عن الرجعية العربية في أزماتنا
3 يوليو، 2017
نزار السهلي
بعضُ المفاهيم العربية والأدبيات السياسية التي تخص منطقة الخليج تحديدًا وبعض الأنظمة العربية، اتخذت مفهومَ “الرجعية العربية”، في ستينيات القرن الماضي، للإشارة إلى الدول الخليجية، لكونها دولًا منتجة للنفط والمال فقط، متصحرة غير منتجة لأي صنف من أصناف السياسة والثقافة والاجتماع والتمدن، ممسكةً بأساليب بالية وقديمة. استُخدم مصطلح “الرجعية العربية” بكثرة، بداية سبعينيات القرن الماضي، في كل بيانات ومراجعات حركات سياسية وثورية في المنطقة العربية، وتحديدًا في أدبيات الحركات الراديكالية اليسارية، حيث كانت نخبة من تلك الحركات تتبنى تلك المفاهيم في الخطب التثويرية للشارع، حتى بدت ملازمة في كل مناسبة تعني الانكسار أو الانتصار أو الهزيمة أو التقدم أو التراجع؛ التصق كل ذلك بدور “الرجعية العربية” وسياساتها، حسب تلك البروباغندا الثورية أو القومية حينذاك.
قسمٌ مهمٌ، من تلك النخب، لم يجد ملاذًا اقتصاديًا، في نهاية الخمسينيات والستينيات، غيرَ دول “الرجعية” لتوفير مصدر دخلٍ له أولًا، ومن ثم التبشير والإعلان عن ثورة، إلى أن جاءت تباعًا حاجة نظمٍ “وطنية” أو “قومية” إلى تلك الرجعيات، لدعم مشاريعها المختلفة، بدءًا بنظام الحكم وانتهاءً بمشاريع الهاتف والصرف الصحي، فضلًا عن عمالة ملايين المواطنين بمشاريع “الرجعية” التي انعكست جل تحويلاتها المالية لبلدانها المصدرة للشعارات إلى عوامل الاستقرار النسبي المأمول في البلد الأم.
إشكالية البترودولار
مالُ “البترودولار” كان الممولَ الأساس لحركات تحرر وطني وثوري، ومال البترودولار اليوم يقود ثورات مضادة في الشارع العربي، ويفرض أجندات سياسية واقتصادية قلبت المفاهيم رأسًا على عقب، لولاه لما استطاع كثير من تلك الحركات أو المجتمعات الصمود لأشهر عديدة، إلا أن تسميته استُخدمت لنعت الخصوم بتلقي البترودولار كنايةً عن عمالة وارتهان لصاحب المال، مع أن المتهم والخصم غرفا من الجعبة نفسها. الإشكالية ليست بالتسمية طبعًا بقدر توظيف استخداماتها، أنظمة “قومية ووطنية” غرفت المليارات من البترودلار، ووظفتها لتسمين عصابات الحكم وجزء يسير منه لفتات المشاريع التجميلية في تلك الدول، على سبيل المثال: كان حافظ الأسد يصطحب زواره من الخليجيين إلى مدينة القنيطرة “المحررة” والمهدمة ليتسول ملايين الدولارات التي دفعت لخزينة النظام آنذاك، وقبض مليارات لإعادة بناء مدينة حدودية؛ بالنتيجة كان مصير هذه المليارات من نصيب العائلة، لبناء منظومة أمنية، ينسحب الأمر ذاته على مصر عبد الناصر والسادات ومبارك، وصولًا إلى السيسي وأنظمة أخرى، يتم الضغط عليها لتغيير المشهد كليًا.
توظيف المال السياسي لا تقع مسؤوليته على المانحين فحسب، بل على المستفيدين منه، بقيت النظرة إلى دول الرجعية العربية على أنها بقرة تحلب المال فحسب، وهي نظرة غير أميركية أو غربية صرفة، بل هي مشتركة مع نظرة أنظمة ترى منظومةَ “الدول النفطية” أنظمةَ نفط وغاز، غير أن الأخيرة كانت تسابق الزمن في فرض تغيير وقائعها وبناها المختلفة في كل الميادين، من التعليم إلى التأمين الصحي إلى التنمية البشرية والثقافة والاجتماع، في وتائر متسارعة لبرامج البناء والتطوير تذهل زائرها لأول مرة، لتصبح الفجوة شاسعة بينها وبين “الدولة الوطنية-القومية” التي تعيد سرد الشعارات من جديد عن دور البترودولار في زمن الثورات.
المدقق في مجريات الأحداث في السنوات الأخيرة خاصة، مع اندلاع الثورات العربية، يلاحظ مدى استخدام “البترودولار” السيئ لقلب الحقائق، كاستجابة تلقائية لمبررات الفشل الذي منيت به مشاريع “الدولة الحديثة” في أنظمة الحكم الوطنية وفشلها في قيادة مجتمعاتها، وتحقيق مهماتها في التنمية والبناء والديمقراطية، لكن واقع الأمر أن سياسة تلك الأنظمة لا يمكنها أن تقدم أكثر من تلك الصيغ المستثمرة في نظام الحكم وتوظيف المال كحليف أساس لأجهزة أمنية، تبسط السيطرة على الدولة والمجتمع.
