الاتحاد الديمقراطي الكردستاني والنوم مع الفيلة


مصطفى الولي

تحت رايات الحرب على الإرهاب ضد (داعش) في شمال وشرق سورية، بدا وكأن أسهم الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني قد ارتفعت وزاد رصيدها، خاصة لدى الدولتَين الأكبر في العالم (أميركا وروسيا). فالأولى لها أجندتها الخاصة العابرة للحدود السورية والعراقية، والثانية أجندتها تقوم على أخذ القطعة الأكبر من “الكعكة” السورية، مما دفعها للتمدد العسكري أبعد من حدود طرطوس وحميميم، نحو الشمال الغربي السوري في عفرين، وإلى الشرق السوري، تحديدًا في الرقة ودير الزور، وإن بسلاح الجو فقط.

الدولتان كلاهما، أميركا وروسيا، تسعيان إلى توظيف الطرف العسكري السوري الأقوى في الشرق والشمال الشرقي في سورية، “قوات حماية الشعب الكردي” والنسخة المُعدّلة والمطورة التي تدعى “قوات سورية الديمقراطية”، ومن السذاجة الاعتقاد بأن الحزب الكردستاني في سورية سيقطف ثمار عمل ونشاط الدولتين ليُنجز مشروعه الخاص بمعزل عن مستقبل سورية ومصير مناطقها المختلفة.

مع انطلاق معركة الرقة التي واكبتها هجمات من قوات التحالف على مواقع (داعش) في دير الزور، بدت دعاية الاتحاد الديمقراطي الكردستاني “قوات حماية الشعب” مشبعة بالغرور، واثقة من نفسها، متخيّلة أن حصاد المواجهات الجارية في المناطق التي تتواجد فيها، أو تطمح للتوسع نحوها، سيوضع على بيدرها، وستشكل مؤونة تقتات بها لتحقيق حلمها “القومي” بمعزل عن مصير الشعب السوري. فما قامت به إدارة ترامب من إدارة الظهر للاعتراضات التركية على تسليح قوات حماية الشعب، ربما رفع من كمية الأوهام لدى الطرف الكردي وأسقط في يده. وقبل ذلك أنعشت موسكو آمال هذا الطرف “قوات حماية الشعب” عندما اعترضت على القصف التركي، لمواقع تلك القوات في الشمال الغربي من سورية بمحيط إعزاز وعفرين.

أميركا وروسيا، بدعمهما المتفاوت للاتحاد الديمقراطي الكردستاني، تنطلقان من اعتبارات تكتيكية في التعامل مع الوضع الشامل في سورية، وتحاولان استجماع القوى والتحالفات، مع الجاهزية التامة لديهما لتغيير خارطة تحالفاتهما وتعديلها، وفق مقتضيات مواكبة التحولات الجارية في ميادين الصراع داخل سورية، ودون تجاهل لمصالح القوى الإقليمية والدولية.

إنه من الوهم الكبير اعتقاد قيادة الأكراد في سورية ثبات واستقرار تكتيكات الدولتين، أميركا وروسيا، على مواقفهما العملية الراهنة، وصولًا إلى تثبيت أركان الكيان “القومي الكردي” في الشمال والشمال الشرقي وفي الشمال الغربي من سورية، لأنه حتى الآن يقوم دعم واشنطن لهم على مبدأ التخلص من (داعش)، كما يقوم التأييد الروسي لوجودهم العسكري والسياسي في الشمال الغربي (عفرين وجوارها) على خلفية منع قوى الثورة السورية من التوسع في هذه المناطق، حتى لا تتأثر مصالح سلطة بشار أو تتعرض للتهديد. أي أن روسيا ترى بدور “قوات حماية الشعب الكردية” رافدًا للنظام وسندًا له. وبالأساس قامت هذه القوات بهذا الدور منذ العام 2012، حين تصدّت لقوات الجيش الحر، ولقوى المعارضة المدنية في حلب وفي البلدات القريبة من مناطق سيطرتها العسكرية. وفي الحالتين الأميركية والروسية ليس هناك توافق مع مشروع “كيان كردي”، ولا تسمح تحالفات كل منهما بمواكبة وتأييد أجندة الاتحاد الديمقراطي الكردستاني. وبحركة تبديل محدودة وصغيرة يقوم بها “الفيل الأميركي” أو “الدب الروسي”، وهو متوقع ومنتظر، سيدفع قادة الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الذي يقود “قوات حماية الشعب” والتي بدورها تطلق على قواتها اسم “قوات سورية الديمقراطية” ثمنًا كبيرًا يُبدّد أوهامهم، ويضعهم في بركة التماسيح التي تسبح بها القوى الطائفية المدعومة من طهران، والبقية الباقية من قوى مسلحة لسلطة بشار الأسد.

