“سماسرة” الاعتقال.. محامون وضبّاطٌ ووسطاء يعتاشون من بيع الوعود


“أخدوه من عالحاجز.. ما حدا بيعرف وينو ولا حدا بيقدر يسأل عنو”، غالباً ما تبدأ عمليات الاعتقال بهذه الطريقة لتشير إلى مأساة مرتقبة سوف تلي ذلك، فإلى جانب أشكال التعذيب التي سيتعرض لها المعتقل، هناك عذابات من نوع آخر سيعيشها ذووه نتيجة وقوعهم أسرى الهواجس والترقب والتكهنات، وتحولهم تلقائياً إلى فريسة لبائعي الأمل.

تُشير التقديرات إلى وجود أكثر من 200 ألف معتقل في سجون الأسد، لكن ما يميز هذا النظام ليس الأرقام وحسب بل الأسلوب والظروف أيضاً، ففي كثير من الحالات يصعب معرفة الجهة التي تقف خلف العملية، ولا غرابة في ذلك فتلك واحدة من مميزات البنية الأمنية التي أسّسها نظام الأسد الأب قبل أكثر من 47 عاماً، وواصل الابن العمل على أساسها.

وسط هذه المنظومة يصبح المجال متاحاً لمن يعتاشون على مآسي الآخرين، فبمجرد بحث ذوي المعتقل عنه ومحاولة تحريره أو تخفيف الحكم عنه، فإن هناك من سيبدأ “عمله” القائم على بيع الآمال إما بذريعة امتلاكه “معلومات” لا يملكها أحد سواه، أو بزعمِ قدرته على تخفيف الحكم، وليس انتهاءً بالتعهّد بإخراج المعتقل من السجن وكل ذلك لقاء مبالغ خرافية.

لكن ومع الوقت يتكشف للباحثين عن الأمل أن معظم الوعود التي تلقوها من اولئك “السماسرة” مزيّفة وخلّبية ولا أساس لها من الصحة.

شبكات

تتكوّن شبكات السمسرة هذه من كل من يتمكّن أو يستطيع دخول هذا الحقل، ويأتي في المقدمة المحامون والقُضاة بالإضافة إلى معقّبي المعاملات والمدنيين العاديين الذين يملكون “معارف” داخل الأفرع الأمنية.

وبعيداً عن حالات العمل الفردي في هذا المجال فإنه اتخذ شكلاً منظماً مع الوقت، وطبقاً لبحثٍ أجرته “صدى الشام” فقد ظهرت خلال السنوات الماضية مكاتب في منطقة المزة 86 الموالية لنظام الأسد يديرها أشخاص لهم علاقات واسعة بأفرع النظام الأمنية، يعملون في “بزنس الاعتقال” وذلك بتأمين المعلومات اللازمة، أو السعي لتخفيف الحكم، وغير ذلك.

يقول قيس، الذي سعى سابقاً لتخليص أخيه المعتقل، إنه لجأ إلى أحد تلك المكاتب، لافتاً إلى أنها تضم أشخاصاً مهمّتهم الرئيسة تلقين المعتقلين ما يقولونه خلال التحقيقات استناداً إلى طبيعة التهمة الموجّهة إليهم والفرع الذي قام باعتقالهم، وأوضح أن العاملين في تلك المكاتب “قادرون على الوصول إلى الشخص المعتقل، وتعليمه كيف يتحدّث للخروج بأقل الخسائر”.

ويعتبِر قيس نفسه صاحب تجربة واسعة مع “سماسرة المعتقلين”، ويشير إلى أن  الناس يلجؤون إلى المحاميين منهم تحديداً ليحاولوا إضفاء بُعد قانوني على حالتهم، وبسبب الخوف من السماسرة المشبوهين، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن المدنيين الذين يملكون علاقاتٍ واسعة مع الأفرع الأمنية هم الأكثر فعالية للوصول إلى المعتقل. ويضيف: “الناس يتعاملون مع هؤلاء السماسرة ويبتسمون في وجههم ثم يقومون بشتمهم بعد تركهم لأنهم يتلاعبهون بدماء المعتقلين للحصول على المال”.

من بين من يعملون كسماسرة في عالم الاعتقال هناك محامون وقُضاة بالإضافة إلى معقّبي المعاملات والمدنيين العاديين الذين يملكون “معارف” داخل الأفرع الأمنية.

معلومات كاذبة

تتشعب تجربة قيس مع شبكات السمسرة هذه، وتأخذ أبعاداً أخرى منذ أن اعتقل نظام الأسد أخاه في منطقة البرامكة بدمشق منتصف عام 2014 وذلك أثناء  ذهابة إلى عمله في منطقة الفحامة.

يروي قيس تفاصيل ما جرى قائلاً “أخبرني أحد أصدقائي بأنه يعرف شخصاً لديه علاقات قوية مع الأفرع الأمنية ويستطيع بشكلٍ مبدئي معرفة الفرع الذي قام باعتقال أخي لنقوم بالتحرّك والوصول إلى أحد ضبّاط الفرع لرشوته مقابل إخراج أخي”.

