الجدار.. هويّةٌ من إسمنت وحجر


علا حسامو

نتمترسُ خلفهُ، ولا نرتضي عيشًا دونه، فنخرجُ من جدرانِ خوفنا وصمتنا إلى عُري موتنا، ومن جدران أرواحنا المتعبة إلى جدران أجسادنا الاستبداديّة، لنجد أنفسنا قاعدين مشلولين، في غرفةٍ ضيّقةٍ بين أربعةِ جدران (حيطان)، أو بالأحرى خمسةِ حيطان؛ إذ إنَّ أحدها يتمدّدُ -بفجاجةٍ- فوق رؤوسنا، كالسّلطات السّياسيّةِ في البلاد، الخارجةِ عن تصنيفات الحضارةِ والتّقدميّة، وأوجه الشّبه بين الطّرفين كثيرة.. فذاك الحائط:

أوّلًا: يتزمّلُ باسمٍ مستعار “سقف”، سقف البيت.. الوطن.. الدين.. سقف القانون.. العادات والعرف وال.. وال.. وال..

ثانيًا: خلفَ إسمنت اسمه المستعار، يبيحُ لنفسهِ أن يحبس عنّا الشّمسَ والهواءَ وعطر الرّب، ويمنعنا من التّنفّسِ والسّيرِ قدمًا والرّكضِ والقفز والسّباحةِ والطّيران، ليمنحنا هبةَ الزّحف أسفلَ عباءتهِ الصّمّاء؛ ثمّ ليعلنَ -بكلِّ صفاقةٍ- أنّه الحامي لسلامتنا وأمننا، الآمن الأمين على أرواحنا وأجسادنا، عقولنا وأموالنا، الضّامن لحقوقنا؛ وإذ ذاكَ نرقصُ زاحفين ونهتف بلغتنا الببّغائيّةِ لحامي الحمى، ونصبُّ جامَ شفقتنا على أولئك المشرّدين المساكين الهائمينَ على وجوههم دون مأوىً، دونَ سقفٍ، أو جدران. وإذا سلّط المخرجُ عدسته إلى الجانب الآخر تظهر حقيقةُ الصّورة، أعدادٌ قليلةٌ من المتسكّعين المشرّدين يسخرون من جموعنا السّاكنةِ الآمنة عندما ننبش جثث أحلامنا لنُخرج من جيوبنا المفتّقة ما علينا لجابي البلديّةِ من (ضريبة مسقّفات).

ضريبة مسقّفات! هذا يعني شيئًا واحدًا فقط: نحنُ… شعبٌ… مسقّف، أي… مثقّف، فما الفرق بين الكلمتين إلّا سنٌّ مكسورة.

شعبٌ مثقّف؟! لم إذن يُطلَق علينا اسم “أبناء العالم الثّالث”؟

معضلةٌ لم أتمكّن من فهمها أو تحليلها وتفكيكها أو تقليبها على نارٍ هادئةٍ أو ماردةٍ كي تتجلّى؛ تمامًا كتلك البيضةِ اليتيمة اللئيمة الّتي منعتني أمّي من تقلبيها على النّار كي لا تعرف جارتنا أم يوسف بالأمر؛ فتعيث ثرثرةً في الحارةِ أنّنا نشتري البيض في أوقاتِ ارتفاع حرارةِ الأسعار.

ما لم أفهمهُ من كلّ ذلك كيفيّةَ معرفةِ أمّ يوسف بعشائنا السّرّيّ!

آااه نعم يا أمّي، الحيطان إلها أنوف.. وآذان وشفوف، بتشمّ وبتسمع وبتحكي”

وبسبب ما سلف ممنوعٌ عليّ حتّى في البيت، بل حتى في غرفةِ نومي، أن أتحدّث بأمورٍ ثلاثةٍ.. أربعةٍ.. خمسة.. ولو بيني وبين نفسي، فكما يرى الله -حسب ادّعاءات أهالينا ورجال الدين- ما نفعله؛ حتّى إن اختبأنا تحت أسرّتنا، فإنّ جارتنا أم يوسف وجارنا أبا فادي والحارةَ كلّها، ستعرف بما حدّثتُ به نفسي في غرفة نومي أو في الحمّام.

وربّما لأنّ للجدرانِ هذه الميّزات العجيبة، كرجل أمنٍ أو كجاسوسٍ متربِّص، قد تحمينا مرّةً لتقتلنا ما بقي من مرّات، ربّما لهذا السّبب حفلت البشريّة بالجدرانِ والأسوارِ العاليةِ المصفّحةِ بالحرصِ وبأطنانِ الإسمنتِ والحجرِ وملياراتٍ من الأموال المبذولة والأرواحِ المُضحَّى بها. جدرانٌ وأسوارٌ تختلفُ أنواعها وأشكالها، وأهدافها المباشرة، لتبقى أهدافها الضمنيّة واحدة، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمن جدار برلين وجدار الفصل العنصري في القدس، الجدار الكوري، المغربي.. وغيرها من الجدران التي بُنيت لتقسمَ شعبًا عن أرضه وأرضًا عن شعبها، إلى سور طروادة الشّهير الذي اخُترِقَ بحصانٍ خشبيّ، وسور الصين العظيم الذي تداعى أمام رشوةٍ لحارسه..
نعم مهما كان السّور عظيمًا ومهما كان الحائطُ متينًا، يمكننا بفكرةٍ صغيرةٍ حادّة المعنى، أن نهدمه، فكيفَ بجدارٍ أو سورٍ يلفُّ قلبًا أو عقلًا؟! أليس من الممكن أن نهدمه بكلمةٍ أو بفعلٍ صغير؟!

كلمةٌ صغيرة.. مجرّد كلمةٍ صغيرة أو فعل..

كنتُ أردّدُ هذه الفكرةَ بصوتٍ عالٍ، بلا وعيٍ، حينَ أيقظني من شرودي صوتُ أمّي، وهي تقول
“جنَّيتِ يا بنت لتحكي مع حالِك؟!” قلت:

– “لا.. كنت عم فكّر إنّو فيني إتحرّر من أيّ…”

– تتحرّري؟! إنتِ أيمت بدّك تعقلي؟! السّترة يا بنتي السّترة. ما بتعرفي المتل شو بيقول؟! امشي الحيط الحيط، وقول يا رب السترة.

الحائط أوّلًا وأخيرًا.. الحائطُ في كلّ مكان؛ حتّى بيننا أنا وأمّي..

يبدو أنَّ هويّتنا واحدةٌ في هذا العالم، هويّةٌ من إسمنتٍ وحجر، هويّةٌ من جدران، سأكسرها.. سأفعلُ ذلك.. يومًا ما.




المصدر