تغيرات الموقف الفرنسي وتحدياته


عبد الرحمن مطر

فرنسا ماكرون تبدو كأنها تسعى لحرق المراحل، في مسار تغيرات موقفها حيال القضية السورية، وهو ما بدأته في الواقع أواخر عام 2015، إثر الهجمات الإرهابية التي استهدفت باريس آنذاك، ولم تكن الدولة الوحيدة التي بدأت بتغييرات المواقف، إذ إن تركيا أيضًا فعلت الأمر ذاته. أما مجموعة أصدقاء سورية، فيمكننا القول إنها أدارت الظهر لجملة التزاماتها تجاه ثورة السوريين، قبل أن ينسحب جلّ أعضائها من المشهد السياسي المتصل بالقضية السورية. فيما تنشغل دول الخليج العربي بأزمة سياسية شديدة فيما بينها، على خلفية الحرب على الإرهاب، إثر زيارة ترامب للمنطقة مؤخرًا.

بصورة عامة ارتبطت تلك التبدلات بعوامل ثلاث: أولاها الاقتراب من الموقف الروسي، والثاني يتصل باستمرار انكفاء الولايات المتحدة عن القيام بدور فعّال، في الجهود السياسية، والثالث هو مزيد من الانخراط الجماعي في الحرب على الإرهاب، وقد بات يشبه سباقًا محمومًا، دون النظر إلى الآليات والنتائج، مع استخفاف كبير في إطلاق تهمة الإرهاب أو دعمه، دون محاسبة أو أدلة، وترك الطغاة منتجي التطرف وسادته، بعيدًا عن تلك الحرب: نظام الأسدية أنموذجًا.

الأفكار التي رشحت عن التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي، تعزز التوجه الذي اتخذته فرنسا فيما سبق، بقبول دور لجيش النظام الأسدي في الحرب على (داعش)، وقد عَكَس ذلك، حينئذٍ، أن باريس قد خففت من “حدّة مطالبها في رحيل الأسد”. هذا ما تنسجم معه روح التوجهات الفرنسية التي عبر عنها ماكرون بالقول إن رحيل الأسد ليس أولوية بالنسبة لهم. هذا طبيعي، فذلك ليس سوى أولوية أصحاب الشأن: السوريين.

لكن تدخلات فرنسا ودورها في دعم الثورة السورية، كأحد أهم الأطراف الدولية والأوروبية معًا، يحتم عليها مسؤوليات كبيرة، لا ينبغي أن تتجاوز في ذلك المبادئ التي تأسس عليها الموقف الفرنسي الرسمي والشعبي “الحاضن للثورة السورية”. ومن شأن الابتعاد عن ذلك، أو بمعنى أدق الإخلال بالالتزام بمسؤولياتها، سيكون له أثر سلبي، يزيد في إضعاف السوريين وتشتيتهم، أكثر مما هم فيه، ويزيد من تركهم وحدهم في مواجهة جرائم الحرب المنظمة ضدهم.

سوف يشكل التراجع الفرنسي أكثر من سانحة فريدة، لتعزيز الدور الروسي المهمين والمتسلط على القرار الدولي بشأن سورية، لأسباب كثيرة منها الاستخدام المتكرر لحق النقض في مجلس الأمن، وفرض مسار أستانا، كمقدمة للانخراط في عملية جنيف التفاوضية، وأساس لها.

لا يمكن الحديث عن أن مصالح الدول ترتبط بتغير المواقف، حين يتحدث ماكرون معللًا: لا وجود لبديل شرعي للأسد. لكنه يُنبئ عن مدى قدرة روسيا، في ضخّ الجهد الديبلوماسي الذي بات كثير من الفرقاء الدوليين يميلون فيه، إلى مشاركة موسكو رؤيتها للحل في سورية. كما يُنبئ عن سعي فرنسي للعب دور دولي. وترشح معلومات أن مبادرة في هذا الشأن يزمع الإليزيه إطلاقها قريبًا، تتضمن تسوية الانتقال السياسي التدريجي في سورية، مع بقاء الأسد بصلاحيات محدودة، تتقدم فيها محاربة الإرهاب على المسائل الأخرى، كأولوية تفرض اندماج المعارضة والنظام في مواجهة مسلحة مع التطرف، تقود إلى تفاهم حول العملية السياسية، تأخذ فيه اعتبارًا أساسيًا لمسار أستانا التفاوضي.

القراءة الأولى لهذه المعطيات التي يُروّج لها، تقودنا إلى القول إن عملية التسوية السياسية لن تشهد جديدًا، في المرحلة المقبلة، ليس ثمة تطور في أي معطى، بل على العكس من ذلك، سوف يبقى الجمود ملازمًا للعملية السياسية، طالما أن الأطراف الدولية، لا تزال مبتعدة عن التعاطي مع القضية السورية بمسؤولية كما يفترض، وأعني بذلك مسؤولية الانخراط في تخفيف التوتر، وحلّ المشكلات في المنطقة، التزامًا بمبدأ حفظ السلام الدولي.

وإزاء الراهن، فإن الموقف الفرنسي الجديد لن يكون له سوى أثر محدود –ربما- إذا لم يتحقق له دعم واشنطن، إذ لا يمكن لفرنسا وحدها (دون أن تكون واشنطن رأس الحربة) أن تتصدى لحل قضية دولية بتعقيداتها وبتشابك المصالح والصراعات الدولية فيها، وهي مرشحة للمزيد من التجاذب خاصة بين روسيا والولايات المتحدة، مع اتخاذ الحرب على الإرهاب اتجاهات جديدة، تأخذ أمن “إسرائيل” في الحسبان، وتأمين مناطق النفوذ الأميركي، وتعزيز الدعم الروسي غير المحدود للنظام الأسدي. يضاف إلى ذلك إشكالية الدور والنفوذ والمصالح الإيرانية المعقدة، بالنسبة لواشنطن وموسكو في سورية.

يمكننا التعرف إلى جذور التغير في الموقف الفرنسي، مع انتقال لودريان من وزارة الدفاع إلى الخارجية، حاملًا معه تجربة مهمة في المشاركة في صناعة السياسة الخارجية الفرنسية منذ نحو عامين حتى اليوم، فقد كان عراب الانخراط الفرنسي في التحالف الدولي لمحاربة (داعش)، ونفذت بلاده ضربات جوية شديدة القوة، راح ضحيتَها مدنيون في الرقة، إثر تفجيرات باريس، وهو الأساس الذي بنيت عليه الرؤية الفرنسية بتغيير أولوياتها في المسألة السورية. من هنا أيضًا، يمكننا فهم مسارعتها بتبني التحذيرات الأميركية للأسد، بشأن التحضير لهجوم كيماوي محتمل، واستعدادها للمشاركة بعمل عسكري يستهدف القواعد السورية.

لكن فرنسا ماكرون، سوف تجد نفسها ضائعة في بحثها عن جناحين تحلّق بهما، مع روسيا وواشنطن بآن واحد. وبحكم التغيرات الحاصلة في المجتمع الفرنسي، وافتقار الإليزيه اليوم لفريق مهم في السياسة الخارجية على وجه الخصوص، فلن يكون حلم الطيران في الشرق الأوسط الملتهب وفي سورية ممكنًا، على الأقل في هذه اللحظة الصعبة.




المصدر