حافلة مليئة بالحقراء


مصطفى تاج الدين الموسى

لا أحب العاصمة، وهذا هو يومي الأخير فيها، سوف أغادرها نهائيًا إلى مدينتي الصغيرة والبعيدة، إلى حياتي القديمة.

نهارًا، انشغلتُ في أروقة الجامعة للحصول على شهادتي الجامعية، مساءً.. تجولتُ في الأسواق لأشتري أشياء لا تتوفر عادة في المدن البعيدة، ثمّ وضّبتُ حقائبي، دخلنا الكراجات معًا، أنا وحقائبي والليل ومطرٌ غزير.

انتبهتُ لحافلة، تبدو كعجوزٍ شاحبة،على وشك المغادرة، لوّحتُ لها، أخذ المرافِق حقائبي إلى صندوقها، وما إن صعدتُ الحافلة حتى صفعتْ مزاجي أغنية كئيبة، لا يمكن أن تروق حتى لسجين زنزانة منفردة منذ عقود، لم يردّ السائق على سلامي، كان يدخن وينفث دخانه بلا مبالاة، وجهه الغامض جعل الريبة ترفع أشرعتها داخل روحي لتبحر بين أفكاري. ثمّة شيء غير مفهوم في هذه الحافلة ذات العتمة المتواضعة، مشيتُ -كعادتي في كلّ أسفاري- إلى المقعد الأخير، إنه يناسب مزاجي، من فوقه أستطيع أن أشاهد كلّ الركاب ولا أحد منهم يشاهدني.

ابتعدتُ عن السائق ومرافقه، بعض الركاب تناثروا بصمت على الكراسي، تأملتهم خلال خطوتين، خفق قلبي بشدة مثل طبل يُضرب في عرس، ركاب المقاعد الأمامية كانوا تقريبًا في أعمار متقاربة، شبابًا ومراهقين وطفلًا، يا إلهي! هل تكذب عيناي؟ هل هذا خيال؟ أحدهم سرق وجوهي من صوري في سنواتي المختلفة من ألبوم العائلة، ليضعها فوق هذه الأجساد.

تجاوزتهم وأنا أتعثر بساقيّ، في النصف الثاني من الحافلة، ركاب آخرون، بضعة رجال وعجوز.. تأملتهم، والريبة تعوي داخلي كذئب يختنق، استرقتُ النظر إلى وجوههم، انتبهتُ، على الرغم من العتمة لذلك التشابه بين وجوههم ووجهي، أعتقد أن وجوههم سُرقتْ من ألبوم صوري التي سوف أتصورها مستقبلًا.

رميتْ جسدي بتعب على المقعد الأخير، وانطلقت بنا الحافلة مغادرة العاصمة، تساءلتُ بقلق: أي حظٍ لعين قادني في ليلتي الأخيرة في العاصمة، إلى هذه الحافلة المشؤومة؟ لم أعثر داخل جمجمتي على جواب يريح روحي من هذا الغموض البشع.

أثناء الأغاني الكئيبة، ومن خلفهم، كنتُ أراقب الركاب الحقراء، أجساد صامتة كأنها جثث غربان في متحف غير مضاء جيدًا. أنفاسي تختنق..من هناك، السائق، عبر مرآته العلويّة، كان يراقبني بعينين ساخرتين.

يبدو أنّ قدري متواطئ مع ذلك السائق الغامض، وقد رتّبا لي رحلة متعبة مع كلّ شخصياتي الحقيرة التي عشتها والتي سوف أعيشها، في ليلة ماطرة على الطرقات بين المدن النائمة.

كان المرافق يتجول بيننا، وحده فقط من يُسمَع صوته في هذه الحافلة، يوزع علينا ماءً قليلًا، وينقل لنا نصائح وتحذيرات السائق كلّ برهة.

من خلال البلور انتبهتُ إلى الطريق، صرختُ: هذا ليس طريق مدينتي!

منذ سنوات أسافر كلّ شهر، أحفظ طريق مدينتي كما أحفظ ملامح وجهي، على الرغم من تعبي وجبال الخوف التي ارتفعتْ فوق روحي، نهضتُ لأعبر الممر المعتم بين الحقراء، حتى السائق. ضغطتُ بسبابتي على زر المسجلة لتختفي الأغنية الكئيبة، التقطته من كتفه لأهزّه بخوف.

