تفاصيل بالغة الأهمية عن أماكن إقامتهم أو عملهم، أو دراستهم أو أعمارهم، وسيبذل جهداً كبيراً أصلاً في إقناعهم بالحديث، الأمر الذي سيقومون به، في حال موافقتهم، تحت الخوف الذي سيغير كثيراً من مضمون ما يقولونه ومن صدقيته. ذلك فضلاً عن أن الكاتب سيكون مضطراً للجوء إلى دائرة معارفه الضيقة، التي يأمن على نفسه بين أفرادها، ما يفقد نصه كثيراً من الموضوعية.

هذا كان حال كثيرٍ من النصوص التي كتبتُها وتم نشرها أثناء عامي 2013 و2014 من داخل سوريا، كانت تلك كتابةً في الظلام، أول نتائجها أنها لن تصمد أمام «الحقائق» التي قد يقولها آخرون بوجوههم وأسمائهم الحقيقية. وكانت تلك كتابةً عرجاء، لا تستند إلى عملٍ ميداني أو استبيانات أو إحصائيات، ولا حتى إلى معلوماتٍ موثوقة، إذ أن ظروفاً كهذه تدفع الناس إلى قول ما يرغبون أن يكون الحقيقة، وليس الحقيقة كما يرونها.

زاد الأمر سوءً على هذا الصعيد بعد مغادرتي للبلاد، إذ حتى مع إمكانية التواصل مع شبكة المعارف والزملاء في مناطق سيطرة النظام، فإن الكتابة باتت متعذرةً لسبب جوهري، وهو أنني لم أعد أرى بأم العين ما يدور هناك، وهو ما أفقدني عنصر الارتكاز الأساسي، أعني القدرة على التقاط التفاصيل والتحولات التي تستحق رصدها، والقدرة على الحكم على ما يقال لي من معلومات، وبغياب هذا العنصر إلى جانب الخوف الدائم لدى من أتواصلُ معهم، وقلة عددهم وضيق نطاق حركتهم، بات الاستمرار في كتابة نصوص صحفية كتلك أمراً متعذراً.

توقفتُ تماماً عن هذا النوع من الكتابة بعد مغادرة البلاد، وحلّت محلها كتابةٌ مماثلةٌ وأكثر عمقاً وجدوى عن مناطق سوريا الخاضعة لسيطرة فصائل الثورة والمعارضة. وإذا كنتُ لا أرى بنفسي ما أكتب عنه ولا من أكتب عنهم، فإن سهولة التواصل مع القاطنين في تلك المناطق، وكثرة عدد المغادرين حديثاً لها من حولي، وقدرة أولئك وهؤلاء على الحديث بحرية نسبية، كلها أمورٌ جعلت كتابة نصوصٍ عيانية عن سوريا الخارجة عن سلطة الأسد، من هنا من تركيا، أكثر يسراً وجدوى من كتابة نصوصٍ عيانية عن سوريا الأسد من داخلها، وهذا دليلٌ آخر على مدى «خارجية» الكتابة عن سوريا الأسد من داخلها.

على أن الأمر بدا بالنسبة لي معكوساً إلى حدٍّ ما فيما يتعلق بكتابة النصوص التحليلية ونصوص الرأي، ويرجع ذلك إلى سببين اثنين، أولهما موضوعيٌ والآخر ذاتي، يتعلق بما تركته الحرب من أثرٍ عليّ، وهو ما قد يختلف من شخصٍ إلى آخر.

أما الأول، فلأن العيش في البلاد، والاحتكاك المباشر بالناس وسلوكهم اليومي، أمرٌ بالغ الأهمية للتحليل وبناء الآراء وجمع المعطيات. كان سلوك عناصر النظام على الحواجز، وكلام سائقي وسائل النقل العامة والباعة في الأسواق، وإلى آخره مما كنت أعيشه في البلاد، عاملاً رئيسياً وحاسماً في بناء الآراء وتحليل الوقائع، وهو ما بات غائباً في الخارج، إذا استثنينا ما قد ينتج عن الاحتكاك بالسوريين في المنافي.

على أن السبب الذاتي كان أبلغ أثراً بالنسبة لي، وأدى إلى تراجعِ عدد النصوص التحليلية التي أخلصُ عبرها إلى آراء حول الصراع السوري ومآلاته، وإلى تغيّرٍ في طبيعتها أيضاً.

عندما يكتبُ المصابون بالسلامة

«لكن أكثرنا وخاصة من اضطر للخروج من البلاد، حملَ إصابته بالسلامة»، هذه جملة من نص الصديق عبد الحميد يوسف في الجمهورية، المصابون بالسلامة.

