تصريحات الرئيس الفرنسي وموقعها


عقاب يحيى

زوبعة من الرفض والغموض، وربما الأسى، تلاحقت بعد تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي بدت مخالفة جدًا للمواقف الفرنسية الثابتة من الثورة السورية، ورأس النظام المجرم، في عهد أولاند، وقبله ساركوزي، وكأنّ الرئيس الفرنسي يبدأ عهدًا جديدًا، يمكن أن يسحب معه مواقف عدة دول محسوبة على أنها من أصدقاء الشعب السوري، وظلت مواقفها مؤيدة للثورة، ومتناوبة الموقف من مصير النظام ورأسه.

الرئيس الفرنسي، الظاهرة الجديدة في الحياة الفرنسية، الحريص على التغيير، وحفر بصمة خاصة، تحدث صراحة في مسائل حرجة، حول الموقف من النظام ورأسه، وبما يشير إلى الموافقة على بقائه، ولو لفترة غير واضحة من عملية الانتقال السياسي، وفي الوقت نفسه كرر مقولةً، طالما ترددت على مسمع معظم هيئات المعارضة، إنه لا يوجد بديل قادر على تحمل مسؤولية مرحلة ما بعد الأسد، وأنّ خبراته ولقاءاته تؤكدان عدم جاهزية المعارضة ومؤسساتها على استلام الحكم، وإدارة شؤون البلاد، بما يعني:

1 – أن وجود الأسد، والحال هذه، بغض النظر عن الرأي بطبيعة الأسد كعدو للشعب، وبما يقوم به من فعل إجرامي؛ يشكل ضمانة ما لعدم الانهيار، والدخول في الفوضى.

2 – إبداء الخوف الكبير من بعبع واقعي، ومضخّم يتمثل بالإرهاب والنظرة إليه، وأن الفوضى المحتملة ستحمل معها مزيدًا من التنظيمات الإرهابية.

3 – الحكم على المعارضة بأنها غير مهيّأة لأن تكون البديل، يعني أنها غير جديرة بمسؤولية المرحلة الانتقالية، وبما يفسر قابلية البحث عن بدائل ما مشتركة بين النظام وغيره من أطراف وشخصيات معارضة.

رئيس الجمهورية الفرنسية، في لقائه مع الهيئة العليا للمفاوضات برئاسة منسق الهيئة الدكتور رياض حجاب، في 17 من الشهر الفائت، كرر العبارات نفسها تقريبًا، وإن بصورة أخف، في ما يتعلق بالموقف الواضح من رأس النظام وبقائه.

لقد أبلغهم بجلاء أن الاهتمام الأكبر، وشبه الأوحد في هذه المرحلة لفرنسا، بل لمعظم دول العالم، بما فيهم أميركا وروسيا، هو محاربة الإرهاب، وقد استفاض في شرح مخاطره على أوروبا والعالم، وبما يعني أن جميع الأمور، بما فيها الحل السياسي، وإيقاف المقتلة السورية مؤجلة حاليًا، ريثما يتمّ القضاء على الإرهاب، أو أنها ليست في موقع الأولوية، وأن هذا الأمر لا يخصّ فرنسا وحسب، بل جميع هؤلاء.

في عدة لقاءات لممثل الائتلاف في فرنسا مع مستشار الرئيس والحكومة، وآخرين في موقع القرار، بهدف معرفة خلفيات وأبعاد موقف الرئيس الفرنسي، وموقعها من تغيير المواقف السابقة لفرنسا، يؤكد هؤلاء بعض الحقائق التي ندركها تصريحًا، أو من خلال الوقائع، وتخصّ توجهات عامة شبه متفق عليها بين معظم الدول المحسوبة على أنها أصدقاء الشعب السوري، بأنهم جميعًا، ومن خلال التطورات، يؤكدون على ما يلي:

1 – الأولوية المطلقة لمحاربة الإرهاب باعتباره الخطر الجاثم على صدورهم، والأكثر أثرًا دمويًا من بقاء النظام، أو رحيله في مرحلة ما.

2 – لم يعد شرطًا مسبقًا المطالبة برحيل الأسد، قبل بدء مفاوضات الحل السياسي، ويمكن الاتفاق على فترة معينة.

3 – على الرغم من القناعة بأن هذا النظام ورأسه عدو للشعب، ويمارس القتل، وينتهك حقوق الإنسان، إلا أن وجوده لفترة ما يمكن أن يحول دون تعميم الفوضى، وانتشار الإرهاب.

4 – لم تقدّم المعارضة نفسها على أنها بديل مؤهل لاستلام الحكم، دون نفي حقها في المعارضة، وفي أن يكون لها دور مهم في العملية الانتقالية، وفي مستقبل البلاد.

