عقلنة الإنسان
3 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
ميسون جميل شقير
إن عقلنة الإنسان وإدخال عنصر الشك -على حدّ قول طه حسين- يجعل الإنسان قادرًا على التفكير الإبداعي، ويبني لديه رؤية نقدية في الحكم على الأشياء. وهذه الرؤية أو هذه العقلنة هي الجسر الوحيد الذي يضمن الانتقال بالإنسان من وهاد الضرورة إلى أفق الحرية المفتوح.
وبما أن الفكر الإبداعي يمثّل، في بنيته وفي شرط تشكّله، حالةً تمردية تتمثّل بتعرّف الإنسان على ذاته أكثر، وبما أنه يمثّل –أيضًا- حالةً متجددة متغيّرة قابلة حتى للتغيّر الجذري والانقلاب على نفسها، فهو سيشكل حتمًا لدى الإنسان حالة من الدهشة والسؤال والقلق الذي يعاكس تمامًا مفهوم المطلق في أيّ حكم، ويزلزل الأرض تحت كل القوالب الفكريّة الجاهزة والمؤطّرة ومسبقة الصنع، وسيتحوّل إلى حالة شمولية منفتحة تحتفي -دائمًا- بالسؤال وبالجواب ونقيضه، وذلك لأن الفكر الإبداعي بطبيعته هو فكر إشكالي ومستفز سيثير في ما حوله حالة جدلّية مستمرة، وستتصادم فيما بينها في أساليبه التعبيرية وفي مضامينه، وسيشكل مناخًا كاملًا من الحوار الإبداعي الذي سوف تتكاثر وتتعدد أصواته، وسوف تتنوع هذه الأصوات بتنوع اتجاهات وأفكار المبدعين. وستكون أفضل نتيجة حتمية لهذا التنوع هي توريط المتلقي في حالة الجدل التي تثيرها الأعمال الإبداعية، وهذا التوريط بحد ذاته سيجعل المتلقي نفسه يمتلك مَلَكَة “النقد” التي ستحميه من الرأي الواحد، وستدرّبه على قبول حق المختلف في الوجود؛ وهذا سيجعل ذهنية التطرف تتراجع وتنزوي، وتبدأ بالاضمحلال والانتهاء.
هذا التحول في آلية التفكير العميق وبناء ثقافة قبول الآخر من جديد سيكون تحولًا صعبًا جدًا، وسيحتاج إلى صبر وإصرار، إذ إنه بعد سنوات من الحرب والذعر والموت والعجز، وبعد سنوات من سيطرة الفكر الديكتاتوري السياسي، والسلطوي الديني، ومن الفكر أحادي الجانب الذي ولّدته حالة الانهزام وحالة الانكسار وولده الإحساس باللا جدوى، بعد كل هذا دخل الفكر النقدي أو الإبداعي في متاهة قاتلة، فإما الدخول في حالة من الإحباط واللامبالاة أو الدخول في حالة قبول أعمى للأفكار الدينية والطائفية وأفكار العنصرية الثورية نفسها.
لذا فإن التحوّل الذي نعوّل عليه بعودة بناء الإنسان العاقل فينا لا يمكن أن يأتي عن طريق الوعظ في محاضرة أو ندوة، أو مقال صحفي كهذا مثلًا، ولا يمكن لهذه الأفكار التي نطرحها ونحللها أن تتحول إلى سلوك واقعي إلا بأن نحاول أن نعيشها، وأن نجعل الآخر يراها كفعل تجربة يومية، وهذا لا يتحقق إلا عبر فضاء إنساني تخلقه المجالات الإبداعية والنقدية والبحثية، وعبر إعادة إنتاج الفكر النهضوي عن طريق إعادة نشر كتب مبدعين راهنوا على نقد الخطاب الديني، مثل نصر حامد أبو زيد وجورج طرابيشي وغيرهم، وأن نعيد إنتاج فرج فوده، ومهدي عامل، من خلال إعادة نشر ما كتبوه، ومن خلال تسليط الضوء على ما تركوه، وإدخال المتلقي عنوة في جدال حول هذه الكتابات حتى لو كان المتلقي يرفضها تمامًا، فإن مجرد الدخول في حالة جدال تعني بداية تغيير الفكر السائد والمنغلق على نفسه، وهذا تدريجيًا سيقودنا إلى أن نتبنى ثقافة الإبداع الحر الجريء القادر على الدخول في كل التابوهات وتفكيكها. ولعل المتلقي سيكون أسيرًا لأعمال فنية تدخل حياته مثل الأعمال الروائية والسينمائية والتلفزيونية، ومثل الأعمال الموسيقىة والأغاني، وحتى مثل الصحافة والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي تشكّل حالة جذابة ومغرية، تمارس قوتها من خلال ما تملكه من سحر انجذاب الروح لها، والتي تكون قادرة على التأثير بالمتلقي أكثر مما يقدر عليه كتاب نقدي نخبوي.
كل هذا يجعلنا نقدّر ونعي أكثر دورَ الإبداع في حالة عقلنة الإنسان، وفي حالة بنائه بعد كل هذا الخراب، ويجعلنا نولي اهتمامًا مضاعفًا للإبداع بكل أشكاله ونراهن عليه فقط في القدرة على حمايتنا من الانحدار الفكري والإنساني الذي تخلّفه الحروب دائمًا، كما تخلّفه حالة انكسار الذات وأحلامها، وحالة الإحساس العارم بالخذلان، إذ إن شعوبًا بلا مبدعين هي شعوب بلا مستقبل، وغير قادرة على الحلم.
[sociallocker] [/sociallocker]