التيه السوري


علي الكردي

أي جحيم هذا الذي قاد السوريين إلى سعيهم للخلاص من الموت، بالموت عبر مجاهيل البحار والغابات المطيرة؟!

في البدء اشتعل الحلم، مع الثورة على خمسين عامًا من الاستبداد والإذلال الذي حوّل سورية إلى سجن كبير، ولم يتخيل أكثر المتشائمين تشاؤمًا أن يصل حقد النظام المجرم، إلى حدّ تحويل سورية إلى مقبرة كبيرة، ردًّا على المطالب المشروعة بالحرية والكرامة، لكنه حرق البلد والبشر، والحجر، فعلًا لا مجازًا، وفتح الباب لكلّ طغاة العالم كي يُكملوا ما بدأ: قتلًا وحرقًا وتهجيرًا!

اليوم، وبعد دخول ثورة السوريين عامها السابع، أصبح موتهم خبرًا عاديًا، على هامش نشرات الأخبار. تنحّى ذلك الموت، لتتصدّر تنويعاته الغرائبية، بعض الأخبار أحيانًا.

السؤال: هل يمكن للعالم أن ينسى بهذه البساطة الجرائم المرتكبة بحقّ السوريين وكأنها شيئًا لم يكن؟! هل يمكن أن ينسى العالم أكثر من ثمانية ملايين نازح في الداخل، وما يزيد عن أربعة ملايين لاجئًا في دول الجوار، وأكبر موجة هجرة غير شرعية منذ الحرب العالمية الثانية، ولا سيما أن الباب ما زال مفتوحًا أمام المزيد؟! للأسف، نعم، يمكن أن ينسى.

يُعلّمنا التاريخ أن مصالح الدول، وشهوة السلطة، وأطماع الجماعات بها، لا تدخل في حساباتها أرواح البشر وأحلامهم وحيواتهم. هؤلاء يصبحون وقودًا للأطماع وتنازع المصالح.

يتساءل الإنسان العادي: هل الشيطان أقوى من الإله، وهل الشر أقوى من الخير؟! للأسف، التاريخ يقول: نعم، لكننا لا نقرأ التاريخ، ولا نستفيد من دروسه!

لا نبسّط المسألة بين ثنائيات: الخير والشر. المسألة –بالتأكيد– أعقد من ذلك بكثير، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل، وفي حرية حركته، ضمن المساحات الرمادية، بين الأبيض والأسود، لكننا لا نكاد نلحظ تلك العوامل غير المنظورة، المؤثرة، بكلّ ما آلت إليه أوضاعنا من سوء، ليس على مستوى سورية فحسب، بل على مستوى الربيع العربي الموءود بشكل عام.

من حق الإنسان العادي أن يصرخ: نحن لسنا مجرّد أرقام: قتلى وجرحى ومعتقلون ومُهجّرون قسريًا. نحن بشرٌ، لكلّ منّا حيواته وذاكرته وآماله وأحلامه. من حق الإنسان العادي أن يسأل أمام انسداد الأفق أمام أي حل: من أنا، وماذا أريد؟! من حقه أن يسأل، بعد أن تحوّل الحلم إلى كابوس مقيم: إلى متى سنبقى على هذه الحال.. وإلى أين نحن ماضون؟!

لن يستقر الإنسان العادي، البسيط، على حال من الرضى، أو السخط على النفس. لا على خيار البقاء في جحيم الداخل، أو خيار التمزق والتشظي هناك في منافي اللجوء. لن يستقر على حال وهو ينظر إلى أوضاع بلاده، وما ينتظرها من سيناريوهات، أفضلها تفوح منه رائحة كريهة، مشبوهة، لا تُبشّر بخير!

ما أقوله: ليس دعوة لليأس، ولا للإذعان والقبول بما تفرضه الوقائع المرّة على السوريين من خيارات صعبة، بل هو دعوة إلى التفكّر والتأمّل العميق بأحوالنا، هو صرخة لعل الضمائر الحيّة تصحو من سباتها، وتعمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

أحزنني منذ أيام دفاع ممثل الائتلاف في فرنسا “منذر ماخوس” المستميت عن سياسة فرنسا، التي لم تتغير برأيه، بعد تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون مؤخرًا. أي أوهام تلك التي ما برحت بعض النخب تسوّقها بإصرار عجيب، دون الاعتراف بأن السياسات تتغير بتغير المصالح الذاتية للدول.