في اليوم التالي اتجه قيس مع صديقه “الوسيط” إلى منزلٍ في حي المزّة 86 والذي يعرف بكونه مصدراً أساسياً لتفريخ ميليشيات النظام وقواته الأمنية والعسكرية، وهناك دخل قيس منزلاً التقى فيه رجلاً أربعينياً يُدعى أبو العبد، ودار نقاش بين الطرفين لأكثر من ساعة.

حينها أخبر أبو العبد قيس بأنه لن يقوم بأي حركة قبل دفع مبلغ 150 ألف ليرة رعبون، على أن يتم دفع مثلها بعد إكمال المهمة المتمثّلة بمعرفة الجهة التي اعتقلت شقيق قيس، ومكان اعتقاله حالياً، وذلك في ظل انتشار تتوزع فيها أدوار الأفرع الأمنية في الاعتقال والتهمة بناءً على التهمة، وفقاً لما يذكر قيس الذي قال أنه دفع المبلغ وانتظر ثلاثة أيام حسب الاتفاق، فلم يأتيه ردّ، وبعد أيام اتصل به أبو العبد وأخبره أنه عرف مكان شقيقه، لكنه لم يذكر المكان (فرع “إدارة الدوريات” في منطقة كفر سوسة) حتّى أخذ المئة وخمسين ألف الأخرى.

يتابع قيس أن “أبو العبد” عرضَ عليه إخراج أخيه خلال أسبوعين من الفرع مقابل خمسة آلاف دولار، سيتم من خلالها تقديم رشوة للقاضي في محكمة الإرهاب لإخراج المعتقل المتهم بتمويل الإرهاب، لكن قيس رفض العرض لعدم توفّر المبلغ.

بعد مضي نحو 40 يوماً خرج شقيق قيس بعد أن ثبتت براءته حيث كان قد اعتُقل لـ”تشابه أسماء”، يقول قيس: “لو دفعت المبلغ للسمسار لكان احتال علينا، لأنه كذّب في أكثر من مناسبة، ومن هذه الكذبات ما قاله بخصوص تهمة أخي ومصيره في المعتقل”.

أما أم صالح، فقد استغلها سمسار آخر، واستمر بالحصول على المال منها لمدّة ليست قصيرة، ليس ذلك وحسب بل إنه حظي بالطعام وإقامة الولائم على شرفه، فضلاً عن زيارة المطاعم، كما دفعت أم صالح كل تكاليف الاتصالات والمواصلات وكل ما يلزمه لمدّة شهر، وكان خلال هذه الفترة يعطي المرأة تطميناتٍ عن مصير ابنها المعتقل، لذلك فقد بقيت من شهر أيلول 2015 وحتّى مطلع عام 2016 تدفع له الأموال، ليتبيّن لها بعدها أن ابنها قُتل تحت التعذيب منذ شهر تموز أي قبل أن يتدخّل السمسار بشهرين.

وتوضّح المرأة الخمسينية أن السمسار كان يعطيها معلوماتٍ كاذبة عن ابنها ومنها أنه بخير، وأنه نُقل إلى فرع آخر، وكان يخبرها مرّات بأنه قابله، في حين كان الشاب قد مات قبل تدخّله بالقضية، وبالنتيجة لم تحصل أم صالح إلا على ورقة تبين حالة الوفاة من إدارة السجن مفادها أن ابنها توفي بسبب “شدّة الرطوبة داخل المعتقل وعدم قدرة جسمه على تحمّلها”!

من خلال رصدنا لحالات عدة يتضح حجم الابتزاز الذي يمارسه السماسرة بحق ذوي المعتقلين، ليس بهدف تحصيل مبالغ مالية كبيرة وحسب، بل لكسب كل ما يمكن كسبه منهم مستغلين حاجتهم.

 

ما دور المحامين؟

تُعتبر معرفة مكان المعتقل من قبل ذويه أمراً شبه مستحيل بسبب تكتّم الأفرع الأمنية وعدم سماحها لأحد بمراجعتها أو السؤال عن الأمر،  كما تتقصد إعطاء معلومات كاذبة ونفي وجود المعتقل في سجونها في أحيانٍ كثيرة.

وتُشير المعلومات إلى أن القناة القانونية الوحيدة لمعرفة مصير المعتقل هي تقديم ذويه طلباً بكشف مصير ابنهم إلى كل من القضاء العسكري، ووزارة العدل، ووزارة المصالحة الوطنية، وتكرار تقديم الطلب حتى الحصول على نتيجة، غير أن هذا الطريق القانوني لا يؤدي لنتيجة مع إحاطة ملف المعتقلين بالتعتيم والسرية.

في حديثٍ لـ “صدى الشام” يقول عضو مجموعة العمل لأجل المعتقلين السوريين، شيار خليل: “إن على ذوي المعتقلين من الناحية القانونية توكيل محامٍ للإفراج عن أبنائهم، غير أن الكثير من المحامين الذين يعملون في هذا المجال يتقاضون مبالغ كبيرة”.

