الموريتاني أحمد ولد الحافظ: “عناقيد الرذيلة”


أوس يعقوب

 

يؤكد الروائي الموريتاني الشاب أحمد ولد الحافظ أنّ رسالته الأساسية في عالم الكتابة هي الدعوة إلى “الإنسانية” و”الحرية” و”المساواة”.. والابتعاد عن توظيف الدين للأغراض الدنيوية.. وفي باكورة أعماله الأدبية الموسومة بـ (عناقيد الرذيلة) يطرح السارد قضيتين اثنتين: الأولى هي إشكالية الهوية للموريتانيين الذين عانوا ظلم العبودية بسبب لونهم، والثانية هي الرذائل التي يمارسها رجال الدين، متلطين وراءه ومجيّرينه لخدمة أغراضهم الذاتية.

(جيرون) التقت بالكاتب الموريتاني، لمعرفة المزيد من التفاصيل عن نصه الأول، ومن ثمّ عن الرواية والأدب في بلاده، فكان هذا الحوار.

  

لتكن بداية حديثنا عن روايتك “عناقيد الرذيلة”، الصادرة مؤخرًا عن (منشورات ضفاف/ بيروت)، كيف تقدمها لقراء (جيرون). وفي أي أجواء كتبت؟

(عناقيد الرذيلة) تراجيديا تطرح مجموعة من الإشكالات من خلال أبعاد الزمن الثلاثة (الماضي – الحاضر – المستقبل) وهي إشكالات مزمنة؛ عانى منها العقل العربي دائمًا، وخصوصًا ذلك العقل الذي يعيش على “الأطراف” مهزوز الثقة في الهوية، ومرتبكًا في تحديد معالمها، وآليات تحديدها؛ حيث عالجت الرواية قضية “الهوية” من بعدين؛ بعد بيولوجي، وبعد سيكولوجي، وفي زمنين ومكانين “موريتانيين” مختلفين؛ من حيث المفاهيم والرؤى (مع إمكانية إسقاط تلك الزمكانية) الزمن الأول بداية القرن العشرين، أما الزمن الثاني فهو نهاية ذات القرن، وقد حاولت الإجابة على إشكالية “الهوية” بالنسبة لبعض الشرائح العربية “السمراء” التي عانت في مرحلة من تاريخها من ظلم “العبودية”، حيث تطرح تلك الإشكالية في المغرب العربي بإلحاح؛ على الرغم من أنّ أولئك “السمر” يشكلون -مثلًا- أغلبية العرب في بلد مثل موريتانيا، كما أنها سلَّطت الضوء على الظلم الذي صاحب تلك العبودية.

وقد حاولتُ الكشف عن جذور “العبودية” وواقعها؛ إذ حاول “أرستقراطيو” الصحراء شرعنة تلك الظاهرة التي انتشرت كثيرًا في تلك الأصقاع، وكانت في الحقيقة أبعد ما تكون من الشرعية؛ مع لفتة إلى أنّ الاعتزاز بالانتماء والهوية لا يعني بالضرورة احتقار “الآخر” ولا النظر إليه بنظرة دونية؛ وبخاصة حين تملي عليك مقاسات الدولة “الوطنية” الحديثة تنوعًا “إثنيًا” كما هي الحالة لدينا؛ مع أنّ التنوع -أيضًا- قد يكون مذهبيًا، أو دينيًا، ومن هنا حاولت تحطيم الفوارق المبنية على تلك الأسس.

كما تطرح الرواية قضية المرأة، وما تعانيه من ظلم مشرعن، واستخدام الدين للغرض الذاتي بغض النظر عنه، والتحايل من خلاله على عواطف الناس؛ لما صاحب ذلك من خلط بين “الدين” نفسه و”التدين” حيث أصبح “المتدين” وصيًا على الدين؛ ناطقًا باسم الله؛ يوزع الإيمان والكفر والنفاق، واضعًا القوانين والنظم وفق منظوره، وما صاحب ذلك السلوك من تشويه للدين وتحريف له؛ حيث يمارس الظلم باسمه، ومن قبل “المتدينين” مظنة الدين والخير في وجدان “العامة”.

حاولت في “التأسيس التخيلي” أن أمزج بين العلمية؛ كما يمليها الواقع اليوم؛ الذي يأبى غير قوانين الفيزياء والرياضيات.. وشيء من خرافتنا التاريخية مثل “الحلم” و”الكشف” و”الكرامة”..