– إلى أين تأخذنا؟ هذا ليس طريق مدينتنا؟

-اخرس، أنا من يقرر الطريق والأغنية أيضًا.

دفعني لأسقط جانب باب الحافلة، وعبث مجددًا بالمسجلة لترجع أغنيته الكئيبة إلى الحياة.

ساعدَني المرافق وأخذني إلى المقعد الأخير، لمعتْ أعين الركاب الحقراء من على مقاعدهم بكراهية كبيرة، يبدو أن هجومي على السائق أزعجهم جدًا.

كانت أنفاسي تحشرج هناك، نهاية الحافلة في هذه (السفرة) اللعينة، عندما جاء حجرٌ من جهةٍ ما ليرتطم بالبلور ثمّ بجبيني، أحدهم قذفه من الخارج؟ لم أعرف من هو! وأنا أمسح الدماء عن وجهي؛ أيقنتُ بوحشة: (أظن أن هذا الحجر جاء من طفولتي) همستُ بعد أن تذكرتُ عندما كنتُ صغيرًا، كنتُ أقذف الحافلات بالحجارة ثمّ أهرب.

لو أن أحدهم ينقذني الآن من هذه الحافلة البشعة.

تناثر البلور في حضني، الهواء البارد المحمل برذاذ المطر عبث بشعري.

صرخ المعاون في بداية الممر: وصلنا إلى الاستراحة، يمكنكم النزول قليلًا، لا تتأخروا.

جررتُ رجليّ مثل جندي عاد من معركة، لم يفهم سببها، بجراح عميقة وهزيمة غامضة، نزلتُ من الحافلة،لا أحد غيري من كلّ الركاب الحقراء نزل، وكأنني الوحيد بينهم الذي يرغب أن يرتاح قليلًا، أخذتُ كأس شاي، أشعلتُ سيجارة، امتزج بخار الشاي بدخان سيجارتي أمام عيني، تحت المطر، وأنا أرمق أولئك الحقراء على مقاعد الحافلة.

الاستراحة هي الوقت المناسب -ولو على عجل- للتفكير في إنهاء كلّ هذه البشاعة، شعرتُ أنه لدي الآن فرصة نادرة، لإنهاء كلّ شيء حقير في حياتي.. قررتُ تفجير الحافلة بكلّ أولئك الحقراء الذين كنتهم والذين سوف أكونهم لننتهي معًا.ما عادتْ هذه الرحلة الغريبة قدرًا مشؤومًا، صارتْ فرصة ذهبية لا تتكرر.تسللتُ إلى خلف الحافلة، وحشرتُ جسدي تحتها، عبثت ببعض التوصيلات حتى خزان الوقود، بحيث تنفجر بعد انطلاقها بدقائق.

وأنا أصعد، رمقتُ السائق بلا مبالاة، رمقني هو الآخر بلا مبالاة؛ مع الخطوات، رمقتهم بلا مبالاة، الحقراء رمقوني دون أن يفهموا شيئًا.

جلستُ على المقعد الأخير، انطلقتْ الحافلة، فأشعلتُ سيجارة، أسرع إليّ المرافق ليخبرني أن التدخين ممنوع داخل الحافلة؛ فدفعته ليسقط بعيدًا، استداروا إلينا عدا السائق، وقفتُ لأعبّ نفسًا عميقًا من سيجارتي، ثمّ صرخت بكلماتي الملوثة بالدخان (وداعًا يا حقراء).

انفجرتْ الحافلة بنا انفجارًا عظيمًا، اختلطتْ أشلاؤنا المحترقة ببعضها، تناثرتْ جثثنا بشكلٍ فوضوي بين الركام على الطريق.

مثل سلحفاة بطيئة كانت روحي تغادر جسدي من بين القتلى، ما قبل الإغماض الأخير لجفنيّ، لمحته عن كثب.

نهض من بيننا، نفض ثيابه بلا مبالاة، التقط من بين الحطام تلك المرآة العلوية، مشى السائق ليبتعد عن جثثنا، وهو يبحث بعينيه في الطريق عن حافلة أخرى ليسوقها.




المصدر