ميشال شماس يكتب: قاضٍ وأمين فرقة حزبية وقضاء مستقل ومحايد أيضًا!؟


ميشال شماس

لم أستوعب أبدًا كيف يستطيع القاضي أن يكون حياديًا، وهو موزّع الولاء بين ضميره كقاضي وانتمائه لحزب سياسي، ولرئيسه الذي يتلقّى التوجيهات منه؟ كما لم أستوعب أيضًا أن يُجاهر القاضي بولائه الحزبي، وهو على قوس المحكمة ويرفع صورة رئيس الدولة بصفته القاضي الأول، وهو يدرك أن القانون قد حظر عليه العمل السياسي؟ والأنكى من ذلك أن القضاة المنتمين لحزب البعث لا يجدون حرجًا بترك قوس المحكمة وقضايا الناس والانشغال في متابعة الاجتماعات والانتخابات الحزبية، في مكاتب تعود ملكيتها للدولة مع ما يتطلبه ذلك من مصاريف خدمات كّلها من خزينة الدولة.

مؤخرًا انشغل قضاة القصر العدلي بدمشق بانتخابات ما يسمونه “فرق العدل بدمشق”، حيث أُعيدَ تشكيل الفرق الحزبية فيها، فعلى سبيل المثال تم توزيع المناصب في فرقة العدل الثانية بعدلية دمشق، القاضي حسام رحمون أمينًا لها، بالإضافة إلى كونه رئيس محكمة الاستئناف المدني السادسة بدمشق المختصة بالنظر بقضايا الشركات، والقاضي جريس الجاسر مسؤولًا للتنظيم، والقاضي مخلص قيسية مسؤولًا الشباب، والقاضي جورج الشديدة مسؤول النقابات، والموظف سليمان حجازي مسؤول الإعلام. وبعد ذلك عقدت الهيئة الجديدة بتاريخ 15 حزيران/ يونيو 2017 اجتماعًا مع قيادة شعبة حزب البعث في دمشق لتلقي التهاني والتوجيهات الحزبية.

هذا الاجتماع الذي عُقد يخالف صراحة المادة 81 من قانون السلطة القضائية التي حظّرت على القضاة إبداء الآراء والميول السياسية. وتحظر عليهم أيضًا الاشتغال بالسياسة. كما تخالف صراحة المادة 7 من مدونة قواعد السلوك القضائي الصادرة بقرار مجلس القضاء الأعلى رقم 227، تاريخ 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، وبلاغ وزير العدل رقم 8 تاريخ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، وهي قرارات أقرها النظام بنفسه، وتحظر على القاضي الانتماء إلى الأحزاب السياسية والجمعيات السرية.

المفارقة أن هذه الاجتماعات كانوا يبررونها بأن المادة الثامنة غير المأسوف عليها في دستور 1973 التي نصبت من البعث قائدًا للدولة والمجتمع كانت تسوغ لهم ذلك، أما الآن وقد أُلغيت في الدستور الجديد الذي لا يقل سوءًا عن سابقه، فلم يعد هناك أي مبرر لانتساب القضاة لحزب البعث، وأن ينشطوا ويعقدوا اجتماعاتهم في المحاكم. ومما يبعث على الدهشة والذهول في هذا الصدد، إصرار النظام على تحدّي الشعب وعدم احترام الدستور الذي وضعه بنفسه حتى في المسائل بالغة الفجاجة كالتي نتحدث عنها.