قال ماكرون: “الأسد عدوٌ لشعبه، لكنه ليس عدوًّا لفرنسا”. بدل أن ينبري ممثل الائتلاف لتحليل وتفكيك ما يكمن من خلفيات وراء هذا التصريح، استمات في الدفاع عن سياسة “فرنسا التي لم تتغير تجاه القضية السورية”.

للانتصارات، كما للهزائم أسبابها. من غير المجدي أن نرفع عقيرتنا بلوم الآخر، وكيل الشتائم –في كلّ مرة– أمام أي هزيمة، صغيرة كانت أم كبيرة. قبل لوم الآخر أو التماهي به. علينا أن نسأل أنفسنا: أين أخطأنا، وأين أصبنا؟

مراجعة الذات هي أول الطريق الصحيحة لأخذ قضيتنا بأيدينا. في هذا السياق، من المفيد أن نذكّر ببعض محطات تاريخنا الحديث، لعل الذكرى “تنفع المؤمنين”.

– صدّق الشريف حسين وعود بريطانيا العظمى بإقامة دولة عربية تضم: الحجاز وسورية الطبيعية والعراق، وتحالف معها ضد العثمانيين على هذا الأساس، لكن ذلك الوعد تقلّص بالتدريج إلى كيان هزيل في شرقي الأردن، كجائزة ترضية للهاشميين، بعد إسقاط العهد الفيصلي بدمشق، وإجهاضه في العراق، وانقلاب آل سعود عليه في الحجاز.

– تنازعت القوى الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى على تقاسم النفوذ في المشرق العربي، حيث كانت تطلق الوعود في العلن، وتعمل في الخفاء على عقد الصفقات (سايكس–بيكو) التي أسفرت عن تمزيق سورية الطبيعية إلى عدة كيانات، والوعد الوحيد الذي التزمت بتنفيذه هو وعد بلفور، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

– لأن موازين القوى على الأرض هي التي تفرض نفسها في صراع الأمم، استطاعت تركيا أتاتورك انتزاع اعتراف فرنسا بسلخ لواء إسكندرون، وضمّه إلى تركيا.

– استطاعت فرنسا الاستعمارية هزيمة الثورة السورية الكبرى (1925 – 1927)، بسبب العنف المفرط الذي استخدمته من جهة، وبسبب غياب التنسيق بين الثوّار، والفوضى التي كانت تخلّفها أعمال العنف في المجتمع، والخلافات الحزبية بين القادة السياسيين، حيث اتهم الاستقلاليون بزعامة شكري القوتلي عبدَ الرحمن الشهبندر المتحالف مع سلطان باشا الأطرش، بالعمل لصالح الهاشميين الذين يمدونهم بالدعم والتمويل، فيما كان شكري القوتلي يُناوئ الهاشميين ويرى في السعوديين السند الفعلي للقضية السورية. (ما أشبه اليوم بالأمس).

– لو استعرضنا المفاصل المهمة في تاريخنا الحديث منذ مئة عام وحتى اليوم، نجد –في كلّ مرة– أن الخلافات الداخلية والانقسامات وتعدّد الولاءات للخارج، والجهل أحيانًا، والغلّو أحيانًا أخرى، هي من أهم أسباب الهزائم، ومن العوامل المؤثرة في تسهيل مهمة القوى الخارجية في تحقيق مآربها على حساب الشعوب وأحلامها.

إن سورية اليوم، ومعها المشرق العربي، في خطر. هذا إذا لم نقل إن العالم العربي كله بات في دائرة الخطر، حيث تتسابق القوى الدولية والإقليمية على تثبيت مواقع نفوذها على الأرض.

لم تأت روسيا أو إيران أو تركيا أو الولايات المتحدة وحلفائها، بأسلحتها وجنودها رأفةً بالسوريين، وها هي “إسرائيل” تنتظر متربصةً ما سوف تسفر عنه “صفقة العصر” التي عقدها ترامب مع دول الخليج العربي.

كل السيناريوهات التي تُطبخ الآن في الغرف المغلقة مشبوهة، وتفوح منها روائح كريهة، وعلى الوطنيين الشرفاء أن يعدّوا العدّة لمواجهة قادم الأيام.




المصدر