أسعار مواد البناء في إدلب صادِمة و”بالعملة الصعبة”


تعيش أسواق محافظة إدلب خلال فترة اتفاق “خفض التوتر” حالة من الانتعاش الاقتصادي والاقبال على الشراء والمبيع وُصفت بأنها غير مسبوقة منذ سنوات، متأثرةً بعوامل عديدة أبرزها غياب القصف الجوي، وعودة الثقة إلى الأسواق بعد استقرار نسبي في قيمة العملة.

وتعتبر تجارة مواد البناء هذه الأيام أحد أكثر الأنشطة التجارية رواجاً وطلباً في إدلب، بسبب حركة الإعمار الواسعة التي تعيشها المحافظة بعد الزيادة السكانية الكبيرة من جهة، وتوجه المدنيين لإعادة ترميم ممتلكاتهم التي دمرها القصف من جهة أخرى.

لكن وأمام هذا الوضع الجديد وزيادة الطلب على الحديد والإسمنت ومواد الإكساء، باتت هذه المواد أكثر عرضة للاحتكار من قبل التجار بحسب شهادات العديد من السكان، الذين أكدوا أن هذا الارتفاع الحاد تسبب خلال أيام قليلة أيضاً برفع أسعار الإيجارات والشقق المعدّة للبيع بما لايتناسب أبداً مع المستوى المعيشي الحالي للسكان.

وفي جولة سريعة على الأسواق أفاد متعهد البناء في مدينة كفرنبل بريف إدلب أكرم بيوش، أن سعر الطن الواحد من مادة حديد البناء المبروم ارتفع من 450 دولارًا أمريكيًا إلى 535 دولارًا للطن الواحد خلال الشهر الحالي، كما وصل سعر طن الإسمنت لأول مرة إلى 45000 ليرة سورية، وسعر خفافة البناء الواحدة إلى 86 ليرة، في حين وصل سعر متر الرمل لأكثر من 7000 ليرة سورية.

هذا الارتفاع الكبير في أسعار المواد رافقه أيضاً -بحسب التاجر- زيادة في أسعار مواد الإكساء مثل السيراميك، والدهان والألمنيوم، حيث انعكست هذه الزيادة على سعر العقارات سواء الجديدة منها أو المرممة.

وبحسبة بسيطة يوضح التاجر أن تكلفة بناء غرفة صغيرة واحدة فقط من مواد البناء تبلغ اليوم ما بين 350 و400 ألف ليرة، فيما تصل تكاليف شقة مساحتها 100م2 على الهيكل إلى ما لايقل عن 7 مليون ليرة وسطياً، ويصل سعرها إلى حدود 12 مليون ليرة وسطياً للشقة المكسية.

ضيق الخيارات

على طول الطريق الواصل بين مدينة سرمدا ومعبر باب الهوى مع تركيا تصطف يومياً مئات الشاحنات من الجانب السوري تنتظر دورها للعبور إلى “الطبون” وهي المنطقة التجارية داخل المعبر التي يتم من خلالها تزويد المناطق المحررة بجميع حاجاتها.

وفي ظل غياب المعامل وعدم توفر معظم المواد لاسيما الحديد والإسمنت في السوق المحلية، يضطر التجار السوريون لعقد صفقات مع المعامل التركية، أو عبر شرائها من دول أخرى لتصل إلى ميناء مرسين ويتم نقلها ترانزيت إلى سوريا.

ووفق يوسف الحسن، تاجر الحديد في مدينة سرمدا، فإنه لا يوجد شركات متخصصة بهذا المجال بل يسمح لأي تاجر بالتعاقد مع الشركات وإدخال مواده إلى سوريا.

وحول أسباب النقص الحاصل والحديث عن عمليات احتكار للحديد والإسمنت في السوق المحلية أوضح الحسن أنّ عمليات إدخال البضائع إلى سوريا مهمة ليست سهلة، حيث تبقى الشاحنات أياماً عديدة على الحدود وتتأثر دائما بالقرارات التركية من إغلاق المعبر أو تقليل عدد الشاحنات الداخلة يومياً وهكذا، ولهذا السبب يحصل أحياناً نقص في بعض المواد لاسيما في حال زاد الطلب عليها، وهو ماحصل حالياً مع الحديد والإسمنت وأدى لزيادة أسعارها، نافياً في الوقت ذاته أي علاقة للتجار أو قيامهم بتخزين هذه المواد لزيادة أسعارها فيما بعد.

وحول تقديره لكميات الحديد التي تدخل يومياً إلى إدلب مقارنة بالمطلوبة قال الحسن إنه “لا يمكن إحصاؤها بسبب الكميات الكبيرة التي تدخل نتيجة حركة الإعمار الكبيرة التي تشهدها المناطق المحررة”.

