on
حسن خضر يكتب: تفاهة الشر!
حسن خضر
بماذا يخرج القارئ بعد الانتهاء من قراءة كتاب يغطي 640 صفحة من القطع الكبير، ويتناول باليوم والساعة، أحياناً، عقداً من الزمن ما بين هروب بن لادن من أفغانستان، بعد سقوط إمارة الطالبان، في 2001 ومصرعه برصاص القوّات الخاصة الأميركية في مدينة أبوت آباد الباكستانية في العام 2011؟
ثمة الكثير من الانطباعات بالتأكيد. ومع ذلك، إذا تناولنا الأمر من ناحية شخصية، وضيّقة تماماً، أي بعيداً عن المرافعات الأيديولوجية، والتأويلات السياسية، وما انكشف من أسرار، ربما لن نجد تعبيراً أفضل من ذلك الذي استخدمته حنا أرندت، وأصبح عنواناً لكتابها عن آيخمان ومحاكمته، في مطلع ستينيات القرن الماضي: “تفاهة الشر”.
لم يكن هذا، بالضرورة، ما حاول أدريان ليفي، وكاترين سكوت كلارك، التدليل عليه في كتاب صدر بالإنكليزية في أواخر مايو (أيار) الماضي بعنوان “المنفى: القصة الداخلية المُذهلة لهروب أسامة بن لادن والقاعدة”. ومع ذلك، فإن الخروج بانطباع من نوع “تفاهة الشر” لا يبدو مصادرة على المطلوب.
فالقسم الأكبر من كتاب ليفي وكلارك مُكرّس لتقصي حياة ومصائر عائلة بن لادن المكوّنة من أربع زوجات، وعدد كبير من الأبناء والبنات والأحفاد، تكاثروا على مدار عشر سنوات من العيش مطاردين، في بيوت سريّة، وفي عالم تسكنه الظلال، تمكّن الكاتبان من رصد ملامحه بعد مقابلات كثيرة مع أفراد من العائلة، وأشخاص كانوا على صلة بالأحداث، والاطلاع على وثائق غير منشورة، ومذكرات شخصية.
أغلب الأولاد من زوجته الأولى، مثلاً، كانوا يعانون بدرجات متفاوتة من التوّحد، أي كانوا من أصحاب الحاجات الخاصة، ومع ذلك لم تمثل حقيقة تعريضهم لحياة على هذا القدر من القسوة والخطورة، قلقاً وجودياً وإنسانياً من نوع خاص لدى الأب. وعندما قررت زوجته الأولى، وهي ابنة خاله، العودة إلى سورية (موطنها الأصلي) لأنها لا تحتمل حياة التشرّد، حرمها من اصطحاب أولادها وبناتها ما عدا طفلين دون التاسعة.
وفي البيت الذي أقام فيه آخر ست سنوات من حياته، في مدينة أبوت آباد الباكستانية، وعاش فيه مع اثنتين من زوجاته (التحقت بهن الثالثة قبل مصرعه بوقت قصير) كانت غرفته الخاصة، وكذلك الغرفة التي استخدمها كمكتب وأرشيف، على قدر كبير من النظافة والترتيب، خلافاً لما كان عليه حال المطبخ وغرف إقامة الزوجات والأولاد والبنات والأحفاد. والأهم أن الزوجات والأولاد والبنات والأحفاد كانوا محرومين من التعليم النظامي، والعناية الصحية الضرورية، وحتى اللعب الحر والاختلاط بالآخرين. وقد كان حريصاً على تزويج البنات ل”مجاهدين” بمجرد البلوغ.
يمكن للبالغين من بني البشر اختيار مصائرهم الشخصية، وتبرير هذا الأمر بطريقة أيديولوجية، ودفع الثمن، وتحمّل النتائج. ولكن ما يصعب تصوّره يتمثل في تعريض أطفال غير قادرين على اتخاذ قرارات تخص حياتهم ومستقبلهم لحياة من هذا النوع. وبالنسبة لبن لادن، لا يتجلى في سيرته مع ينم عن قلق خاص في هذا الشأن.
وفي السياق نفسه، وعلى الرغم من وجود تفاصيل كثيرة عن الحياة اليومية لبن لادن، في بيت أبوت آباد، لا يعثر القارئ على ما يوحي بحرصه على قضاء وقت للعب مع الأطفال، مثلاً، كما يفعل الآباء في أحوال طبيعية. وكلما وردت إشارة إلى هؤلاء توحي بأنهم كانوا ممنوعين من الكلام بصوت مرتفع، أو ممارسة ألعاب صاخبة، وبأن الأب كان يعظهم في شؤون الدين، أحياناً، ويلقي بمسؤولية التربية والعناية اليومية على عاتق النساء.
وفي المشهد الأخير، تبدو صورته إشكالية تماماً. فالبندقية التي قال إنه استولى عليها من ضابط سوفياتي قتيل، أيام الاحتلال الروسي لأفغانستان، وظهرت إلى جانبه في مناسبات كثيرة، كانت على رف في غرفة نومه، ولم يفكر بالتقاطها عندما تعالت في البيت أصوات الرصاص، وسمع خطوات جنود القوّات الخاصة الأمريكية تقترب منه.
يقول الأمريكي الذي اقتحم الغرفة، وكانت في ظلام دامس، وكان يضع جهازاً للرؤية الليلية على عينيه، إنه رأى بن لادن، قبل إطلاق النار عليه، واقفاً وقد وضع يديه على كتفي أصغر زوجاته، محاولاً تلمّس طريقه في الظلام. نهاية مُفزعة، بالتأكيد، ولكنها لا تعفي القارئ، في ظل وباء الإرهاب، الذي تفشى في أربعة أركان الأرض، من معاودة التفكير في عبارة ذائعة الصيت لحنا أرندت.
المصدر: 24
حسن خضر يكتب: تفاهة الشر!
المصدر