البتروتومان بديل جيد عن الشرير
اعتقد أعداء البترودولار -ظاهريًا- بسهولة وبساطة استخدام الشعار ذاته لتغيير الحليف بالالتفات إلى “البتروتومان” الخالي من شرور “الأنظمة الرجعية”.
لا غموض في مشروع البتروتومان فهو كشف بجلاء عن مضامينه السياسية والمذهبية والطائفية، ليتعدى بذلك حدود الحكم بصحة المواقف من “الدول الرجعية”، لنكون أمام امتحانات مصيرية لا تقبل التريث أو التهرب من مواجهتها، تكمن النتائج النهائية لارتهان النظام السوري إلى حد بعيد بمفاعيل دور البتروتومان الإيراني وحالة ميزان القوى ذات العلاقة في الصراع.
في العقود الأربعة الماضية كان تدفق المال الخليجي يخضع لمعادلة شتمه علانية والزحف إليه سرًا، اليوم ينعت هذا المال بحرمته ويحلل البتروتومان من باب مساندته للطغاة، في حين كان “بترودولار الرجعية” يقدم للإسهام بالتنمية بكل المجالات.
نعت الإمبريالية والرجعية
معظم شاتمي “الأنظمة الرجعية” يتمنون، في سرهم، أن تكون لهم فرصة الإقامة في بلادها، كما هو حال نعت الإمبريالية التي يتلقى شاتموها تعليمهم وصحتهم وخبراتهم منها، الثقافة الببغاوية لجمهور الأنظمة القومية والوطنية التي تشيع أمنيات التخلص من أنظمة خليجية تعتبر وجودها كارثيًا على أنظمتها، مرتبطة أساسًا بثقافة تبرير العجز والنهب المستمر والفشل المستدام في بناء مجتمعاتها، وربط هذا الإخفاق بوجود تلك الأنظمة؛ مما يستتبع التباسًا في فهم طبيعة هذه التمنيات لتكون أنظمة الحكم في البلدان المصنفة “رجعية ونفطية” نسخة كربونية عن أنظمة سلطوية قاتلة وناهبة لخيرات مجتمعاتها القائمة أساسًا على وجود أنظمة النفط، ولولاها لفشلت كل برامج التطوير والبناء في الأنظمة العاجزة عن الاعتماد على برامج مغايرة، لأن طبيعة الاستثمار الذي تنكب عليه يرتبط ببرامج بناء السلطة لا المجتمع الذي تتهم به الآخرين بتخلفه ورجعيته.
منطق التعامل مع تجربة دول خليجية، عبر حقبة الخطابات والشعارات، ونفي كل النتائج أو جزء مما نعيشه اليوم، يبدو كأنه جاء نتاجًا لكل التراكمات السلبية والمدمرة لنظرة البعض العربي إلى الآخر العربي، ليصل إلى التحول النوعي المضاد الذي نشهده اليوم حتى من دول تنتمي للمنظومة الخليجية ذاتها، هذا التحول المضاد يؤكد أننا نعيش تفاعل هزائم وفشل بناء الدولة والمجتمع في الأنظمة “الوطنية–القومية” وانكسار مشاريعها إلى حالة من التردي والهبوط المدمر، لم تعد أدوات ضغط الحرمان والفقر والجوع والتخلف والمرض والتهميش إلا وترتبط مع أنظمة مفترض أنها نقيضة للرجعيات التي تشهد لبعضها منظمات دولية تصنف بعضها بالمرتبة الأولى. لم تعد أدوات ضغط الحرمان والفقر والجوع والتخلف والمرض والتهميش إلا وترتبط مع أنظمة يُفترض أنها نقيضة للرجعيات التي تصنفها منظمات دولية بالمرتبة الأولى عربيًا (قطر) في التنمية البشرية ومكافحة الفساد، فضلًا عن إنشاء مراكز بحث علمي وجامعات ومختبرات تطوير الطاقة التي تجعلنا نعجب بالرجعية باندهاش.. إذا كانت تعني الاهتمام ببناء يرفع عن الإنسان الظلمَ، وتهتم بكل سبل معيشته ورخائه وتقدمه.
خلاصة
يبقى القول: إن تفعيل النواة الأساسية، لبناء المجتمعات العربية، لا يقتصر على دور البترودولار فحسب، على الرغم من أهميته المتميزة، ومع أن هناك دولًا كثيرة في العالم لا تمتلك النفط، لكن لا يمكنها الاستغناء عن الموارد المالية لتوظيفها في برامج البناء المتعددة. هناك العديد من الخيارات والتجارب البعيدة عن لغة العجز والاتكال ورمي التهم، للهروب المستمر من استحقاقات العجز عن بناء وتجديد المجتمعات كجزء عضوي للانتقال للمستقبل، وهو ما نجحت فيه بعض الدول الخليجية، ليس في بناء “إمبراطورية إعلامية” كما يحلو لمنتقديها فحسب، بل بناء أجيال متعلمة ومعلمة في كافة المجالات.
[sociallocker] [/sociallocker]