سورية في قلب المؤامرة!


منصور حسنو

أضيف مصطلح (نظرية المؤامرة) إلى قاموس أكسفورد عام 1997، وتُشكّل نظرية المؤامرة خلافًا عميقًا وانقسامًا وسط الفضاء الثقافي العالمي والعربي، ويتصف الانقسام حول المؤامرة في عالمنا العربي بتبني اتجاهين: الاتجاه الأول هو التفسير المؤامراتي للتاريخ عمومًا عند الاتجاهات المحافظة، سواء على المستوى الديني الشعبي أو على مستوى الإسلامي السياسي؛ ويُشكّل هذا الإيمان دعمًا لنظرية الخلاص عند الإسلاميين عن طريق التدخل الإلهي، فهو وحده الكفيل بإيقاف المؤامرة على المسلمين (يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين)، (إنهم يكيدون كيدًا، وأكيد كيدًا فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا)، بحسبان أن فعل المكر والكيد هو صورة من الصور التي تتخفى المؤامرة في أنفاسها، وقد كتب المفكر الإسلامي الدمشقي الكبير عبد الرحمن حسن حبنكة كتابه الشهير (أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير والاستشراق والاستعمار) تحت سلسلة كتب طبعت تحت اسم: (سلسلة أعداء الإسلام) مضافًا إليها كتب: (مكائد يهودية، وكتاب الكيد الأحمر “الشيوعية”)، والتفسير المؤامراتي هو التفسير الذي تتبناه معظم الجماعات الإسلامية، ولا نغالي إن قلنا معظم المؤمنين، وهو الاتجاه الذي يُعزز مواقع الإسلام السياسي في المجتمع، كونه يُمثّل الاتجاه الذي يُصادق على التفسير القريب من جمهور المسلمين. أما الاتجاه الثاني فيرفض التفسير المؤامراتي للتاريخ في الفضاء الثقافي العربي، وهو الاتجاه الذي تتبناه النخب المثقفة علمانيًا وغربيًا وليبراليًا، إذ ترفض هذه النخب مقولة المؤامرة جملة وتفصيلًا، وتنعت من ينزلق إليها بالدروشة الثقافية والسطحية.

يبدو أن سبب الخلاف بينهما نفسي أكثر من كونه واقعيًا علميًا، فالشعور بالعجز لدى الجماعات المحافظة عمومًا والإسلامية التي نالت النصيب الأكبر من عنف الديكتاتوريات العربية ورغبتها في عدم خسارة صدقيتها ونفوذها في الشارع وقراءتها السطحية للواقع الحديث المعقد سياسيًا، تدفعها للمحافظة على هذا الاتجاه، وهذا بدوره يُقسّمها إلى جماعتين، جماعة تجنح إلى العنف في مواجهة المؤامرة، وهو نوع من الانتحار الجماعي المُعبّر عن أوج المشكلة النفسية لدى تلك الجماعات كالقاعدة والنصرة والطليعة، ونوع يختار التسليم والإحالة على التقاعد الوظيفي الفاعل في الحياة الاجتماعية، واستراحة عقلية في تفسير الواقع، وإنما هو انتظار الفرج والتدخل الإلهي كالجماعات الصوفية أو الخلاصية المهدوية، بينما تنكر النخب المثقفة المؤامرة  كونها تشلّ عن التفكير وتعطل إمكانات الإنسان في تفسير الواقع  وتجعله رهينة قوى غير مرئية تحبك له المستقبل وتحدد له الطريق.

الإيمان بالمؤامرة والتسليم بها يؤدي إلى النتيجة نفسها التي يؤدي إليها نكرانها وتغييبها في معادلات فهم السياسة والواقع بغية مواجهته وتصحيح حركته، وكلنا يذكر كلمة الخليفة العباسي، عندما أخبروه بوجود مؤامرة على أرض الخلافة فكان يقول: بغداد تكفيني!

