السياسة والعنف

1 يوليو، 2017

جاد الكريم الجباعي

يرى كثيرون منا أن الثورة السورية التي انطلقت ربيع 2011، تحولت إلى حرب، كل من وصفها بوصف أرادها أن تكون ذلك الوصف، ولا سيما قوى الاستبداد والتسلط والدول الكبرى والقوى الإقليمية، ومن يتبنون خطاباتها من السوريات والسوريين؛ فمن عدَّها ردًا على “تمرد” أرادها أن تكون كذلك، ومن عدَّها حربًا طائفية أرادها أن تكون كذلك، ومن عدَّها حربًا على تكفيريين وإرهابيين أرادها أن تكون كذلك.. وهكذا، أي إن كل من وصف الحرب بوصف كان يحدد “العدو” بهذا الوصف، (نستثني من عدُّوها ويعدُّونها مؤامرة كونية، لأن خطابهم دون مستوى النقد ودون مستوى السياسة). فهل ثمة علاقة ضرورية بين الثورة والحرب، هل ثمة علاقة ضرورية بين العنف والسياسة؟

قد تجيب الثورات الاشتراكية وحركات التحرر القومي التي ملأت القرن العشرين، واقترنت بالحرب أو تزامنت معها أو أعقبتها، بالإيجاب، ولكن المصاير التي انتهت إليها هذه الثورات التي أعادت إنتاج الاستبداد وإنتاج الحرب، تشير كلها إلى نتيجتين: أولاهما، أنه “لم يتبق من قضية (اجتماعية – سياسية – إنسانية) سوى القضية الأقدم، قضية الحرية إزاء الاستبداد” القضية التي تشكل، في حقيقة الأمر، جوهر السياسة ذاته منذ بداية التاريخ”. والثانية أن الحرب مقترنة بالاستبداد والتسلط والعنصرية اقترانًا ضروريًا، يغذيها ويتغذى منها، سواء كانت حربًا على الخارج أو حربًا على الداخل.

الدرس الأول والأهم الذي يمكن أن نتعلمه من ثورات الربيع العربي ومآلاتها، هو ضرورة التفريق بين السياسة العنف، على اعتبار العنف بمختلف أشكاله هو الرُّسابة الطبيعية (الغريزية) في الحياة المدنية، الرسابة المنقوشة في خافية الأفراد والجماعات، أو لا وعيهم، وفي ذاكرتهم “التاريخية” أيضًا. ومن المعروف، في كل مكان وزمان أن الأفراد لا يلجؤون إلى العنف، حينما يختلفون، إلا عندما يعجزون عن التواصل الإنساني، ويفقدون القدرة على النقاش والحوار والتفاهم، للتوصل إلى حلول مناسبة لخلافاتهم، وكذلك الجماعات والأمم والشعوب، لذلك نفترض أن اللجوء إلى العنف نكوص عن الحالة المدنية التي لم تخل قط، ولن تخلو أبدًا من التعارضات والخلافات، نكوص إلى الهمجية البدائية، والغريزة الحيوانية.

العنف هو القاسم المشترك بين “الثورة”، كما استقرت صورتها في الأذهان، وكما رسخت دلالاتها في الأفهام، وبين الحرب، ولهذا فإن الثورات العنيفة والحروب تقع كلها خارج المجال السياسي، على الرغم من تأثيرها المسجَّل في التاريخ، فليس كل ما يسجله “التاريخ السياسي” سياسيًا، بحكم قابلية الانتكاس إلى الهمجية، المضادة لقابلية التحسن الذاتي، في الطبيعة البشرية، أو بحكم الرُّسابة الغريزية أو البدائية في الخافية البشرية، الفردية والجمعية. لذا، لا بد من إعادة تعريف السياسة (Policy)، بأنها الفن والعلم اللذان يُعنَيان بتشكُّل الفضاء العام، وابتكار المصلحة العامة التي تمنح المصالح الخاصة معناها واتجاهها، وإدارة الشؤون العامة، والحكمة في ممارسة السلطة، وحل التعارضات الملازمة للكينونة الاجتماعية سلميًا. إعادة تعريف السياسة على هذا النحو مدخل ضروري لفهم دلالات الثورة السلمية ونقدها. فالقضايا السياسية لا تحل بطرق ووسائل غير سياسية. لذلك، يمكن القول: إن الاستقلال الكياني والحرية معًا يشكلان محتوى الثورة السلمية، ويعينان ماهيتها وجوهرها؛ “إن كلمة “ثورة” لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية”، حسب كوندروسيه.

ولكي يتضح مفهوم الثورة السياسية أو الثورة السلمية، بأبعاده المعرفية والأخلاقية، والاجتماعية – السياسية والإنسانية، يمكن مقارنة الثورة بـ “الهستيريا الجماعية” التي تولدها الروح العصابية لدى الجماعات الدينية، وتنتهي دائمًا بحركة “إحياء” سلفية وأصولية عقيمة تاريخيًا، ولا تفضي إلى نتائج سياسية، كالثورة الإيرانية التي رأى فيها مثقفون عربٌ نموذجَ الثورة المنشودة، وفقًا لمعاييرهم المختلفة. ويبدو أن الثورة الدينية التي تمزج العقيدة بالسلطة، لا تزال تحكم تصور غالبية العرب والمسلمين للثورة، وتعيِّن معنى السياسة الذي استقاه العرب من الثقافة الفارسية القديمة، والذي يعيد الفرس إنتاجه، ويقلدهم العرب مرة أخرى، من طريق ردة الفعل على التحديات الإيرانية.

