شهوة الاتجار بالنجوم


إبراهيم صموئيل

لغايات محض تجاريّة، يطيب لبعض الفضائيّات العربيّة التفتيش عمّن هرِم أو مرض من الفنانين العرب -في الغناء والتمثيل بخاصّة- بغية استضافته لديها، وعرض حاله الأخيرة على شاشتها، مُدَّعية قيامها بـ “تكريمه”.

قبل فترة، عملت إحدى الفضائيّات اللبنانيّة، بذريعة الادّعاء ذاته، على إحضار الفنان الكبير صباح فخري من فراش مرضه إلى قاعة ضخمة، حيث حشدت له سيّدات المجتمع المُخملي وسادته، للاحتفاء به وتكريمه، بحسب قول الفضائيّة في إعلانها عن الحدث.

أُحضِر فنّاننا على كرسيّ متحرّك إلى المنصّة، فبدا -من أثر المرض والعمر- ناحل الجسم، شاحب الوجه، بارز عظام الوجنتين، تدور عيناه الغائرتان بحركات متقلقلة، وسط بثورٍ انتشرت على وجهه. لينطلق ابنه أمام الكاميرات بأغنية “يا مال الشام” الشهيرة، فيجاهد فناننا بترديدها معه بصوت واهن، خافت، بالكاد يخرج من حنجرته.

وبكلّ الأسى والأسف حقيقة، فإنّ الأغنيةَ الرائعة تلك لم تكن أغنيته؛ والصوتَ الغائر، المبحوح، العجوز، لم يكن صوته الصادح، الجهوريّ، الطليق؛ وظهرَه المحدودب وكتفيه الضامرتين النحيلتين لم تشابه -بحال- قامته المتينة المنتصبة، ذات الكتفين العريضتين المتراقصتين، والذراعين المشرعتين على الرحب لاستقبال النشوة، وضمّها.

فَلِمَ -إذن- تمت استضافة فناننا الكبير، وهو في أرذل العمر وأسوأ الصحَّة؟ ولِمَ يُستدعى الفنانون الكبار في أرذل أعمارهم وأحوالهم الصحيّة؟ ألكي نُطمئِنهم على دوام وفاء جمهورهم لهم ولفنّهم، وهم الأعرف بما لهم ولفنهم من المُعجبين جيلًا بعد جيل؟ ألتكريمهم حقًا، وأحوالهم على ما هي، أم للتجارة بنجوميتهم وشهرتهم وشعبيّتهم؟

يقيني بأن “تكريم” المبدعين في أرذل أعمارهم وأوضاعهم الصحيّة -وخصوصًا منهم الذين نشطوا في الحقول التي تتطلَّب جهدًا بدنيًّا أو صوتيًّا كالرقص الفنّي، أو الغناء- إنّما هو لمسخرتهم، أو هو -في أحسن النيّات- للتجارة بشهرتهم.

لقد كان مشهد فناننا، وهو فوق الكرسي المتحرّك، بهيئته، وصوته، وارتعاشاته جرّاء المرض اللعين، مثيرًا للألم في القلب، والغصّة في الحلق، والدمعة في العين، ليس بسبب حلول الشيخوخة أو المرض في حياته وحيويته؛ فكلّنا نشيخ ونمرض، بل للمفارقة الصارخة بين صورته وألقه وحضوره البهيّ في ذاكرتنا وذائقتنا ومخيّلتنا، وواقعه الراهن.

ولا شكّ بأننا نسيء إليه وإلى إبداعه وإلى ماضيه، حين نقدّمه للملايين على الشاشات، وهو في حاله هذي. إذ لو كان الأمر لغاية التكريم، لكان أوجب أن يُكرَّم وهو في ذروة تجربته الفنيّة التي دامت وأعطت لسنوات وسنوات، أو يُكرَّم بالوقوف العمليّ إلى جانبه في شيخوخته! فأين كان السادة الراغبون بتكريم “نجم العرب وسيّد الطرب وفنان الشعب” -وفق كلمات تقديمه في الحفل- طوال كلّ تلك السنوات المديدة من عمره الفنّي؟

أليس تكريم الفنان صباح فخري -وتكريم المبدعين بعامَّة- أنفع لهم وأثمن وأحقّ، حين يكونون في ذروتَي عطائهم وأعمارهم، كي يتمكّنوا من التَّنعُّم الفعليّ بذلك؛ بدلًا من أن نهرع إلى “تكريمهم” بعرضهم على الحضور والمشاهدين، وهم في أرذل أحوالهم، ساعة لا يقطفون من جمهورهم ومحبيهم سوى التحسّر والتأسّف لأوضاعهم، وهزّ الرؤوس إشفاقًا عليهم؟

فلِمَ الهرولة نحو فنانين نال منهم المرض أو الشيخوخة والقيام بعرضهم تحت حجّة تكريمهم؟ لِمَ، وثمة الكثير جدًا من السُّبل والطرائق -الماديَّة والمعنويَّة- أحفظ لشيبة المُكرَّم، وأدوم نفعًا لحياته، يمكن لنا أن نقدّمها له بدلًا من الاستعراض البائس الذي جرى وبُثَّ على الشاشات، بما لا يُمتع أيَّ معجبٍ أو محبّ للفنان، بل يؤذيه ويُحزنه؟ أم تراها المسألة كلّها في مطرح آخر تمامًا؛ إذ هي لا تعدو أن تكون تلبيةً لشهوة الاتجار ليس إلاَّ، تلك التي أعيتْ مَنْ يُداويها؟!




المصدر