وبتعريف أغلب المُنكرين لنظرية المؤامرة، كون السياسة قائمة على المصالح، فما الذي يمنع الدول من تحقيق مصالحها عبر التآمر؟ وما الذي يدفع دولة تجد مصالحها في بلدان النفط وترى أن تحرر تلك البلدان ديمقراطيًا سيُشكّل تهديدًا مباشرًا لمصالحها فهل ستسوق لمشروعها الديمقراطي في هذه البلدان؟

لست أرى أنّ الحجج التي يستند إليها المؤمنون بالمؤامرة أوهى من حجج المنكرين لها ورافضيها، فمن يقرأ التاريخ، وقد كُتب بالعموم على أنه تاريخ غزوات وملاحم وفتوحات وصراعات، يجد المؤامرة واقعًا لا يحتاج إلى برهان، وهذا ما جعل المؤامرة حاضرة في أعمال شكسبير، ونحن نذكر كيف اغتيل يوليوس قيصر عن طريق أحد أهم الأصدقاء المخلصين له، وكيف هرب موسى ببني إسرائيل عندما سمع بمؤامرة تُحاك ضده كما وردت في الأسفار وفي القرآن (وقال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين)، وكلنا يعلم رفع المصاحف يوم صفين، وكيف رتّب الداهية عمرو بن العاص حبكة سياسية للتخلص من علي، ثم عشرات قصص الاغتيالات السياسية عبر التاريخ، بحسبان أنّ الاغتيال السياسي هو صورة من صور المؤامرة، وليس عمران وجنبلاط والحريري وخلية الأزمة إلا صورًا حديثة وقريبة من ذاكرتنا! تمت بفعل دبر في ليلة ظلماء وليس خبط عشواء!

قامت الثورة السورية وروّج النظام بين أطياف الشعب السوري لنظرية المؤامرة، فمن الأمير بندر إلى نجل الحريري ثم إلى أردوغان وحمد، وانتهاء بالكون كله، فلم يخجل النظام ومؤيدوه من قولهم: إن سورية تتعرض لمؤامرة كونية، وانقسم السوريون بين فريقين: فريق يرى أن سورية حقًا تتعرض لمؤامرة كون هذا النظام شكل قلعة من قلاع العروبة الصامدة والمقاومة لكل أشكال الاحتلال الإمبريالي والصهيوني، ما يعني أن الثورة على النظام هي ثورة ستؤدي لضياع حقوق العرب وضياع الهوية والقضية وفلسطين!، وفريق يقول نعم إنّ سورية تتعرض لمؤامرة على شعبها وثورتها، كونها ثورة تحرر من عصابة لطالما كانت مُعطّلة لكل أشكال التحرر في المنطقة، بل لكل أشكال التفاهم العربي.

في الحقيقة، لو رجعنا إلى التاريخ السوري القريب، فسنجد أنّ سورية كانت ضحية للصراعات الإقليمية والدولية، وشكّل موقعها الجيوسياسي والعمق التاريخي الحضاري الذي لعبته سورية كمعبر وعقدة وصل وفصل بين الحضارات، أحد أهم الأسباب التي تجعل أي تغيير فيها يفضي إلى تغيير في تلك الأقاليم، وكم كان الشاعر شوقي مصيبًا ومتفلسفًا أكثر من كونه شاعرًا، عندما قال: “وعزّ الشرق أوله دمشق”.

نحن نعرف أنه على الرغم من النوايا الخارجية بتفكيك الإمبراطورية العثمانية -(مئة مشروع لتقسيم تركيا) كتاب المسيو جوفارا وقد لخصه شكيب أرسلان- والرغبة العربية النخبوية بالفصل والانعتاق من الهيمنة العثمانية، فإن القول الفصل فيه كان في سورية، فالتاريخ السوري هو الذي شهد مولد النزعات القومية والعروبية والتحديثية للدولة والذي قادته النخب التي وجدت في الثقافة الغربية والتاريخ الغربي مستفادًا لنهضة العرب، إنّ هذه النخبة التي لم تعترض قوات الحلفاء على إعدامها في بيروت ودمشق، بدليل أنّ من نجى منها تم زجه في السجون بعد دخول الفرنسيين سورية ولبنان!، كان احتلال دمشق حدًا فاصلًا في التاريخ وبداية تشكل خريطة جديدة في المنطقة.

إنّ تشكيل أدنى حياة وطنية وديمقراطية في سورية يعني انتقالها حتمًا وقسرًا إلى المحيط شرقًا باتجاه العراق وجنوبًا نحو الحجاز وغربًا نحو مصر، هذه الحواضر التي تُشكّل الثقل الحضاري -ما قبل إسلامي- للعرب، ثم الثقل التاريخي بعد الإسلام لكونها عواصم السياسة والثقافة والفكر في المشرق العربي والعالم، هذه الحياة، ولنقل الرغبة في التحرر والاستقلال، شكّلت هاجسًا لدى القوى العالمية، ولم يكن مؤتمر سان ريمو 1920 في إيطاليا إلا البداية لتشكيل هذا الشرق، وفق المصالح الفرنسية والإنكليزية والروسية، المعبر عنه بـ (سايكس-بيكو) سابقًا، والتي توضّحت بعد مؤتمر سان ريمو.