منذ بدء الحديث عن تحرير الرقة من (داعش)، أعلن الروس ضرورة أن تعود الرقة لقبضة سلطة بشار، وأشارت واشنطن إلى الإبقاء على الطابع العربي للمدينة والمحافظة بعد تحريرها. في غضونه حاولت قوات بشار التقدّم نحو المدينة، وحاولت الاحتكاك بـ “قوات سورية الديمقراطية” بدعم روسي، ومن الحدود الشرقية لسورية، المحاذية لقضاء الموصل، وبالقرب من دير الزور تتحرك الميليشيات الطائفية الإيرانية لتنفيذ مخططها في ربط طهران بجنوب لبنان عبر سورية. لكن العينين المتيقظتين الجاحظتين لقيادة ما يدعى “قوات سورية الديمقراطية” تُحدِّقان إلى أقصى الشمال، فتركيا تبقى أحد أهم العوامل الإقليمية في التأثير على الشمال السوري من عفرين حتى القامشلي. فكيف سينفّذ مشروع الاتحاد الكردستاني ليرى النور في خضم هذه التعارضات والتناقضات؟ وهل تُراهن القيادة الكردية على بقاء موسكو حليفة لهم في عفرين، وهي التي تضع يدها بيد تركيا في رسم مستقبل محافظة إدلب، والدخول إليها لتنفيذ ما يُدعى “خفض التوتر” في المحافظة، على الجهة الأخرى فإن أميركا أعلنت عن المدى المرحلي التكتيكي لدعمها للقوات الكردية، وطمأنت تركيا بسحب الأسلحة التي سلَمتها للأكراد لاستكمال هزيمة (داعش)، ووضعت يدها بيد فصائل مسلحة عربية في شرق سورية، وتواظب على التأكيد أن الرقة بعد تحريرها يجب أن يديرها أبناؤها، حيث الغالبية الكبرى منهم من العرب. وتتساوق قيادة الأكراد مع فكرة إدارة الرقة من “أبنائها” بطريقة تشكيل واجهة من بعض أبناء المحافظة وتسميتهم إدارة لمناطقهم. ولا ترفض تلك القيادة عودة الرقة تحت سلطة بشار إرضاءً للروس، وتُهمل، أو تُقلل من إمكانية قبول أميركا لهذا الخيار، وهي التي تقوم بالجهد العسكري الحاسم في القضاء على (داعش) هناك.

في ظل هذه اللوحة شديدة التعقيد هل يضطر الاتحاد الكردستاني للمناورة مع سلطة بشار والقوى الطائفية المؤتمرة بقرار طهران، لحماية مشروعهم من تقلبات “الفيلة”، اعتقادًا منهم أن موسكو ستكون راضية عن هذا الخيار؟

أزمة عميقة وحادة تواجه قيادة الاتحاد الديمقراطي الكردستاني في سورية، فهم وضعوا أنفسهم في فراش واحد مع الفيلة، غير مكترثين بتقلباتها، ولم يتخلوا عن خيار السباحة مع التماسيح “سلطة بشار وطهران وأدواتها”، وفي الحالتين سيدفعون ثمنًا كبيرًا لم يعد بمقدورهم الهروب منه. ويعود جذر الأزمة الحادة التي سيواجهونها إلى الأيام الأولى لثورة الحرية للشعب السوري، حين ورثوا سلطتهم من المناطق التي انسحب منها النظام بتأثير المد الثوري في محافظات الشرق والشمال السوري. وشرعوا يواجهون قوى الثورة خدمة للنظام، متوهمين بأن هذا الطريق سيثمر لهم مكانة مهمّة في مستقبل سورية، ولو على حساب بقية فئات الشعب. ثم بدأ رهانهم على الدول الكبرى لدعم مشروعهم، وتناسوا أن تلك الدول ليست معنية بمشروعهم الخاص، وهي لم تمد يدها لهم إلا لتوظيف قوتهم ودورهم تكتيكيًا خدمة لاستراتيجيتها، وليس مباركة “للكيان الكردي” في ما يُطلق عليه “غرب كردستان”.

مع اقتراب الحصاد، حسابات البيدر لن تكون كحسابات الحقل الذي انتعشت فيه آمالهم وطموحاتهم، وسوف تنسحق عظامهم من تقلبات الفيلة، كما يمكن أن تتمزق أشلاؤهم في فك التماسيح.




المصدر