هل يمثّل الحجاب جوهر الإسلام؟

3 يوليو، 2017

خلدون سماق

سألت أكثر من رجل دين: لماذا هذا التركيز كله على حجاب المرأة، من بين القضايا التي تؤلف البنية الفكرية الدينية والطقسية للإسلام كلها، حتى ليبدو كأن الحجاب هو ما يؤلف جوهر الإسلام وأهم ما فيه؟. ولماذا تخلق الصراعات والمناقشات التي تدور عن الحجاب ضجيجًا صاخبًا، وتكاد تقسم الناس إلى معسكرين، ويأخذ المسلمون موقفًا مع الحجاب كأنه رمز الإسلام ورايته وشعاره، إلى حد أن بعض الدول الأوروبية اتخذت قرارات في ارتداء الحجاب، بوصفه رمزًا دينيًا إسلاميًا. ويستهدف أعضاء بعض الحركات اليمينة في أوروبا المحجبات بممارسة تمييزية على الأقل.

فهل يمثل الحجاب جوهر الإسلام؟

كان جواب من سألتهم جميعهم: لا، الحجاب لا يؤلف جوهر الإسلام أو ركنًا من أركانه، فأركان الإسلام خمسة، والحجاب ليس أحدها، ثم إن الإسلام أوسع كثيرًا من هذه المسألة، وقد فسر بعض من سألتهم الصراع على الحجاب بأنه أصبح رمزًا دينيًا يشبه الرايات والأعلام التي تكتسب رمزية كبيرة كلما اشتد الصراع.

هذا الجواب دفعني إلى تذكر غطاء الرأس في مجتمعاتنا قبل عقود قليلة. وسأروي من ذاكرتي مشاهداتي منذ ستينيات القرن الماضي.

حتى سبعينيات القرن الماضي كان اللباس التقليدي واسع الانتشار في الأوساط الشعبية في المدن والريف السوري، وكانت النساء، وخاصة المتوسطات في العمر او كبيرات السن، تغطين رؤوسهن في الأحياء الشعبية في المدن والقرى السنية والعلوية والمسيحية والدرزية والإسماعيلية، ولكنه غطاء يظهر بعض الشعر منه، ولم يكن يقصد به أن يكون حجابًا بالمعنى الديني بقدر ما كان ميراثًا ثقافيًا، وكان الجزء الأكبر من الفتيات حاسرات الرأس، وكانت النساء والرجال يختلطون من دون عُقَدْ في الأسواق وفي الوظائف وفي العمل في الحقول أو رعاية الماشية وفي الأعراس، على الرغم من المناخ المحافظ الذي يعني وجود حدود للاختلاط يعرفها الجميع، ويتقيدون بها بصرامة. وما زلت أذكر البدويات اللاتي يغطين رؤوسهن تاركات نصف الشعر يظهر، وجدائلهن تلوح على الظهر، وكانت العشائر تؤلف جزءًا كبيرًا من ريف حماة وحمص ودرعا وحلب والرقة ودير الزور والحسكة. وما زلت أذكر أيضًا ريف حلب وريف إدلب خلال دراستي الجامعية في حلب، في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين، وأذكر نساء ريف الجولان في أثناء خدمتي العسكرية في منتصف سبعينياته، ونساء درعا خلال عملي في محافظة درعا مطلع ثمانينيات القرن العشرين.

منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، بدأ المد الديني بالظهور والنمو لأسباب داخلية وخارجية، ولم يكن في سورية فحسب، بل في المنطقة كلها. ففي الداخل السوري جرى فرض نظام أمني منذ آذار/مارس 1963، ومنع أي نشاط سياسي أو فكري أو مجتمعي حر، ثم جاءت هزيمة الـ 67، لتكمل شعور الخيبة الذي تركته تجربة الوحدة السورية المصرية الفاشلة، وتغذي شعورًا بفشل القوى التي تدعو إلى القومية والاشتراكية (النسخة الناصرية والنسخة البعثية)، وفي مناخ منع الحريات العامة أضحت المؤسسات الدينية هي الملاذ شبه الوحيد خارج مؤسسات الدولة الرسمية التي يبدو العمل فيها بلا روح، وأدت طبيعة السلطة وممارساتها، وخصوصًا مع نهوض جماعة الإخوان المسلمين ضد السلطة (البعثية) في النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين، في تغذية الشعور الديني لدى السنّة، ليغدو هويةً رئيسة، وكان الحجاب أحد الرموز الأساس في انتشار نوع من الاحتجاج على السلطة البعثية. وقد وصلت الرسالة إلى السلطة البعثية، فكان رد فعلها الأحمق في صيف 1981 يوم أرسل رفعت الأسد سرايا الدفاع لتنزع الحجاب عن رؤوس الفتيات والنساء المحجبات في شوارع دمشق، وكان لهذا الحادث بالذات مفعوله العكسي.