رسالة الرواية الأساسية هي الدعوة إلى “الإنسانية” و”الحرية” و”المساواة”.. والابتعاد عن توظيف الدين للأغراض الدنيوية.. أما عن الفضاء الذي كتبت فيه الرواية، فقد تقاسمها فضاءان؛ أحدهما خاص ضيق، أملاه الاحتقان “المجتمعي” لدينا في موريتانيا، والذي يغذيه الإرث العبودي والإنساني، وتوقف تطور مفهوم الدولة لدينا، بشكل يشي بمستقبل مخيف. وفضاء عام متسع؛ تمثل أكبر ملامحه هزيمة “مشروع” بناء العقل العربي؛ بما يلائم الواقع الكوني اليوم؛ ذلك المشروع الذي ظل -دائمًا- رغم إحباطاته؛ أولوية لدى الإنسان العربي المهتم بواقعه؛ لينهزم في النهاية؛ أو هكذا تخيلت؛ لتبدأ “حملة” إعادة العقل العربي إلى بواكير تشكله.. بالمجمل؛ كتبت الرواية تحت وابل جارف من الاحساس بالهزيمة وبالاحباط؛ وكأنني لم أعد أملك ما أخاف عليه؛ حتى الأمل بدا أيامها باهتًا!.

اعتبر النقاد أنّ روايتك تعد خروجًا على النمط التقليدي في الرواية الموريتانية، حيث تصل في بعض فقراتها حد الوصف والإيحاء القوي ببعض الأمور التي يعتبر وصفها، من منظار سلطة المجتمع التقليدية، جرأة تصل حدّ الذنب والخطيئة. ما تعليقك؟ وهل تمتلك موهبة التحايل على الرقيب؟

كما أسلفت، كتبت الرواية تحت ضغط نفسي عصيب؛ ذلك الضغط الذي أسدل على أحاسيسي ستارًا سميكًا؛ حال دون التفكير بالكثير من “المواضعات” المتعلقة بمفاهيم المجتمع التي عشنا عليها قرونًا، أو ربما اعتقدت أنّ تلك “المنظومة” المبنية، في أساسها، على وضع الجدران والحدود في وجه العقل والإبداع (ومهما غلفت بالقدسية) مثلت جزءًا معتبرًا من العوائق أمام سيرورتنا التاريخية. كان يمكن أن أستخدم “الغرائبية” لأتحايل على مقص الرقيب، بل ربما استخدمت شيئًا من ذلك؛ إلا أنني أردت -أيضًا- المساهمة في التنبيه إلى أنه آن الأوان لتوجيه ذلك الخط العمودي المتواصل منذ أزلنا، ذلك الخط “المقدس” الذي لا تتوقف جريرته عند إلجام الكاتب والمبدع وحسب؛ بل تتجاوز ذلك إلى تشكيل الذائقة العامة؛ وفق تلك المفاهيم؛ التي تتخذ في لبها موقفًا من قضية الفكر والإبداع، ومع كل هذا؛ أكاد أجزم أنّ “مكبحي” اللاشعوري كان يقظًا على الرغم من ذلك؛ فأحجمت عن الكثير، وحذفت أكثر؛ لكن المؤسف أنّ الذوق العربي لا يزال متورطًا بقيم القصيدة العربية، نموذجًا لكل المثل الأدبية.

لا أكتب تحت الطلب.

ما الحدث الذي حفزك لكتابة هذا النص؟ وهل كتبته بعيدًا عن شروط النشر الخاضعة بشكل رئيسي لمزاج الناشر ومتطلباته؟

أعتقد أنّ الكتابة نفسها تكفي محفزًا للكتابة؛ أو بعبارة أكثر وضوحًا: الكاتب -في نظري- لا يحتاج حدثًا حتى يكتب؛ بل إنّ الحدث هو من يحتاج كاتبًا!

مارست الكتابة في مرحلة باكرة من حياتي.. أضحك اليوم كثيرًا حين أرى بعض نصوصي التي كتبتها قبل بلوغ الحلم (وفق تعبير الفقهاء)، وكنت في غالبها خارج النص، وخارج السرب.. كان رقيبي الذاتي يمنعني أحيانًا من النشر، وكان يرغمني أحيانًا أخرى على النشر باسم مستعار. نحن “ضحايا المجتمعات التقليدية” محكومون بقوانين خارج قناعتنا، وخارج إرادتنا، وخارج رغبتنا.. ولأنك -وفق تلك القوانين- قد تسبب الضرر والإحراج لغيرك؛ كنت أنصاع غالبًا، وأسكت، أو أتقنع.. أما الناشر فلم أكن معنيًا به، ولا بخارطته “التجارية” في الغالب الأعم؛ لذلك عندما عرض علي بعض الناشرين تحوير أجزاء من الرواية (مضمونًا أو شكلًا) معللين ذلك بقوانين النشر في بعض البلدان العربية الوازنة، وقوانين الجوائز الأدبية العربية.. كانت إجابتي دائمًا أنّني أكتب انسجامًا مع ذاتي ومع ذائقتي، وآخر ما يمكن أن أفكر فيه هو المبيعات والجوائز.. يسرني أن يصل رأيي، وأن تقرأ كتاباتي؛ لكنني لا أكتب تحت الطلب.

