سلامًا على الأخلاق


باسل العودات

من العبث، الحديثُ عن إجرام النظام السوري الذي طال البشرَ، طوال خمسة عقود، فهو حديث مُكرّر معروف، وفيه اجترار ومضيعة للوقت لعرض أمرٍ بات يعرفه الجميع.

من العبث، الحديث عن الدولة الأمنية التي أسّسها الأسد الأب، والطائفية التي نثر بذورها، والفساد الذي عمّمه، والقمع والعسف الذي مارسه، والسجون والمعتقلات التي بناها، والأراضي السورية التي باعها، والتعليم الذي دمّره، والدين الذي حرفه، والاقتصاد الذي هدمه هو والمقربون منه.

ومن العبث أيضًا، الحديث عن دولة المافيات التي أسّسها الأسد الابن، والطائفية التي عزّزها، والحقد الذي نشره، والوطن الذي دمّره قبل أن يبيعه كله، والقتل الذي طال مليونًا من السوريين، والجوع والعوز والفقر الذي نشره في كل حدب وصوب.

من الممكن، بعد أن يتخلص السوريون من الطاعون الذي ابتُلوا به منذ خمسة عقود، أن يُبنى ما هُدِم، لأنه مسألة مادية بحت، ومن الممكن أن يعود الحق لأصحابه بعد أن تقتصّ العدالة الانتقالية وغير الانتقالية لكل مظلوم، وتُعاقب كل قاتل، وتحاسِب كل جانٍ، ومن الممكن أيضًا أن تُغلق السجون السياسية والمعتقلات وينتهي زمن الرعب، بعد أن يُعاد تشكيل الأجهزة الأمنية ويصبح دورها حماية المواطن لا قتله، وكذلك من الممكن القضاء على الميليشيات والشبيحة بعد أن يُقضى على رؤوسها، وتنتهي صلاتها بالنظام، ومن الممكن أن تنتهي الطائفية المُعمّمة إن صار المعيار الأساس هو المواطنة، وصار الميزان هو الحقوق والواجبات.

ولكنْ ثمّة أمرٌ لن يُعالج بسهولة، وسيبقى تأثيره مديدًا، وهو غياب مفهوم الأخلاق، بأنواعها وأشكالها؛ فقد غابت الأخلاق عن مؤيدي النظام ورموزه وأعوانه ومقاتليه وقتلته الذين لم تطرف لهم عين وهم يرون سورية تبيد، كما غابت عن الرماديين الذين لم تهزهم مشاهد القتل العمد بالجملة الذي قام به النظام لأكثر من ألفَي يوم وما يزال، والأكثر أسفًا أن الأخلاق غابت أيضًا عن شريحة بالملايين، ممّن يحلو لهم أن يصِفوا أنفسهم بأنهم معارضون.

شريحة عددها بالملايين، ليس لديها احترام لكبير ولا صغير، ولا يحكمها مبدأ ولا حدود، وهي تهرف بما لا تعرف، لا تصمت ولا تُحسن أن تقول، وتخلط الأشياء عن عمد لأنها لا تفهمها، وتثور (من هياج وليس من ثورة) عند كل موقف، ولا تتردد بتخوين الآخر، المتشابه والمختلف على حد سواء، وتُنكّل بالجميع، وتكره النجاح، وتُفرّغ عُقدها في كل شيء وكل مكان، تشعر بالثمالة حين تشتم وتُهين، لا تعرف ما يعني التهذيب واللياقة والرزانة، وتؤمن وتتعامل بعكسها، وتنتهك الحياء وتعتقد أنها انتصرت، وحققت سطوة ومكانة.

هذه الكارثة هي نتيجة مباشرة لخمسة عقود من التجهيل المُتعمّد، وتفتيت المجتمع ومثالياته، وتغييب البداهة، وتسفيه الرموز وتدمير المُثل، وتضخيم العصا، والحط من قيمة التفكير، وتحجيم حدود العقل، وتهميش الثقافة والعلم، وإلهاء البشر بالقشور وتحريم الألباب عليهم، والعمل على غرز مبدأ “الغبي القوي المدعوم هو خير من الذكي الضعيف”.

من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأخلاق، لا بدّ من القضاء على أسباب انحطاطها، أي القضاء على النظام الذي دمّرها، وإعادة تأهيل المعارضة التي أهملتها وازدرتها، وكررت ما فعله النظام، والبدء بعملية تركيبية معقّدة، لإعادة بناء الأخلاق، تلك العملية الطويلة التي ستحتاج إلى عمل جيل أو أجيال، وإلا فعلى سورية وأخلاق شعبها السلام.




المصدر