ورغم النقص الحاصل في حاجة السوق المحلية يؤكد الحسن أنه لا يوجد أي طرق بديلة للحصول على الحديد والإسمنت لأنّ “الاستيراد من مناطق النظام لهذه المواد عملية تبدو صعبة للغاية بسبب حاجتها إلى شاحنات كبيرة ومكشوفة من جهة، وبسبب الضرائب الباهظة التي تطلبها حواجز النظام لتمرير دخول هذه المواد من جهة أخرى”.

يعود النقص في الحديد والإسمنت إلى صعوبة إدخالها إلى سوريا، وعدم وجود حلول بديلة للحصول على هاتين المادتين، خصوصاً مع عدم إمكانية جلبها من مناطق النظام أيضاً.

إقبال رغم الغلاء

 

باتت ظاهرة شراء الحديد والإسمنت بالعملة الصعبة (الدولار) منتشرة بكثرة هذه الأيام، إذ يكفي أن تقف أمام أي تاجر لهذه المواد وتسأله عن الأسعار لتأتي النشرة بالدولار الأمريكي حصراً.

وعند سؤالنا عن سبب ذلك أجاب الحسن أن التجار يعقدون صفقات الاستيراد وفقا للسعر العالمي بالدولار، ويدفعون تكاليف النقل والجمرك للمعبر السوري بالعملة الصعبة أيضاً (7 دولارات عمولة لمعبر باب الهوى للطن الواحد)، لذلك تحصل عمليات البيع بهذه العملة تجنبا لأي خسائر للمستوردين تحدث من تغيير قيمة العملة.

ولفت الحسن خلال حديثه إلى عوامل إضافية تتسبب في رفع الأسعار وهي الازدحام الذي يحصل في المعبر أحياناً ويؤخر دخول الشاحنات إلى الجانب السوري، حيث يضطر التاجر في هذه الحالات إلى الانتظار لعدة أيام، ودفع مبالغ إضافية عن كل يوم تبقى فيه الشاحنة في “الطبون”.

وأمام هذا الواقع وضعف إمكانيات الفئة المتوسطة والفقيرة عن مجاراة الأسعار قال عبد الإله يحيى، أحد أبناء مدينة معرة مصرين إن “السكان توجهوا مؤخراً لحلول بديلة لترميم منازلهم، عبر جمع الحديد المستعمل والخردة لإعادة تصنيعها واستخدامها من جديد، أو باستخدام مواد أخرى في البناء أقل تكلفة مثل الطين”.

وأشار يحيى إلى أنه ورغم الأسعار العالية جداً هناك إقبال كبير على شراء مواد البناء لأنّ “الناس باتت تفضل دفع هذه التكاليف لمرة واحدة في إصلاح منازلها بدلا من دفع مبالغ شهرية كبيرة للإيجار”.

السكان توجهوا مؤخراً لحلول بديلة لترميم منازلهم، عبر جمع الحديد المستعمل والخردة لإعادة تصنيعها واستخدامها من جديد، أو باستخدام مواد أخرى أقل تكلفة مثل الطين.

تخفيض الأسعار

يؤكد الخبراء الاقتصاديون أن أسعار مواد البناء ستلعب دوراً مركزياً في مجال إعادة إعمار ما دمرته المعارك الدائرة في سوريا حتى اليوم، الأمر الذي يفرض ضرورة العمل على توفير الاعتمادات اللازمة لإقامة ودعم الصناعات المتوسطة، كالسيراميك والبلاط والكابلات الكهربائية، ومواد النجارة، والأدوات الخشبية، ومواد الدهان، بما يخدم توفير فرص عمل جديدة والحد من الاستيراد ورفع الأسعار.

وفي هذا السياق يطرح الخبير الاقتصادي محمد رزوق مجموعة من الحلول لتخفيض الأسعار أولها “تنظيم عمليات الاستيراد للمواد غير المؤمنة ضمن شركات أو جهات متخصصة يكون لها خبرة جيدة في إبرام التعاقدات تفادياً للمضاربات بين التجار”.

كما تحدث رزوق لـ صدى الشام عن ضرورة إعفاء هذه المواد من الرسوم والضرائب التي تفرض عليهم من إدارة المعبر السوري، ودعا في الوقت ذاته إلى “دعم إنشاء معامل إسمنت جديدة، والتوسع في صناعة حجر البناء والرخام، كصناعة محلية يمكن تأمينها”، موضحاً في الوقت ذاته أنّ جميع هذه الحلول “ستبقى فاعليتها محدودة دون وجود رؤوس أموال محلية أو خارجية داعمة لمثل هذه المشاريع ولإعادة الإعمار”.

وأشار رزوق إلى أن سوق العقارات سيكون قريباً “ملاذاً آمناً للاستثمار والحصول على الأرباح المباشرة والكبيرة”.

ووفق تقديرات أولية تحتاج سوريا إلى 30 مليون طن سنوياً من الإسمنت خلال فترة إعادة الإعمار لا تنتج منها حالياً أكثر من 2 مليون طن، فيما تعتبر معظم مواد البناء الأخرى لا سيما الحديد من المواد المستوردة أو تحتاج إلى مواد أولية مستوردة من الخارج تدخل في صناعتها.



صدى الشام