مشافي القطاع العام في سورية.. زراعة الفساد أولوية

3 يوليو، 2017

هيفاء بيطار

عملتُ في المشفى الوطني في اللاذقية نحو ربع قرن، ولا أنكر أن ثمة تزاوجًا ناجحًا جدًا بين الأدب والكتابة؛ فقد تمخض عملي الطبي -كطبيبة عيون- على كتابة عشرات القصص القصيرة، وروايتَين هما رواية (نسر بجناح وحيد)، ورواية (هوى) التي تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج المبدعة واحة الراهب، لكنه لم يُعرض قطّ في سورية، على الرغم من أن المؤسسة العامة للسينما اشترت الرواية مني، وكلفها الفيلم الملايين. الآن أعيد صياغة ربع قرن عشته عاملة طبيبة عيون في المشفى الوطني الذي أسميته في إحدى رواياتي: “مشفى الرخام” (وهو من الداخل سخام ومن الخارج رخام). وأثناء سنوات عملي الطويلة، تعاقب على المشفى الوطني مدراء فاسدون ومرتشون يترأسون لجان شراء تفوقهم فسادًا. بقي أولهم ثلاثًا وعشرين عامًا مديرًا للصحة؛ وجمع ثروة طائلة واشترى مزرعة كبيرة، وكان له حصة في كل اللجان، حتى في لجنة مكافحة القوارض (حيث إن المشفى الوطني في اللاذقية قريب جدًا من المرفأ، حيث يعج بالجرذان والفئران).

بعد أشهر قليلة من التحقيق، طار مدير الصحة المرتشي إلى لندن، وبقي فيها خمس سنوات، وعاد بعدها إلى اللاذقية مُعززًا مُكرمًا ينعم بأشجار مزرعته وفاكهتها، دون أن يدخل يومًا واحدًا إلى السجن. تعاقب بعده مدير صحة آخر نهج نهجَ الأول لكنه صار سفيرًا لسورية في الجزائر (أي أنه كوفِئ). المدير الثالث يُقال إن سرقاته من المال العام وصلت إلى المليار، وبعد أن سُجن كل أعضاء المكتب الهندسي وأعضاء لجان الشراء، أُحرج القاضي فحكم على المدير بالسجن، لكنه بعد أشهر قليلة دفع رشوة عدة ملايين، وخرج من السجن متفرغًا لإدارة مشفى خاص يملكه.

طبابة القطاع العام نفسها كانت تخضع للواسطة والسلطة في كل تفاصيلها، إذ أجبر اللواء بهجت سليمان كلَّ أطباء المؤسسة العامة للصناعات النسيجية بتحويل مرضى المؤسسة حصريًا إلى صهره (طبيب عيون في المشفى الوطني)، وأذكر أن أحد المرضى توسل إلي أن أجري عملية ظفرة في العين له، لأنه يثق بي؛ لكن طبيب شركته، بإيعاز من بهجت سليمان لم يوافق، وكان الصهر المدلل يقبض مبالغ طائلة كل شهر من شركة النسيج، كذلك الحال في شركة التبغ وغيرها، إذ كان مسؤولون كبار في الدولة يهيمنون عليها ويأمرون الأطباء والمدراء بتحويل الموظفين المرضى إلى أطباء معينين. وثمة مهازل كثيرة تفوق الخيال في فساد القطاع العام، وفي لجان الشراء تحديدًا، فمثلًا كانت تُقدم مُناقصات بملايين الليرات لشراء أجود أنواع الخيوط الجراحية (ماركة أتيكون) للعين، بعد عملية الماء الزرقاء، وكان سعر الخيط حينئذ (سنة 2000) 1200 ليرة سورية. لكن لجان الشراء، بمباركة من مدير الصحة، كانت تشتري كومًا من الخيطان الجراحية العينية من باكستان، وسعر الخيط ليس أكثر من عشر ليرات سورية، وهو رديء جدًا ولا يصلح لخياطة جرح في العين؛ فيضطر الطبيب أن يطلب من المريض شراء خيط أتيكون، وتقوم الممرضة، بإيعاز من الإدارة، بفتح عدة خيوط رديئة صناعة باكستان كي يتخلصوا منها. وكنت -كغيري- شاهدةً على هذا الفساد الفظيع وسرقة المال العام واستغلال المواطن المسكين الفقير، لكن الكل كان يُحذّرني من انتقام الكبار، ومن قدرتهم على الأذى، ومن إمكان نفيي إلى مستوصفٍ، في القرداحة مثلًا، وبعضهم كان يائسًا لدرجة أنه كان يرى أن محاربة الفساد مستحيلة. والكل يخاف على لقمة عيشه، ويعتقد أنّ مَن يجهر بالحق متهورٌ ومجنون؛ حتى صار للفساد قاعدة أقوى من الدولة.

لم يتغير الوضع بعد الثورة السورية بل زاد الفساد في كل قطاعات الدولة، وخاصة عند الحواجز المتعددة الأسماء (لجان شعبية، جمارك، جيش سوري.. إلخ)، غاية الكل ابتزاز المواطن قدر الإمكان؛ حتى إن المشفى الوطني صار يضم جناحًا مُترفًا خاصًا لصقور الصحراء، تحت إشراف وتمويل أيمن جابر. ربع قرن قضيته في المشفى الوطني، لم أخرج بذكرى مُشرفة سوى تعاطفي وحبي للناس، وكيف أنسى حفلات الرقص الإلزامية في مناسبات ما يسمى (ثورة الثامن من آذار وذكرى الحركة التصحيحية) حيث كان الكل يُشارك في رقصات الولاء الإلزامية، وتحت قرع الطبل العملاق الذي تصم ضرباته الآذان، حتى إن مرضى القلبية والنساء حديثات الولادة كانوا يشاركون في الدبكة. في إحدى المدارس الإعدادية، شاركت معلمة برقصة ولاء إلزامية، وكان ابن أخيها ذو العشرين ربيعًا قد توفي تحت التعذيب في أحد أقبية النظام، ولما استهجنت زميلاتها سلوكَها، ردت لاهثة: أخاف على إخوته الأحياء. لا كرامة مع الخوف ولا حياة معه، والموت ليس هو عدو الحياة، لأنه مصير كل كائن حي، لكن عدو الحياة هو الخوف.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]