منعت السلطات السعودية في الدورة الأخيرة لمعرض الرياض الدولي للكتاب، تداول روايتك، وتم منعها -أيضًا- في معرض الكتاب بالدوحة؟ ما هي أسباب المنع؟

لا أملك العناصر الضرورية للإجابة على هذا السؤال؛ لأنه ليس ثمة معايير واضحة وشفافة في قضية النشر في غالبية البلدان العربية، والجهات التي منعت الرواية لا ترى أنها مجبرة على تبرير عملها، ما أستطيع قوله إنّ روايتي –على الرغم من الجرأة كلها- لا تمكن إدانتها من منظور ديني موضوعي، ولا أخلاقي سليم؛ ولا حتى تراثي حين يتم تنزيلها في سياقها الطبيعي. وأنا أستطيع الدفاع عنها، ومن كل تلك الأبعاد، وعلى استعداد لذلك؛ لكن الإشكالية لدينا هي إشكالية بنيوية “منظومية” عامة، نحن أمة لا تعبأ بالتخصص ولا تحترمه؛ الميكانيكي يستطيع ممارسة الطب، والراقصة تمارس الفتوى، والمأذون يمارس النقد.. تلك هي البلوى، لم نتعلم بعد أنّ القوس ينبغي أن تُعطى لباريها.

ألا ترى معي أنّ السلطات المسؤولة عن الرقابة في الوطن العربي، بمنعها بعض الروايات التي تتناول المكبوتات والمحرمات “عربيًا”، تزيد بذلك -دون أن تعي- من انتشارها، وفي المثل الشهير “كلّ ممنوع مرغوب” ما يؤيد ذلك؟

في الواقع، إنّ المنع اليوم لم يعد متاحًا ولا ممكنًا؛ في ظل طفرة الاتصالات، وتعدد وسائطها؛ لكن الأمر لا يعدو جزء من تشبثنا بوعي “ثابت” خارج عن دائرة التحول.. والمنع فعلًا يساهم كثيرًا في خدمة النص الممنوع، ويلفت الانتباه إليه؛ لكن ذلك -أيضًا- نسبي، وتحكمه مجموعة من الاعتبارات الذاتية والموضوعية؛ وهي اعتبارات لم تخدم روايتي؛ فأنا لم أكن كاتبًا معروفًا، ومن بلد يرقد على ضفاف الأطراف، ولا أبالغ حين أقول إنه لا يملك إعلامًا؛ في وقت يحكم تواصلنا الثقافي العربي نظرية المركز والأطراف؛ كما أنّ عالمنا العربي اليوم محكوم إعلاميًا بخندقين، الخارج عنهما معزول؛ لا ظهير ولا نصير.. وهذه الاعتبارات أثرت على استفادة الرواية إعلاميًا من منعها.

في بلدك موريتانيا، أكثر من 99 بالمئة من الإنتاج الأدبي هو شعر، هل تؤيد الرأي القائل إنّ الرواية الموريتانية لا تزال في مرحلة الطفولة، وأنه لا توجد إلى الآن رواية موريتانية أو مدرسة روائية موريتانية، بل مجرد تجارب فردية، هذا يشمل الرواية المكتوبة باللغة العربية والمكتوبة أيضًا بالفرنسية؟

صحيح أنّ الرواية، والسرد في عمومه، لم يأخذ بعد -بوصفه جنسًا أدبيًا- صفةَ الشرعية لدى الذائقة الموريتانية في غالبيتها، ولا تزال ترفضه، وترفض من ثم قيمَه وأدبياته؛ لكنه مع ذلك أيضًا تبدو النسبة التي ذكرتم 99 بالمئة تحمل بعض المبالغة، وذلك في رأيي؛ لانطلاقكم من تلك النمطية السائدة لدى العربي “الآخر” عن موريتانيا، والتي تتم ترجمتها عادة إلى لقب “بلد المليون شاعر” وإذا كانت غالبية الموريتانيين -في الحد الأدنى- يتذوقون الشعر؛ في وجه غالبية لا يعترفون بالسرد -في الأصل- جنسًا أدبيًا؛ فإن موريتانيا عرفت روائيين موهوبين، وروايات مميزة؛ لكن الإشكالية الأساسية التي حالت دون ظهور ذلك؛ هو غياب ذائقة محلية، تحتضن السرد؛ حتى الآن، ومن ثم غياب “الشرعية” محليًا، في الفضاء الأدبي الموريتاني، وعجز الأخير عن التسويق خارج الدائرة المحلية.