كان ذاك الإحساس بأنني «مصابٌ بالسلامةِ وقلّةِ الخسارة» طاغياً، لقد خرجتُ من البلاد دون أدفع أثماناً بالمعنى المباشر للكلمة. كانت الأثمان التي دفعتُها، وهي بالغة القسوة، على قلّتها قياساً بغيري، أثماناً نفسيةً ومعنوية، وخسارةً لبعض الأصدقاء والزملاء الذي ذهبوا إلى السجون أو المقابر أو التغييب القسري. لكنني لم أخسر عضواً من جسدي ولا سنوات من حياتي في السجن، ولا أحداً من أقرباء الدرجة الأولى من عائلتي ولا بيتاً أو أرضاً.

هكذا بتُّ أشعر أن أهليتي لقول الآراء عن سوريا أقل من سواي، وبات لدي هاجسٌ يتعلق بالحذر حول أي كلامٍ ذي صلة بمسار الحرب، التي يحاصرني شعورٌ بأنني لم أدفع كثيراً من أثمانها عندما كنتُ في البلاد، وها أنا أعيش خارجها الآن.

جاءت النصوص التحليلية القليلة التي كتبتها في الخارج بعد صراعٍ مع هذه الفكرة، وصراعٍ مع اللغة نفسها وكيفية التعبير عن الأفكار، وتميزت بالتحليل لعناصر القضية التي أتناولها، ومحاولة استخلاص نتائج منها، والحذر في بناء الآراء على تلك النتائج والمعطيات، ومحاولة تجنب قول أشياء حول ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله، وحول الدروب التي ينبغي السير فيها وتلك التي ينبغي تجنبها، ذلك لأنني لستُ أنا من سيسير تلك الدروب، ولست أنا الذي قد أدفع أثمان السير فيها من لحمي ودمي.

لا شكّ أن في شعوري ذاك مبالغةً، لأن لكل شخصٍ في الدنيا كامل الحق في قول رأيه في أي قضية في الدنيا، وللسوريين أينما كانوا على وجه الخصوص مطلق الحق في القول بما يخصّ قضية بلادهم، ذلك لأنهم سيتأثرون بمآلاتها حتماً ولو كانوا في أقاصي الأرض. غير أن قناعتي النظرية تلك، كانت تصطدم دائماً رغم أنفي بشعورٍ طاغٍ بالذنب، وبالخشية أيضاً من تكرار الوصول إلى نتائج وبناء آراءٍ يثبت خطؤها أو قصورها لاحقاً.

ستسقط مخاوفي تلك أمام أي محاججة منطقية دون شك، لكن غزارة الدماء تعطّلُ مكنة المنطق أحياناً كثيرة، وتذهبُ نتائجُ هذا التعطّل في اتجاهات مختلفة باختلاف الأشخاص وطبائعهم وظروفهم، بل وفي اتجاهات متعاكسةٍ أحياناً.

الكتابة من الخارج من أجل البقاء في الداخل

من هنا، من واحدٍ من أقرب المنافي إلى سوريا، تبدو الكتابة بالنسبة لي وسيلة المقاومة الأنجع لتجنب السقوط في فخّ الخارج، في الفخّ الذي شارك كثيرٌ من السوريين في نصبه لأبناء جلدتهم الفارين من جحيم الحرب والاعتقال والاختطاف، عبر تكرار القول في كل مناسبة: «ما دمتَ قد ذهبتَ إلى خارج البلاد، فينبغي عليك أن تلزم الصمت».

يُراد من قبل جهاتٍ كثيرة أولها النظام السوري وحلفاؤه أن نصير خارج بلادنا نهائياً، أن نندمج حيث نحن، وننسى ما يدور هناك، ويدفعُ باتجاه ذلك كثيرٌ من السوريين المناهضين للنظام بتقريعهم الدائم للمهاجرين واللاجئين، رغم أن هؤلاء الباقين في الداخل من خصوم النظام السوري، سيكونون أحوج الناس لعودة أكبر عددٍ ممكن، أياً كان شكل نهاية الحرب.

تنوعت الدروب التي سلكها السوريون، بين الاندماج في الخارج طوعاً أو كرهاً، والبقاء في الداخل طوعاً أو كرهاً، والقفز المعنوي المتكرر بين الداخل والخارج والعيشِ في مساحةٍ بينهما طوعاً أو كرهاً أيضاً، وتبقى الكتابة عن سوريا من خارجها، كيف ما كانت الكتابة وأياً يكن منبرها، وسيلةً بالغة الأهمية كي تبقى بلادنا قريبةً من أصابعنا، وكي تبقى ذاكرتنا على قيد الحياة.




المصدر