فقد عبر برهان غليون عن اغتباطه بالثورة الإسلامية الإيرانية، في كتابه (الوعي الذاتي)، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1992، ص 79) قائلًا: “بعد سنوات الاغتراب الطويلة، يبدو كما لو أن النخبة المثقفة العربية التقت نفسها، في لهب الأحداث الإيرانية، وكان تبنيها السريع لها وسيلة بلا ريب للتعبير عن مشاغلها الذاتية، وعن رفضها للوضع العربي الراهن. وهكذا جاءت الثورة الإيرانية في الوقت المناسب، لتعيد إلى الوجدان العربي المثلوم فرحه الزائل، وإلى الشعور العميق بالخيبة أملًا متجددًا في القدرة على استملاك العالم من جديد”. فالتقت في هذه المناسبة التاريخية العروبةُ بروحها الإسلام الضائع، كما التقى الإسلام موطنه العربي الجافي.. الإسلام الذي عمد نفسه في أعظم ثورة شهدها النصف الثاني من القرن العشرين، مطالب اليوم أن يحقق الحلم الذي عجرت عن تحقيقه الأيديولوجيات الماضية، القومية والماركسية”. في حين رأى فيها المفكر الإيراني، داريوش شايغان “علامة خطيرة على فشل مزدوج، سواء من حيث عجز الحداثة عن إقناع الجماهير المحرومة الطريحة على هامش التاريخ، أم من حيث عجز التقاليد الدينية القديمة عن استيعاب ما عرفته العصور الحديثة من قطيعة مع الماضي. ومن ثم، ليست هذه الثورة سوى نوع من هستيريا جماعية، وانبجاس نزعة ظلامية جديدة هي.. أدلجة المأثور الديني. حتى ليبدو الأمر كأن الأيديولوجيا أصبحت، بصيغتها الأكثر بهتانًا والأكثر خرقًا، نقطة التقاء مستويات مختلفة من الوعي.

نعرَّف السياسة بأنها فن إدارة الاختلاف وإنتاج الحقيقة، وحل التعارضات الاجتماعية – السياسية سلمًا، وحل الخلافات بين الأفراد والجماعات، على نحو يربح فيه الجميع، وإن بنسب مختلفة، وتكون خسارة الخاسر النسبية ربحًا صافيًا للجميع، كخسارة حزب معين في الانتخابات، وكذلك في الخلافات بين الدول. السياسة، بهذه المعاني، شأن عام يمارسه طوعًا واختيارًا مواطن حرّ هو عضو كامل العضوية في المجتمع المدني والدولة، ومواطنة حرة كاملة العضوية فيهما. الأدوات المثلى للسياسة هي التواصل والنقاش والحوار والتفاوض والتعاقد والتعاهد والتواثق والتعاون.. وهذه الأدوات ذاتها تعيِّن الفرق بين السياسة والعنف المعروفة وسائله وأدواته. ولكن السياسة، بوصفها أبرز علامات التمدن، لم تكن كذلك دومًا، ما دفع كلوزفيتز إلى اعتبار الحرب امتدادًا للسياسة بوسائل أخرى، ودفع فوكو إلى اعتبار السياسة امتدادًا للحرب بوسائل أخرى، وفي الحالين ثمة تفارق وتناقض بين ماهية السياسة وغاياتها، وبين وسائلها وأدواتها، يذكران بكلبية ماكيافللي (الغاية تبرر الوسيلة).

فلعل اقتران السياسة بالأيديولوجيا، حتى يومنا، هو علة جنوح الأفراد والجماعات والأحزاب والدول إلى العنف، مطالبةً أو مدافعةً، ما يحيلنا على مفهوم العصبية الخلدوني، ويكشف عما تنطوي عليه العصبيات من تطرف وأصولية، وما تولده من عنف، وما تمارسه من هدر لإنسانية أفرادها، وهدر الإنسانية بوجه عام، حسب تحليل مصطفى حجازي. “الأيديولوجيا ليست دينًا، وليست فلسفة، وليست علمًا”، وإن كان محازبوها يؤوِّلون مبادئ الدين أو الفلسفة أو العلم، ويتلاعبون بها، لتبرير مصالحهم وتسويغ أهدافهم وغاياتهم و”تعقيل” أوهامهم (أي جعلها معقولة).

لقد استسلمنا زمنًا طويلًا لمقولة “احتكار الدولة للعنف”، مع أن الدولة التي تحتكر العنف، وتديره، ليست دولة سياسية، بل مجرد سلطة، كالسلطات العائلية القائمة في بلادنا، أو السلطات الحزبية القائمة في غير مكان، من غير اللائق وصف أي منها بالسلطة السياسية. “الدولة هي الحياة الأخلاقية للشعب”، أو حياته النوعية (الإنسانية)، حسب تعبير ماركس، وليست أداة قمع طبقية. العقوبات التي يفرضها القضاء المستقل على من يخالفون القوانين أو يخالفنها، تهدف إلى حماية المجتمع أولًا، وإلى إصلاح الأفراد المخالفين والمخالفات وتأهيلهم معرفيًا ومهنيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا، وهذا يقتضي أن تكون السجون وإصلاحيات الأحداث خاصة نوعًا من مدارس حديثة للراشدات والراشدين، تعمل وفقًا لاستراتيجية اجتماعية، لتحقيق الغايات الأخلاقية التي ينشدها المجتمع، ويقوم عليها أشخاص مؤهلون علميًا وأخلاقيًا، لا مجرد حراس وجلادين. فبدلًا من كون المدارس كالسجون، يجب أن تكون السجون كالمدارس، لأن العنف في الحالين آفة التربية، مثلما هو آفة السياسة؛ فكما تكون التربية تكون السياسة.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]