الأوادم

4 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
6 minutes

عبد الحميد يونس

خرج الحجاج بن يوسف الثّقفي، مساء الخامس من أيار، في إذن إداري لساعات فقط، ولم يشأ أن يهدر وقته المحدود سدى، فاتّجه مباشرة إلى سراي البلدة، وما إن دخل مكتبه الرسمي حتَى سارع إلى خلع كفنه المزعج، ثمَ لبس ثياب الأمارة، علَق النياشين على صدره وكتفيه، ثمَ ألقى نظرة سريعة على نفسه في المرآة، كي يتأكد من انسجام هيئته مع هيبته. لاحظ بأنّ عدد الأوسمة على صدره اليمين قد ازداد أكثر مما كان يتوقع، مع هذا لم يكن لديه الوقت ليفكّر في الأمر طويلًا. لكنّه عندما نظر إلى منتصف الحائط المقابل، وشاهد “عمرات” متعددة معلّقة بأوضاع وأحجام متفاوتة، همهم بعصبيّة واضحة:

– أكثر من مرّة قلت، لا أريد أن أشاهد “عمرة” أحد هنا في مكان عملي!

ثمّ نادى خادمه للشؤون النهاريّة، وأمره أن ينظّف المكان والحيطان جيّدًا، فهو سيعقد اجتماعًا مهمًّا قبل سفور الصّباح:

“عمرة” الحجاج هي التي تبقى فقط! مفهوم؟

قال بحزم، موجّها كلامه إلى الخادم، ثمّ أصدر أمرًا ثانيًا اتّجه به إلى خادمه المختص في الشؤون الليلية، أمره فيه بأن يطير من ساعته إلى أوادم البلدة. وحمّله رسالة أسف عما مضى من سوء تفاهم، ورسالة حبّ لما هو قادم، وعهد بأن يصير الحجاج الثّقفي ملاكًا للرّحمة والعدل، طالبًا منهم الحضور لأمر مهمّ. ووعد بأنه لن يضيّع أجر المتفهمين.

وصل رسول الحجاج في الوقت المناسب، وذلك غبّ صلاة العشاء مباشرة، حيث كانت لا تزال آثار السجود بادية على وجوه المؤمنين! ألقى السلام، ثم شرع يتلو على مسامعهم رسالة الزعيم. وأوضح لهم بأن “سيّده” ينتظرهم تمام السّاعة الرّابعة من صباح السّادس من أيار، في مبنى السراي، لكتابة مسودة عهد جديد، وفتح صفحة جديدة.

صرخ الأوادم في وجه الخادم صرخة رجل واحد:

  • أيّها الخادم النّحس! أترى أمامك حميرًا أم أبناء آدم؟

سكت الخادم، ولم يعرف بماذا يجيب! فكرر الأوادم الصرخة ذاتها، وأضافوا:

– لماذا لا تتكلّم؟ أترى أمامك حميرًا أم أبناء آدم؟؟

– لا، لا، أرى أبناء آدم.

– لا بأس إذن. عن أي صفحة تتحدث؟ وعن أي وثيقة أيضًا!؟ هل تعتقد أننا لا نفهم الحجاج وألاعيبه؟

ثم أمروه أن ينصرف بسرعة قبل أن يقطعوا رأسه ويحتفظوا به كرهينة! وأن يبلغ “سيّده” بأن أوادم البلدة وتوابعها سيجدعون أنفه، إن حاول الاتصال بهم ثانية، لأنهم لن يبيعوا كرامة أجدادهم بكنوز الدنيا.

عاد الخادم وهو يضحك في سره، وأخبر الحجاج الذي كان ينتظر عودته على أحر من الجمر، بأنه أوصل الرسالة، وبلغ الأمانة. وأضاف أن الأوادم يُقرئونه السلام، ويتفهمون رغبته، وسوف يحضرون بعون الله في الوقت المحدد!!

في تمام السّاعة الخامسة من ذلك الصّباح، كان الأوادم طرًّا يتجمهرون أمام أبواب السّراي، ويتناطحون لأجل السبق في الوصول، والدخول في الوقت المحدّد!! بعد دقائق قليلة كانوا يجلسون على أرائك من حرير، ويبتسمون ببلاهة وحبّ.

وقف الحجاج بن يوسف الثّقفي ثم ألقى كلمة سريعة، رحّب بهم وشكر حضورهم، وأكّد فرحته لعدم تغيّرهم وعدم تبدلهم، رغم الزّمن الطويل الذي فصل ما بين آخر لقاء من هذا النّوع وهذا اللقاء، وعلى الرغم من كلّ ما فعله بهم، تحت ضغط الظّروف المحليّة والإقليمية التي لا ترحم. قال إنّه هو -أيضًا- لم يتبدّل ولم يتغيّر، ولن يتبدّل ولن يتغيّر، كي لا يسيء إلى أبديّة الحكمة الخالدة: “كيفما تكونوا يولّ عليكم”.

ثمّ نزل من عن المنبر، ودلف بهدوء صوب الأوادم الذين كانوا منشغلين بتبادل عبارات الإعجاب بفصاحة الوالي، والاندهاش لحكمته وبعد نظره، وثقافته الدّينيّة.

أمر الحجّاج بتغليق الأبواب، وأشار إلى خادمه أن يحضّر “العدّة”، ثمّ أمر الأوادم أن يخلعوا بناطليهم وسراويلهم.

– البناطيل، سيدي الوالي؟

– السّراويل، مولانا الوالي؟؟

– والدّاخليّة، تاج راسي الوالي؟ ‍

طارت الأسئلة بلهجات ونبرات مختلفة نحو الحجّاج.

– طبعًا.. طبعًا! ‍

وتبسّم الحجاج، فانهمكت الأوادم ‍‍تفكك أزرار بناطليها، وما إن حضرت “العدّة”، حتّى وقف الخادم للشؤون الليليّة، يشرح بإيجاز رغبة الوالي “حفظه الله”:

هل أقول لكم الحظّ؟ أم الرّضى من الله سبحانه وتعالى؟ أم أقول التّواضع؟ في الحقيقة لا أعرف، ما أعرفه فقط أنّكم اليوم –أيّها السّادة– ستنالون شرفًا استثنائيًّا..‍‍ هل كان أحد منكم يتخيّل أنّ الحجّاج بنفسه هذه المرّة، سيقوم بالمهمّة؟ هل خطر في بال أحدكم أنّ الوالي عينه، سوف يلمس، بيديه المقدستين اللتين تقودان دفة الإمارة، عوراتكم، فردًا فردًا، عورةً عورة؟

وبلحظة لا تشبه ما قبلها، ولن يشبهها ما بعدها، تقدّم الحجاج بأعصاب من حديد. ثمّ شرع يخصي الجميع، فردًا فردًا؟

وما إنْ أتمّ عمله، حتى غادر السّراي بسرعة البرق، كأنّ شيئًا لم يكن، عاقدًا العزم أن يعود كلّما دعته الحاجة إلى ذلك.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]