ويضيف خليل، أن السمسرة في هذه الحالات أمر شائع في سوريا، وأغلب هذه الحالات مرتبطة بعمليات الاحتيال التي تتم عبر مواقع التواصل الاجتماعي بحسابات وهمية، ويردف: “نحن في مجموعة العمل لأجل المعتقلين السوريين تلقينا عدة شكاوٍ عن هذه العمليات وتابعنا الموضوع فتبيّن أنها تُدار من قبل شبكات سمسرة منظمة يشرف على أغلبها ضباط في نظام الأسد”.

ويشدّد خليل على ضرورة ألّا يثق الأهالي بهؤلاء كونهم “مرتزقة يستغلون اعتقال السوريين ويتواصلون مع ذويهم بذريعة السعي للإفراج عنهم مقابل مبالغ ضخمة”.

ويؤكّد خليل أن عملية الإفراج عن المعتقل في هذه الحالة ليست أكثر من خدعة يقوم بها السماسرة بعد حصولهم على قسم من المبلغ، وأن بعض حالات الاعتقال تكون من قبل الشبيحة ومرتزقة النظام للحصول على فدية أو مبالغ مالية أصلاً، فيما يكون القسم الآخر ذو طابع أمني، ونادراً ما يفرج عنهم مقابل مبالغ مادية، لكن حالة السمسرة في أغلبها تكون دون نتيجة ملموسة، وفي هذا الإطار لا يفوت الصحفي شيار دعوة ذوي المعتقلين إلى توثيق اعتقال أبنائهم، في ظل وجود الكثير من المنظمات الدولية والسورية العاملة في هذا الشأن.

ولعل من أبرز المهتمين بقضايا المعتقلين الممثّلة السورية “يارا صبري” التي تطرقت بدورها إلى هذه الظاهرة، ونشرت قبل أيامٍ تدوينةً على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” قالت فيها: “أتمنى أن تشاركونا تجاربكم هنا مع المحامين النصابين هنا على العام مع ذكر أسمائهم إن استطعتم، فمعظمهم يدّعون الصفة وأقصد بالمشاركة أن تقولوا القصة كما حدثت”.

وتابعت: “أعيد و أكرر، لا تثقوا بأي شخص يدّعي أنه باستطاعته معرفة مكان المعتقل الذي يخصكم مقابل مبلغ من المال حتى و لو كان يدعي أنه محامٍ وله علاقاته مع الأجهزة الأمنية، لذلك لا تثقوا به قبل التأكد من هويته المهنية و السؤال عنه”.

تلقت مجموعة العمل لأجل المعتقلين السوريين، عدة شكاوٍ عن عمليات احتيال تستغل متابعة موضوع المعتقلين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتبيّن أن تلك الحسابات والصفحات تُدار من قبل شبكات سمسرة منظمة يشرف على أغلبها ضباط في نظام الأسد.

الغريق يتعلّق بقشّة

يستمر الاعتماد على السماسرة في سوريا على خلفية الاعتقالات المتواصلة، وهنا يبرز سؤال عن سبب لجوء الناس إليهم رغم إدراك حقيقتهم، وتناقل قصص عن احتيالهم وعمالتهم للنظام.

هذا السؤال يجيب عنه المحامي السوري المقيم في تركيا محمد بركان، موضحاً لـ صدى الشام أن ما نسبته 90% من ذوي المعتقلين يعرفون جيّداً السمعة السيئة للسماسرة وتلاعبهم بغرض تحقيق كسبٍ مادي، لكنهم على الرغم من ذلك يستمرون بطرق أبوابهم “بسبب عدم وجود باب بديل”.

ويضاف أن الوضع الأمني للمعتقلين معقّد جد، و”الأبواب مقفلة حياله حتّى في قاعات الاتفاقات الدولية مثل أستانا وجنيف وغيرها، حيث يرفض النظام إدراجهم ضمن بنود أي اتفاق، ويُبقي على مصيرهم مجهولاً”، لافتاً إلى أنه لا يوجد قانون فعلي مطبّق على الأرض يسمح بالسؤال عن المعتقلين بشكلٍ مباشر أو إفساح المجال لتخفيف الحكم عنهم أو حضور جلساتهم ومحاولة إخراجهم عن طريق القانون وذلك بسبب القمع الكبير في محاكم الإرهاب التابعة للنظام، وهو ما سهّل على السماسرة عملهم ليكونوا قناة الاتصال الوحيدة بين ذوي المعتقل والفرع الأمني.

واتهم بركات السماسرة بتعاملهم مع النظام من خلال الدعم والتسهيل الكبير المقدّم لهم والذي يسمح لهم بالنفاد إلى ما يجري داخل أقبية الأفرع الأمنية، مبيّناً أن هؤلاء يشكلون 25% فيما باقي السماسرة هم عبارة عن عصابات نصب واحتيال وليس لديهم أي علاقة مع أي فرع، وإنما يقومون بالكذب على ذوي “القتلى” في المعتقلات ليحصلوا على مبالغ مادية كبيرة.



صدى الشام