“المكوّنات” والثورة


عقاب يحيى

زمان، سنوات المدّ التحرري، عندما بلورت حركات التحرر مختلفة الاتجاهات مشروعًا نهضويًا، لم يكن مصطلح “المكوّنات” معروفًا، وكان يُحكى، بكثير من التحسّب، عن الأديان والمذاهب، بينما يجري الهمس بقصة الأقليات.. من منطلق أن ذلك المشروع الذي غلب عليه الطابع القومي بدا عابرًا للمذاهب، ولا يريد الاعتراف بها.

لكن الأرجحية في تركيبة ذلك المشروع وأدواته من جهة، وسيطرة البعث، أو بالأدق المؤسسة العسكرية ببعثيها على مقاليد الحكم، بعد التفرّد وتصفية الآخرين من قوى ناصرية ومستقلة، إثر خلافات متعددة الأسباب؛ كانت غلبة أبناء الريف واضحة، وعلى الأخصّ أبناء المذاهب الإسلامية غير السنية، وكان تعبير “عدس” يختصر الشائع بين الناس، خاصة في المدن، كناية عن العلويين والدروز والإسماعيليين الذين كانوا القوة الضاربة في الحكم، خاصة في الجيش.. على الرغم من أن الشعارات المرفوعة، والخطاب المعتمد من قبل البعث، كان غير ذلك، وضد الاعتراف بأي مكون على أسس دينية ومذهبية وحتى عرقية، ومما لا شكّ فيه أن هزيمة حزيران/ يونيو التي كشفت عورات ذلك المشروع، وأدّت إلى إنهائه من قبل قوى خرجت من رحم الأنظمة في سورية ومصر، قد أطلقت العنان لكل البنى ما قبل قومية ووطنية، خصوصًا أن نظام الانقلاب الذي قاده الأسد ضد البعث وقيادته استند إلى بنى طائفية واضحة، وعمل على توظيفها في كل المجالات، ضمن صيَغٍ شديدة الغش والالتباس، بما كان ينخر وينحر تلك الشعارات التي تتناقض مع ما يجري في الواقع، ومع نمو وتموضع بنى طائفية، خاصة من الطائفة العلوية التي ظهر وجودها بارزًا في الأجهزة الأمنية، ومفاصل الجيش، والقرار.

لكن مستوى القمع والإرهاب كان يمنع الناس من الكلام المباشر والعلني بها، بينما هي حديثهم المكرر حين تتوفر الثقة، وفي الجلسات الخاصة، ولعل السؤال الذي انتشر كثيرًا “من وين أنت؟” يفسر بحث المواطن عن معرفة الآخر ليعرف كيف يتعامل معه، ومستوى الحديث، فإن كان من “الساحل” وحتى من المذاهب الأخرى غير السنّية يحضر التهيّب والتحسّب، ومعهما كم كبير من المجاملة والنفاق، فيما يُعدّ ظاهرة ملفتة من نتاجات الاستبداد، ومحاولات إعدام اهتمام السوري بالشأن العام، وتحويله إلى قطيع، مسلوب الرأي والإرادة.

فجّرت الثورة خزين السوري في جميع المجالات، وبعد أشهر السلمية التي أبرزت الجوانب الإيجابية ضمن موج متصاعد من المحبة والفرح والإقبال على العمل السياسي بزخم كبير، بدأت التحولات تتدحرج مع منسوب محاولات النظام لشيطنة الثورة وحرفها، بإيجاد بديل للحرية والكرامة، يتمثل في تصعيد التجييش الطائفي، وتشجيع الاتجاهات الإسلاموية براياتها البعيدة عن الثورة، وقضايا الإرهاب، والصراع المسلح، وما يشبه الحرب الأهلية.

عبر هذا الفوران المتحرر من جميع الاعتبارات التي رسخت عقودًا، كان طبيعيًا أن تبرز إلى السطح كثيرٌ من الأفكار والنزوعات، وما يراه البعض إقرارًا بالأمر الواقع، فكان تعبير المكونات أحد تلك الإفرازات، وإن اختلف مفهومه ومضمونه عند مستخدميه؛ الأمر الذي يدعونا لمحاولة ولوج هذا الوضع.

أسئلة كبيرة وكثيرة تطرح نفسها بقوة علينا وعلى الواقع، وإجابات، وتحليلات مختلفة ومتصادمة حول الأسباب، بل الموقف بالأصل من موقع تلك المكونات في الثورة، والوطن الواحد.

– هل الأمر يتعلق بحالة “مُغلقة” لا يمكن الدخول إليها واختراقها؟

– هل يعود السبب إلى نجاح النظام في تكتيل، وجرّ أغلبية “المكوّنات” إلى خندقه، خاصة في الطائفة العلوية؟

– هل خطاب الثورة، وتحولاتها، وتغليب الأسلمة عليها، وعدم اهتمام المؤسسات المعنية سبب مهم في الواقع الحالي؟

أعلم أن الأمر يستحق، ويحتاج دراسات موضوعية بعيدة عن التشنج، والمواقف، والأحكام المسبقة، وهو ما يجب أن يحصل من مؤسسات الثورة بكل جدّية، ومسؤولية، لأن الثورة معنية بكافة فئات الشعب، بغض النظر عن مواقف الناس الحالية، ولأن وحدة الوطن أساس لا يمكن التفريط، أو التساهل في أي محاولات للشرذمة والتقسيم. ولأن “المكوّنات” جزء صميم من تلك الوحدة حتى لو كانت شريحة كبيرة منها تقاتل مع النظام، وتمارس التشبيح بكل أنواعه القذرة، والصارخة.