بالعودة إلى قانون السلطة القضائية الصادر عام 1961 لم يُكتفَ بمنع القضاة من الاشتغال في العمل السياسي وحسب، بل حظّر بشكل واضح لا لبس فيه حتى على القضاء إبداء الآراء والميول السياسية، وهذا ما نصت عليه بوضوح المادة 81 منه: (يحظر على القضاة إبداء الآراء والميول السياسية. ويحظر كذلك على القضاة الاشتغال بالسياسة). وأيضًا رغم النص في قانون العقوبات العسكري المواد 148 و149 و150 منه على “المعاقبة بالحبس ستة أشهر والاعتقال خمس سنوات، لكل سوري سواء كان عسكريًا أو مدنيًا انضمّ إلى حزب سياسي أو قام بنشاط سياسي أو حتى كتب مقالًا أو ألقى خطبة سياسية بقصد الدعاية أو الترويج لحزب سياسي.. إلخ”، نجد أن قضاة المحاكم العسكرية ينتمون جميعهم إلى حزب البعث، ويمارسون نشاطهم الحزبي في المحاكم ويروّجون كل يوم لحزبهم، وكأن لا قانونَ يعاقب ولا من يحزنون، والمفارقة العجيبة الغريبة أن القضاة العسكريين أنفسهم لا يجدون حرجًا في تطبيق أحكام تلك المواد على غير المنتمين لحزب البعث كما حصل في محاكمة المعارض ميشيل كيلو والكاتب علي العبدالله والمحامي أنور البني وأعضاء المركز السوري لحرية التعبير والإعلام والمحامي خليل معتوق المعتقل منذ عام 2012 وغيرهم الكثير، تارة بتهمة كتابة مقالة سياسية أو بتهمة تصريح سياسي، وتارة أخرى بتهمة الترويج لأخبار كاذبة.. إلخ.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما مدى حيادية القاضي تجاه الشخص الذي يحاكمه على سبيل المثال، إذا كان هذا الشخص متهمًا بإبداء أراء سياسية معارضة للسلطة أو للحزب الذي ينتمي إليه القاضي؟ فهل يستطيع القاضي هنا التوفيق بين قسم اليمين لانتمائه الحزبي، وقسم اليمين عند توليه مهمته قاضيًا؟ وهل يضع القاضي ولاءه الحزبي جانبًا، ويحكم في القضية وفقًا لشرفه وضميره وتجرده، ووفقًا لقسم يمين الولاء للقضاء، أم يصدر حكمه انسجامًا مع قسم اليمين لولائه الحزبي؟ وهنا سيقع القاضي في تعارض بين يمين الولاء لحزبه مع قسم اليمين الذي أداه لدى توليه مهماته القضائية على ما نصت عليه المادة 77 من قانون السلطة القضائية: (أقسم بالله العظيم أن أحكم بين الناس بالعدل وأن أحترم القوانين). وإن كنت أفضّل هنا تعديل هذه المادة بحيث تصبح: (أقسم بكل ما أؤمن به وما أعتقده صحيحًا، أن أقوم بمهماتي بكل أمانة وإخلاص وأن أدافع عن استقلال بلادي وسيادتها وأن أدافع عن فصل السلطات، وحكم القانون وحقوق الناس وحرياتهم العامة، وأن أحفظ السلطة القضائية سليمة ومستقلة ونزيهة، وبأن أسعى لتحقيق العدالة، وإحقاق الحق وأن أحترم حقوق الدفاع للمتقاضين).

فما نفع القوانين والدستور إذا لم تُحترَم نصوصها وأحكامها؟ وما نفع وجود قضاة إذا كان ولاؤهم لغير القضاء؟ إن النص في القوانين على حظر امتهان العمل السياسي في مرفق القضاء ليس القصد منه ألا يكون للقاضي رأيٌ في قضايا بلده؛ فهو، في النهاية مثل بقية المواطنين، لا يجوز حرمانهم من حقهم في إبداء الرأي، بل الهدف الأساسي والأول من ذلك هو عدم السماح للقضاة القائمين على رأس عملهم امتهان السياسية، ضمانًا لإضفاء مزيد من الحيادية والاستقلال في عملهم، وتحصينهم من الانحراف في مزالق الانحياز انسياقًا مع الميول والارتباطات الحزبية أو السياسية، التي سبق أن خبرتها قبل انتسابي لمهنة المحاماة.

إن القضاء بطبيعته يتصف بالاستقلال، والدساتير والقوانين الوضعية إنما جاءت لتؤكد هذه الطبيعة وتحميها من أي اعتداء، فأي مسٍّ بهذه الطبيعة من شأنه أن يعبث بجلال القضاء، وكل تدخل في القضاء يخل بميزان العدل، ويقوض دعائم الحكم لأن العدل أساس الملك، ولهذا لم يكن مستغربًا في القديم تقديس القاضي وإحاطته بالهيبة والإجلال، فالفراعنة على سيبل المثال كانوا يقدسون القاضي، حيث كانوا يطلقون عليه “إله الحق”، وكان الفرعون “يطلب من القضاة أن يقسموا أمامه يمينًا بعدم إطاعة أوامره”.

ويتجلى استقلال القضاء بصورة واضحة بضمان حياده، فحياد القضاء يُعدّ أحد أهم الأركان التي يقوم عليها استقلال القضاء، فالحياد شرط لازم لإحقاق الحق وإقامة العدل بين الناس، فلا عدل دون حياد، ولا حياد دون استقلال، ولا قيمة لأحدهما دون الآخر، فمن دون هذا الحياد، أي إذا انحاز القاضي لأحد طرفي الدعوى لكأن هذا الطرف هو الذي يحكم لنفسه بنفسه باسم القاضي وعن طريقه، وبذلك نصبح أمام ظاهرة تحكيم القوة، بدلًا من تحكيم مبدأ الشرف والضمير والتجرد. ولا يمكن لأحد أن يتصور أن يتجه ولاء القاضي لغير القضاء، أو أن يقع تحت تأثير أي ظرف كان يجعله ينحرف عن حياده.

باختصار شديد، إن استقلال القضاء شرط ضروري ولازم لتحقيق حياده، وحياد القضاء شرط لإقامة الحق والعدل بين الناس، فالعدل ينتفي من دون الحياد، والحياد ينتفي من دون استقلال. فهما يتكاملان مع بعضهما البعض، باعتبار أنهما وجهان لعملة واحدة، لا يتحقق وجه الواحد منهما إلا إذا كان ملتصقًا مع الآخر. وإن استقلال القضاء وحياده هو المدخل الصالح والضامن لتطور أي مجتمع.

المصدر: جيرون

ميشال شماس يكتب: قاضٍ وأمين فرقة حزبية وقضاء مستقل ومحايد أيضًا!؟




المصدر