إلى جانب هذا يؤكد الرئيس الفرنسي نقطتين مهمتين، يقول إنه أبلغَ الرئيس الروسي، بوتين، بهما:

1 – في حال استخدم النظام السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري؛ فإن فرنسا ستتصدى له بكل حزم، ولو كانت وحدها دون مشاركة الآخرين.

2 – ضرورة وصول قوافل الإغاثة إلى المناطق المحاصرة، وإجبار النظام على السماح لها بالعبور، وتسليمها للمعنيين بها.

وقد جسّد ذلك فعليًا بوصول أكثر من 37 شاحنة إغاثة، وصلت إلى عدد من المناطق المحاصرة.

صراحةُ تصريحات الرئيس الفرنسي -وإن كانت صادمة ومختلفة عمّا عهدناه في الموقف الفرنسي، وغيره من الدول المحسوبة على أنها صديقة للشعب السوري- تكشفُ الحقيقة وتعرّيها كما هي، ذلك أن التصريحات الكثيرة التي أتخمنا بها من قبل عشرات الدول، خاصة ذات الأثر، في أنها مع الحل السياسي، وأنه لا مكان لبشار الأسد وكبار رموز الحكم في العملية الانتقالية، وعدد من وعود مماثلة، إنما ظلّت مجرد أقوال لم تقترن بأي فعل جدي، ولا بممارسة ضغوط الحد الأدنى لإجبار النظام على الانصياع لقرارات الشرعية الدولية، وبدء مرحلة الانتقال السياسي، ويتضح الأمر بجلاء صارخ في مواقف الإدارة الأمريكية طوال سنوات عهد أوباما، وحتى الآن في عهد الرئيس الجديد.

بل إننا نشهد منذ أزيد من عامين انزياحات واضحة في الموقف من النظام ورأسه، وفي دحرجات متتالية عبّر عنها في لقائي فيينا، ثم ميونخ. وحتى القرارات الدولية ذات الشأن تركت الباب مفتوحًا لشتى التأويلات، نتيجة التعابير الملتبسة التي تقبل أكثر من تفسير، ونلمس هذا بوضوح في مواقف المبعوث الدولي، وجولات جنيف المطاطية، الهامشية.

إن اتفاق جميع الدول المحسوبة على أنها أصدقاء الشعب السوري على أن محاربة الإرهاب هو أولويتها، يعني بداهة أن الحل السياسي لم يحن أوانه بعد، وأن النظرة للنظام والموقف منه، ومن بقائه، أو إعادة تأهيله عرفت مزيدًا من التغيير الذي عكسته تصريحات الرئيس الفرنسي بجلاء، بينما هناك من يحرص على المواقف الضبابية، والتكتيكية.

يجب أن نضيف هنا حقيقةً ركّز عليها الرئيس الفرنسي، وهي أن لا وجود لأي حلّ عسكري، وأن لا سبيل سوى الحل السياسي، وهي حقيقة طالما كررتها جميع الأطراف الأخرى، في وقت تشتعل فيه الأرض السورية بكل أنواع الحروب والدمار، وتشهد بلادنا، وعلى حسابها، وحساب وحدتها، وبناها التحتية، وأرواح المدنيين حرب مشاريع ومصالح وتصفيات حساب، تحت شعار محاربة الإرهاب، أو نجدة نظام القتل والفئوية، ومحاولات تكريس مناطق نفوذ الأمر الواقع التي تمزق الوحدة الترابية لسورية.

الرئيس الفرنسي الذي يطرح مبادرة لسورية قد يكون بحاجة الى مستوى معين من التكتيك لتمريرها، أو جعلها قابلة للحياة.

لكن الشيء الأكيد هو ما يخصنا نحن: هيئات وأطراف المعارضة بأن جزءًا كبيرًا من المسؤولية نتحمله نحن، ويجب المكاشفة فيه ليس لتكريس واقع مأزوم، بل للعمل المنهّج في سبيل تجاوزه، وفي محاولة استعادة قرارنا السياسي الذي انزلق وبات بأيدي الآخرين، وتأهيل المعارضة لتكون قادرة فعلًا على بناء البديل، وتقديم رؤيتها المدعّمة بالمواقف حول مستقبل سورية، وحول حرصها على الوحدة المجتمعية والترابية والسياسية لبلادنا، ومخاطبة جميع السوريين كجزء من شعب واحد، معني بمواجهة المخاطر والتحديات، ومستلزمات ذلك في الخطاب والمواقف والممارسة.




المصدر