دين الفطرة لجان جاك روسو


أنجيل الشاعر

كتاب (دين الفطرة) هو الجزء الرابع من السلسلة التربوية التي كتبها جان جاك روسو بعنوان “إميل”، والمؤلفة من خمسة أجزاء، وقد فصله مؤلفه عن الأجزاء الأربعة الأخرى، لاحتوائه على تعاليم تربوية من نوع آخر، أي تعاليم دينية فطرية تقوم على الصدق والتسامح، وعلى الشعور والحدس بالذات الإنسانية ومن ثم الذات الإلهية. مترجم الكتاب، عبد الله العروي، ليس مترجمًا، بل مفكر من ألمع المفكرين العرب المعاصرين. الترجمة ذاتها رسالة للقارئات والقراء، وقبلهم للمثقفات والمثقفين والمهتمات والمهتمين بالإصلاح الديني، ونشر قيم الاعتدال والتسامح. صدر هذا الكتاب عن “المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء”، 2012.

ينبهنا العروي ألا نقارن هذا الكتاب بكتابات أعلام الإصلاح الديني في ثراثنا القديم وثقافتنا المعاصرة، كالغزالي في رده على الفلاسفة، في كتابه تهافت الفلاسفة، أوابن حزم في كتابه الفصل، أو ابن طفيل في قصة حي بن يقظان، أو ابن رشد ومحمد إقبال أو محمد عبده وغيرهم، لأن المنظر واحد -كما يقول العروي- ولكن المنظور مختلف.

المنطلق عند روسو، كما يقول العروي أيضًا: هو وجدان الفرد الحر المستقل. هذا المفهوم الذي هو عماد الفكر الحديث غائبٌ عند كبار المصلحين المسلمين، المذكورين وغيرهم. الفرد الحر المستقل لم يولد عندنا بعد، ومن يؤثرون حريتهم واستقلالهم تحاصرهم السلطات الدينية والسياسية، ويكفرهم فقهاء الظلام ووعاظ السلاطين، كما حدث لنصر حامد أبو زيد، وقبله لطه حسين وصادق جلال العظم، ويمكن أن تقتلهم، كما قتل عبد الرحمن الشهبدر في سورية، وفرج فوده في مصر، والقائمة طويلة أو تهدر دماءهم، كما حدث للروائي ممدوح عزام وغيره في سورية.

الإيمان في خدمة النفس، الدين في خدمة المجتمع، المجتمع في خدمة الفرد. بما أننا نرفض الخضوع لأي سلطة بشرية، لا نصادق على أي عقيدة متوارثة في بلد مولدنا. كل ما يمكن أن يهدينا إله نور العقل في حدود الطبيعة هو دين الفطرة. هذا الكلام، كلام روسو، في عقيدة القس الجبلي، ليس عن الدين بقدر ما هو عن الهم الديني، وهذا الهم عاد بعد أن غاب، وإن قدر له أن يغيب مددًا، فن لا محالة عائد ما دام الإنسان إنسانًا. هكذا ختم العروي مقدمته للكتاب.

التدين ليس مجرد ظاهرة اجتماعية تاريخية عامة رافقت البشرية منذ طفولتها الأولى، حتى يومنا، وإلى ما شاء الله، بل هو عامل من عوامل نشوء الحضارة، وانتشال الإنسان من التوحش، والمصدر الأول للأخلاق. يلفت النظر تفريق روسو بين الإيمان والدين، ودور كل منهما في حياة الجماعة الإنسانية: الإيمان في خدمة النفس، والدين في خدمة المجتمع (لا في خدمة السلطة) والمجتمع في خدمة الفرد. هذا هو المنظور المختلف بين أعلام الإصلاح الديني من المسلمين، وبين روسو؛ المنظر واحد، المنظور مختلف.

يشير روسو إلى ميزتين في الإنسان تؤكدان فرادته واستقلاله واختلافه عن غيره من الأفراد، الميزة الأولى هي الذوق، حب الجمال والقدرة على الاستمتاع به، لكل فرد ذوقه الخاص، سواء تعلق بالأشياء والأحياء أو بالأدب والفن، والذوق العام أو الذائقة العامة مجرد تقريب. والثاني هي الضمير: “يوجد في سر النفوس مبدأ يولد مع الإنسان، على ضوئه يحكم الفرد، ولو صدم ذلك ميوله، على تصرفاته وتصرفات غيره، فينعتها بالصالحة أو بالفاسدة. وهذا المبدأ هو ما أسميه الضمير”. (ص 74). إذًا هناك أحكام الضمير التي تختلف من فرد إلى آخر، ومن وقت إلى آخر، لدى الفرد نفسه، حسب نمو ملكاته أو تغير شروط حياته، هذه الأحكام يعارضها الفلاسفة والعلماء بأحكام العقل، وليس هناك حاجز أو فاصل بين العقل والضمير.