وكي لا نرمي الحجارة باتجاه واحد، ونكتفي بإلقاء اللوم على هذه الجهة، أو تلك، ونهرب من مواجهة الذات ومسؤوليتنا، ومن الأخطاء التي وقعنا بها، حرّي بنا نحن -المنتمين إلى الثورة من مشارب متعددة- أن نثبّت أهداف الثورة الجوهرية، وسرّ استمرارها، كثورة شعبية لكل أبناء سورية، وأنها ضد التطييف وضد أي شكل تقسيمي، وأنها معنية بالشعب كله، لأنها “أم الصبي”، وأن “الأكثرية السنية” بالمعنى العام لا يمكن أن تكون أقلوية الموقف، والفعل، وأن معظم الشعب السوري مُسلم على اختلاف مذاهبه واجتهادات مدارسه، وفيه من مختلف الطوائف اتجاهات وأحزاب مختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وأن دولة الحق والتعددية تسمح في ألف بائها، بحرية الرأي والعقيدة، والاختيار، والتحزب، وتؤكد على المساواة التامة بين جميع فئات الشعب وفق الدستور الذي يجب إقراره بأغلبية شعبية. وأن المساءلة والمحاسبة عن الجرائم المرتكبة بحق الشعب مبدأٌ لا تراجع عنه، ويتنافى والانتقام الفردي، ومنطق الثأر، والاستئصال.

لقد وقفت نسبة معتبرة من المحسوبين على الطائفة العلوية، وعلى امتداد حكم الطاغية الأكبر، ووريث الحقد والعته، ضد النظام، وتعرّض المئات للاعتقال عقودًا، ولأنواع شتى من التعذيب، والتشريد، وهناك من مات تحت التعذيب، أو اغتيالًا قصديًا.

مع أشهر الثورة الأولى: السلمية والحضارية والتشاركية، انضمت أو تعاطفت فئات واسعة من الطائفة العلوية، وبقية “المكونات”، ثم حدثت خلخلة متلاحقة، وما يشبه النزيف المتصاعد لدرجة ندرة عدد المنضوين للثورة من المحسوبين على الطائفة العلوية، والدروز أيضًا. بينما حكاية سلمية التي انضوت بقوة في الثورة منذ أيامها الأولى، وبزخم كبير.. تُظهر مسؤولية الثورة في عمليات التهميش والتغييب، والتعتيم، والمساعدات، وانعكاس ذلك على البيئة الحاضنة، وعلى السماح للنظام والقوى الطائفية من استغلال الوضع الصعب، وهجرة، وفرار آلاف الشباب، من مدّ أذرعه في المنطقة، وتقوية عصاباته التشبيحية المدعومة من جهات أمنية عليا.

إن وضع “الطائفة العلوية”، وموقفها من الثورة يستحق الدراسة العميقة كي لا نستسهل صدور أحكام قطعية مؤذية، إن كان لجهة أثر ودور النظام، والقوى الطائفية، والميليشيات المذهبية الوافدة، في تعضيد ذلك الوضع، وتصويره ككتلة صمّاء لا تقبل الاختراق، إلا في بعض السطوح الرقيقة، والهامشية، أو لجهة المواقف المحسوبة على الثورة في تحمية ردات الفعل، والوقوع بفِخاخ النظام، وبعض الممارسات الطائفية المقابلة.

كما أن وضع “الطائفة الدرزية” يحتاج إلى الدراسة الميدانية، والموضوعية، وصولًا إلى الأشكال المناسبة للتعامل، وتفهم الوضعية ومؤثراتها.

كذا الأمر في “الحالة المسيحية” على العموم، بمذاهبها المختلفة، وقد عرفت منسوبًا متراجعًا في التأييد للثورة، وانزياح واضح باتجاه النظام، أو الحيادية، والهجرة الواسعة.

إن إبراز، وترسيخ خطاب التسامح، والمصالحة، والسلم الأهلي، وخطاب الوحدة الوطنية الجامعة، وإقامة الجسور القوية مع جميع المكونات، على أسس التشاركية، وليس المناسباتية، والانتقائية، وتكليف مختصين بمهمات الحوار والتفاعل مع جميع أطياف الشعب السوري؛ يمكن أن يحقق نقلة مهمة باتجاه إحداث اختراقات مهمة لصالح الثورة، وصيانة الوحدة الوطنية بعضائد قوية، وقطع الطريق على مشاريع غربية، وإقليمية تقسيمية، وتلاعبية.

بالنتيجة، لا يمكن لمن يتصدّى لفعل التغيير، ويكون بموقع المسؤولية في هيئات الثورة، إلا أن يعترف بحجم التقصير وأثره، وبخطأ الخطاب الذي ساد سنوات. وهو معني بالاهتمام بجميع فئات الشعب بما فيها تلك المحسوبة على النظام، والبحث عن الوسائل العملية التي تعيد الثقة بالثورة، أو الطمأنينة على المستقبل لدى الجميع، بأنهم جزء أصيل من لوحة سورية، وشركاء في الوطن والنظام التعددي الذي يجب إرساؤه على أنقاض نظام الاستبداد والفئوية.




المصدر