تقاسمت فرنسا وبريطانيا أرضَ سوريا الكبرى، وللحد من المقاومة الشعبية للفرنسيين، تم التنازل عن جزء مهم من الأرض السورية لتركيا عن طريق فرنسا، وتدخلت عوامل خارجية أساسًا لجلاء الفرنسي عن سورية، ومع عدم نكران دور المقاومة الشعبية والثورية ضد الفرنسيين، وأصبحت سورية بحدودها التي نعرفها اليوم، وقد انتفضت على سلطة ترجع جذورها لتلك الفترة المعقدة من تاريخ سورية، ويقول نيكولاوس فان دام، في كتابه (الصراع على سورية): “فضّل الفرنسيون تجنيد الأقليات الدينية والعرقية ودعمها، وهي السياسة المتبعة فرنسيًا في دعم المجموعات المتطلعة دومًا إلى الاستقلال”.

الثورة السورية اليومَ تدفعنا إلى قراءة جديدة للتاريخ السوري القريب والبعيد، لا لنُسلّم بنظرية المؤامرة، ولا لننكرها، بل لنفهم لماذا تتكرر المأساة دومًا معنا نحن السوريين، وتأملوا وصف الموسوعي محمد كرد علي لسورية الأمس وواقعها اليوم: “وقد طالت حالة الحرب وغلت مراجل الأحقاد وساءت أخلاق الناس، ولم يجسر أحد على انتقاد الدولة خوفًا من التعذيب، وظل جمال باشا يجثم على سورية كالموت مع انتشار الحمى والطاعون، حتى أكلت الناس الأعشاب ومات بعضهم من الجوع”.

لم تكن الانقلابات المتتالية في سورية وليدة عقد محلية بقدر ما كانت تُعبّر عن التدخلات والتناقضات الدولية في سورية، ولم يكن الاستقرار القسري لسورية نسبيًا في مرحلة آخر الانقلابات إلا كونه الانقلاب الذي يمثل المصالح المتفق عليها غربيًا، فالعلاقات السورية-المصرية أصبحت في أسوء حالاتها، بعد وصول البعث إلى السلطة، وأصبح التقارب بين بغداد ودمشق من المحرمات، بل عمد النظام على  دعم الثورة الإيرانية سياسيًا وعربيًا، وأصبح الخليج فوق السطح رجعية عربية، ولا تشكل هذه الرجعية مانعًا من سحب الأموال التي تدفقت عليه من الخليج في حرب 73، أو للوصول إلى اتفاق الطائف في لبنان بعد أن أنهى المقاومة الفلسطينية هناك، وفعل في تلّ الزعتر ما لم يفعله شارون!

لذلك شكّلت الثورة السورية حرجًا للعالم كله، واختبارًا لقيم الحرية والعدالة في العالم، القيم التي سقطت في آخر كلمة للرئيس الفرنسي: “الأسد ليس عدوًا لفرنسا”! والتي لا يخالف مؤداها اللفظي عن كلمة غورو: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”!

تقسمت سوريا الكبرى نتيجة صراع القوى الكبرى، وتتقسم سورية الصغرى إلى سوريات أصغر، وهذه المرة بتفويض القوى الكبرى للقوى الصغرى، فماذا يقصد الدكتور غليون من عبارته التي يكررها دومًا: لقد خذل سورية من زعموا أنهم أصدقاء الشعب السوري؟ إلا السماح لهذه القوى سواء الروسية والإيرانية والتركية والخليجية في تقويض حرية السوريين.

السوري الذي ناصر كل قضايا التحرر في العالم والذي كانت تعنيه الثورة الجزائرية، وينزل إلى الشوارع داعمًا لها بالنفس والمال، السوري الذي قام طالب أزهري بطعن كبرياء المحتل في مصر، السوري الذي كان يهتف للقضية الأرتيرية وعربستان كما يهتف لفلسطين، هذا السوري جدير بالحياة والحرية والكرامة، ويستحق أن يسلك كل الطرق للوصول إلى حريته، حتى لو كان الثمن التضحية بكل الشعارات الكاذبة التي شكّلت العرين الذي يحتمي به الأسد.




المصدر