الأدب وإشكالية الحرية

برأيك ما الذي ينقص الرواية الموريتانية لتكون منتشرة عربيًا؟

الرواية الموريتانية تواجه العديد من المطبات الذاتية والموضوعية في طريقها، ولعل من أبرزها؛ تشبث الذائقة بالقيم الأدبية الشعرية، وهو ما جعل الذائقة -مبدئيًا- في تصادم مع الرواية؛ وهذا عامل رئيس في عدم وجود فضاء شرعي للرواية، يساهم في تطورها وانتشارها؛ على الأقل يلائم حجم الروائيين والروايات (كمًا وكيفًا) لدينا؛ وهذا الأمر أدى -بدوره- إلى أنّ الاهتمام ينصب دائمًا على الشعر وعلى القصيدة، بالإضافة إلى غياب دور النشر ومعارض الكتاب ووسائل إعلام متخصصة؛ سواء كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية، لذلك لم نستطع تسويق المنتوج السردي.. بمعنى أنّ الحراك الإعلامي الأدبي لدينا يعيش جمودًا محليًا، وعاجزا عن التفاعل. هذه الأمور فرادى كفيلة بخلق المطبات والعراقيل؛ وفرملة طموح أي كاتب؛ أحرى حين تكون مجتمعة! باختصار، ما تحتاجه الرواية الموريتانية هو خلق شرعية محلية أولًا؛ والتواصل مع الآخر ثانيًا.

كيف ترى الجوائز الأدبية بصورة عامة، البوكر وغيرها؟ وهل تُعطى على أسس ومقاييس حيادية سليمة؟

لا شك أنّ للجوائز الأدبية إسهامات معتبرة في الحراك الأدبي، وذلك عبر خلقها مواسم أدبية، تتيح فرصة التواصل في أجواء تنافسية، أسمع أحيانًا بعض الملاحظات على أدائها؛ بل نرى نصوصًا تم اختيارها وفوزها؛ دون أن يكون ذلك مقنعًا؛ من الناحية الفنية، وعلى العموم، فإنّ “المؤسسة” العربية الرسمية -في الغالب- تحتاج إلى الكثير من الشفافية والموضوعية، والابتعاد عن الاعتبارات الذاتية الضيقة، غير أنّني أتمنى أن تكون المؤسسات الأدبية، خصوصًا المعنية بالجوائز والقائمين عليها، استثناء من ذلك العموم؛ ومهما يكن فإنّني أكرر أهميتها في التلاقح والتواصل والحراك والسيرورة.

لكل مبدع طقوس خاصة بالكتابة، ما هي الطقوس الخاصة التي تمارسها عند الكتابة؟

أعتقد أنّ اللحظات التي شكلت إرادة الكتابة لدي، كانت أيام الجامعة؛ وقد اعتدت خلالها، وأنا في السكن الجامعي، أن أخلو بغرفتي وحيدًا؛ بحيث أدخن بمنتهى الحرية، وأشرب الشاي الأخضر “الموريتاني” وأفكر بصوت عال؛ ولعل تلك الطقوس لا تزال ترافقني، لا أقول إنّني لا أستطيع ممارسة الكتابة دونها؛ لكنني أكون مرتاحًا أكثر، ومنسابًا قلمي، حين أتمثلها، مع أنّ غالبية رواية (عناقيد الرذيلة) كتبت في مقهى؛ وكنت مرتاحًا كثيرًا والضوضاء والدخان يملآن الفضاء.

أخيرًا هل لديك عمل أدبي جديد بعد (عناقيد الرزيلة)؟

نعم، لدي رواية بعنوان (أسفار الشياطين) جاهزة للنشر، ولم أهادن فيها، ولم أسالم الناشر ولا الرقيب.. وإن كنت استخدمت فيها “الغرائبية” أكثر من سابقتها؛ بالإضافة إلى مجموعة قصصية.. أتمنى ختامًا أن تتحرر الذائقة لدينا قليلًا، ونعيد صياغة مفهوم الأدب ورسالة الأديب، ونستوعب في هذه اللحظة الحرجة من تاريخنا، أنّ الأدب يمكن أن يساهم بفاعلية في انتشالنا؛ لأن عمق أزمتنا يكمن في إشكالية الحرية، وهو ما يمكن للرسالة الأدبية أن تكون فيه نواة ولبنة مثمرة.

يُشار إلى أنّ الروائي الموريتاني أحمد ولد الحافظ، من مواليد موريتانيا عام 1975.

وهو حاصل على شهادة المتريز (بكالوريوس) في اللغة العربية وآدابها من جامعة نواكشوط. وتعدّ روايته (عناقيد الرذيلة) باكورة أعماله الأدبية.




المصدر