ولكن الضمير ليس مجرد هبة من الطبيعة أو من الخالق، بل هو ناتج من العلاقات التي يقيمها كل فرد مع الآخرين أو الأخريات. الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع العيش خارج أسرة أو عائلة أو جماعة، أو مجتمع، لذلك يفترض روسو أن الإنسان مزود بعواطف تجاه النوع البشري، وعلى أساس مجموع الروابط الاجتماعية والإنسانية ينشأ وازع الضمير، أو الوازع الأخلاقي.

“الضمير غريزة ربانية وصوت علوي لا يخفت، هادٍ أمين لكل جاهل محتاج، كما أنه نبيه حر. بالضمير يميز الإنسان الخير من الشر ولا يخطئ، كما لو كان في مقام الرب، لولا الضمير لما أحس بأي تفوق على الحيوان، سوى موهبة بائسة تدفعه من زلة إلى أخرى، بواسطة نظر بلا ضوابط وعقل بلا مبادئ”.

ولكن، ألا يموت الضمير في أوضاع كالأوضاع التي نعيشها في سورية اليوم؟ أي ضمير لدى الذين يقتلون الأطفال والنساء والرجال ويدمرون المدن والبلدات ويحاصرونها حتى الركوع، أو لدى أولئك الذي يقتلون باسم الدين ودفاعًا عن العتبات المقدسة أو دفاعًا عن الله؟!

روسو ينتقد الفلاسفة والعلماء لتفويت أهمية الذوق والضمير، وهما ركنان من أركان الذات الإنسانية، وينتقدهم لإهمال أحكام الضمير، واعتبارها غير عقلانية، فيقول: “الشعور فينا سابق على العلم. كما أننا لا نقصد الخير ونُعرض عن الشر بالتعليم، بل بعزيمة أودعتها فينا الطبيعة، فإن الإقبال على الطيب والنفور من الخبيث شعوران طبيعيان فينا بقدر ما هو طبيعي حب الذات” (ص 76). بالفعل، الإنسان ليس في حاجة إلى علم أو فلسفة ليكون صادقًا وأمينًا، بل يحتاج إلى تربية، والمربي والمربية يحتاجان إلى تربية أيضًا.

في ضوء هاتين الميزتين يتحدث روسو عن قيم أخلاقية عليا، تتبناها جميع الأمم والشعوب، على اختلاف ثقافاتها ولغاتها وتياين شروط حياتها، وتقابلها قيم اجتماعية خاصة بكل مجتمع من المجتمعات، وحرية الضمير واحدة من هذه القيم، وهي أساس الإيمان، وحرية التدين أو عدم التدين. الدين عند روسو لا ينحصر في العبادات والطقوس والشعائر وثياب رجال الدين والكلام الذي يقولونه، ولا في فقه الفقهاء، وعلم العلماء. العبادات والشعائر والطقوس ظواهر اجتماعية مرتبطه بالدين وليست جوهره، ممارسة العبادات والطقوس تحافظ على وحدة الجماعة، وتقيم بين أفرادها روابط التعاطف والتكافل، ويمكن أن تجعل منها العصبيات عوامل تفرقة وتنابذ، فتهدد وحدة المجتمع واستقراره في حين تشتد الروابط المذهبية والطائفية، فيصير المجتمع مجتمعات.

أوصى جان جاك روسو في بداية كتابه الأستاذَ بألا يكلم تلميذه عن الخلق والخالق قبل أن يتجاوز الخامسة عشرة. ودعا إلى عقيدة فطرية بسيطة سمحة خالية من كل تعصب، لا تترسخ إلا في فؤاد هُذِّب لهذا الغرض بالذات، كما أن النظام الجمهوري الديمقراطي لا يستمر إلا إذا قام على تعاقد بين أفراد تربوا منذ الطفولة ليكونوا مواطنات ومواطنين حقًا. واهمٌ من يظن أن الإصلاح قد يأتي من فوق. هذا ترميم يعالج الأعراض فحسب. لا مناص من خلق مُستأنف حتى يتسنى بناء مجتمع جديد ونشر عقيدة جديدة. (ص 9-10)

ليت المؤسسات التربوية والتعليمية في بلادنا تتنبه إلى مخاطر تعليم ما يسمى التربية الدينية للأطفال تحت سن الخامسة عشرة حفاظًا على نموهم العقلي والعاطفي والأخلاقي من التشويه، خاصة في ظل نقص التأهيل التربوي للمعلمات والمعلمين.

شكرًا للمفكر الكبير عبد الله العروي الذي نقل هذا الكتاب إلى العربية، في هذه الأوقات، وليت هذا الكتاب يدخل إلى كل بيت، لكي يوقظ العقول والضمائر.




المصدر