هذا الاتجاه الديني كان يتغذى من مصدر خليجي عبر قناتين، الأولى بسبب ارتفاع أسعار النفط حيث خلق حاجة واسعة لقوة عمل غير خليجية، فارتحل مئات آلاف السوريين للعمل في بلدان الخليج لسنوات عدة، وكان هؤلاء يعودون ببنية فكرية أكثر محافظة وأكثر تدينًا. ومن مشاهداتي، أذكر أن المساجد بدأت تغص بالمصلين، وبخاصة منذ ثمانينيات القرن العشرين، الذين بدؤوا يوحّدون لباسهم (الثوب الأبيض) كما في الخليج، بينما كان المصلون من قبل يذهبون إلى الصلاة مرتدين ثيابهم المعتادة بألوانها وموديلاتها المختلفة، وبدأت حركة بناء مساجد لم تشهدها سورية في تاريخها، وقد سهّل حافظ أسد -مدفوعًا بعقدة نقص الشرعية- بناء المساجد في مسعى لكسب رضى السنة، والثانية الدعم الذي بدأت تتلقاه الجمعيات الخيرية الإسلامية من جهات وجمعيات مماثلة في الخليج، وخاصة من السعودية، وقد نسج الإخوان المسلمون السوريون في بلدان الخليج شبكة واسعة لجمع التبرعات للجمعيات السورية. هذا كله أسهم في نمو التوجهات الدينية في سورية. وقد توقفت مطاعم كثيرة في سبعينيات وثمانينات القرن العشرين عن تقديم المشروبات الروحية.

في عام 2005 قال لي صديقي: “دعيت لإلقاء محاضرة في كلية الآداب في حلب، وكان الجزء الأكبر من الحضور فتيات معظمهن محجبات، بل الكثير منهن منقبات، حينها قفزت إلى ذهني صورٌ اختزنتها ذاكرتي لكلية الآداب في جامعة حلب في السبعينيات، فلم أحتمل المشهد وخرجت مسرعًا”.

أصبح المجتمع السوري في 2010 أكثر تحجبًا عما كان في 1970، ولكن المجتمع السوري في 2010 لم يكن أفضل، من الناحية الأخلاقية والاجتماعية والدينية، من مجتمع السبعينيات وما قبلها، حين كان الحجاب أقل انتشارًا، فقد كان التدّين أكثر بساطةً وعفويةً وصدقًا، وكانت تلك المجتمعات أكثر تضامنًا في ما بينها وأقل ذئبية وأنانية وأقل فسادًا بل أكثر تمسكًا فطريًا حقيقيًا بالدين.

أما بعد 2011، فقد ازداد الحجاب انتشارًا، وتلك حكاية أخرى، ويكفي أن نشير إلى أسبابها، وهي أن الصراع اتخذ طابعًا مذهبيًا بسبب الحل الأمني للنظام والعنف الوحشي ضد الانتفاضة وتدخل إيران وميليشياتها مما أعطى الصراع طابعًا مذهبيًا قوبل برد مذهبي مقابل، ثم بسبب من الدفع بالجزء الأكبر من فصائل المعارضة المسلحة إلى توجه إسلامي (إسلام سياسي) لأسباب ودوافع وأدوات معروفة، مما وسع انتشار الحجاب.

في النتيجة، فإن حجاب المرأة أصبح نوع من الرمز السياسي، وانتشاره أو انحساره ليس دليلًا على صلاح المجتمع من عدمه، بل هو مسألة تخضع للصراع وإثبات الذات في مواجهة الآخر. ومن ثَم ليس من الصحيح التعامل مع الحجاب بوصفه قضية دينية رئيسة، بل ليس مسألة دينية وفق آراء كثير من الفقهاء الذين يرون أن الحجاب ليس فريضة على المسلمات، ولا يوجد أي نص ديني صريح ينص على إلزام النساء المسلمات بارتدائه.

يبقى الحجاب قضية حرية شخصية، من أرادت ارتداءه أو رفضت ارتداءه، فلها ذلك. ومثل هذا الفهم هو ما يخرج الدين الإسلامي من الأزقة الضيقة – التي أراد المتعصبون حشره فيها وفتح معارك دونكيخوتية حوله- إلى فسحات الحياة العريضة.

أبدى عدد ممن سألتهم أسفهم الكبير للتركيز على الحجاب بدلاً من تركيز الاهتمام على العلم والتقدم العلمي ونقد مظاهر التخلف، وعلى العدالة الاجتماعية في مواجهة الظلم والاستغلال، وبناء مجتمع صالح يشمل كل شيء فيه، وعلى تقديس العمل واستقامة السلوك والالتزام بصالح المجتمع ورفض أي نوع من الغش أو الفساد، والدعوة إلى حب الناس جميع الناس وتمني الخير لهم، وفعل ما هو بالمستطاع من خير لهم، بل أن يتم التركيز على حرية الإنسان الفرد والحريات العامة وإعلاء قيم المساواة بين جميع الناس، وهي من سمات العصر، وغيرها الكثير مما يخرج الاسلام من فهم عصور الانحاط ويدخله في العصر الحديث ويقدمه للعالم بصورة تجتذب الآخرين وتدفعهم لاحترامه.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]