دور الاقتصاد في إعادة تأسيس (الدولة) السوريّة


محمد محمد

المحتويات

– الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية

– المادة 23

– المادة 25

– القاعدة الاقتصادية المطلوبة

– أهم السياسات الاقتصادية المطلوبة

1- دور الدولة

2- الاستثمار والمناخ الاستثماري

3- السياسات الضريبية

4- السياسات الإنفاقية

5- سياسات الأجور

6- تنمية القطاعات المتوسطة والصغيرة

7- تنظيم القطاع غير المنظم

8- تنمية الاقتصاد التعاوني

9- تشجيع شركات القطاع الخاص الكبيرة وتحفيزها للالتزام بمسؤولياتها الاجتماعية

10- تشكيل مجلس اقتصادي – اجتماعي

– خاتمة

الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية

سيواجه السوريون امتحانًا تاريخيًا في المستقبل. جوهره مدى استفادتهم من التجربة التاريخية السوريّة العيانية الملموسة، وإلى أي حد سيتحملون المسؤولية الأخلاقية والإنسانية تجاه أجيالهم القادمة. سيتحدد نجاح السوريين باختيارهم طبيعة (الدولة) المنشودة و(نظامها السياسي)، واستجابتهم للتحديات الصعبة والمسؤوليات الثقيلة. والمطلوب (دولة) ذات (نظام سياسي) يسعى للجمع بين الديمقراطية والتنمية والعدالة. إن نجاح الديمقراطية واستمرارها مرهون بوضع الاستراتيجيات والسياسات والبرامج الاقتصادية التي تحقق نموًا حقيقيًا. والنمو الاقتصادي الحقيقي شرط ضروري وغير كاف لخلق تنمية. فالتنمية ليست محض أرقام ونسب مئوية لحساب المتغيرات والمؤشرات الاقتصادية، فعلى التنمية أن تعيد توزيع الدخل والثروة، وتقلص الهوة بين الطبقات والشرائح الاجتماعية كي تصبح (تنمية حقيقية). وينبغي أن تكون اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وأخلاقية حتى تُسمى (تنمية حقيقية شاملة). كذلك عليها ألا تهدر الموارد، وتحسب حق الأجيال القادمة فيها، وبذلك تكون التنمية (مستدامة).

إن ضرورة استناد السياسات الاقتصادية والتنموية إلى مبادئ العدالة الاجتماعية لا تقتصر على تحقيق الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي وحسب، وإنما تتعداها إلى التمسك بالقيم الإنسانية العليا. وهذا ما هدفت إليه مواثيق الأمم المتحدة. لن نتطرق هنا إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

سنكتفي هنا ببعض ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:

المادة 23

  1. لكل شخص في حق العمل، وفي حرية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومرضية وفي الحماية من البطالة.
  2. للأفراد جميعهم، من دون أي تمييز، الحق في أجر متساو على العمل المتساوي.
  3. لكل فرد يعمل حق في مكافأة عادلة ومرضية تكفل له ولأسرته معيشة لائقة بالكرامة البشرية، وتستكمل، عند الاقتضاء، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية.
  4. لكل شخص حق إنشاء النقابات مع آخرين والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه.

المادة 25

  1. لكل شخص حق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وبخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية، وله الحق في ما يأمن به من الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الأوضاع الخارجة على إرادته وتفقده أسباب عيشه.
  2. للأمومة والطفولة حق في رعاية ومساعدة خاصتين. وللأطفال جميعهم حق التمتع بالحماية الاجتماعية ذاتها سواء أولدوا في إطار الزواج أو خارج هذا الإطار.

القاعدة الاقتصادية المطلوبة

إن تحقيق (عدالة اجتماعية) مُستندة إلى أرض صلبة من تحقق تنمية حقيقية شاملة ومستدامة يتطلب إحداث (نمو اقتصادي حقيقي مستدام) يصدر عن قاعدة إنتاج متينة تتمتع بإنتاجية عالية. وذلك يستوجب التخلص من الطابع الريعي للاقتصاد، والقضاء على المافيا الاقتصادية، وإنهاء الفساد الكبير قبل الصغير. ما يشترط قيام دولة تتمتع بالشرعية، ذات نظام ديمقراطي يقوم على مبدأ فصل السلطات، وسيادة القانون، وتساوي المواطنين أمامه. ونشدد هنا تشديدًا خاصًا على استقلال القضاء وعدالته ونزاهته.

تحتاج سورية إلى اقتصاد متنوع. يكون عماده الرئيس (الاقتصاد الحقيقي) المتكون من الإنتاج السلعي المادي في قطاعي الصناعة والزراعة. قطاعا زراعة وصناعة حديثان يحققان الإنتاجية العالية والجودة والقدرة التنافسية وقيمة مضافة مرتفعة. يتشابك هذان القطاعان بمدخلاتهما ومخرجاتهما. لا يعني هذا إهمال القطاعات الخدمية، بل ترقيتها إلى أقصى ما يُمكن ذلك، لكن ليس على حساب الاقتصاد الحقيقي.

لا بد من القيام بدراسات بحثية علمية للموارد الطبيعية والاقتصادية والبشرية، تستقصي درجة استغلالها ونوعيتها، وكيفية تجاوز الاستغلال الناقص و/أو السيئ. إضافة إلى بحث علمي استشرافي، وخصوصًا (الإمكانات الكامنة) غير المُستغَلة و/أو غير المُستكشَفة. وإذا كانت سورية غنية بمواردها، وهي كذلك، فإن المورد البشري هو الأكثر ثراءً بين مواردها الكثيرة. لا حاجة إلى العودة إلى التاريخ للتذكير بإمكانات الإنسان السوري. يكفي الانتباه إلى نجاحات السوريين المتحققة في بلدان العالم، وفي المجالات المختلفة. والقصد من لفت النظر إلى المورد البشري هو الإشارة إلى إمكانات (اقتصاد المعرفة) في مستقبل سورية. وبذلك نصل إلى أهمية الاهتمام اللازم للتعليم والبحث العلمي. في فقرة سابقة تمت الإشارة إلى القضاء وهنا يُشار إلى التعليم. ألا يُذكّر ذلك بسؤال ونستون تشرشل حكومته عن حال القضاء والتعليم في الاجتماع المخصص لبحث إمكان إعلان الحرب على ألمانيا.

أهم السياسات الاقتصادية المطلوبة

    1- دور الدولة

كشفت التجارب التاريخية النتائج الكارثية لتحكّم الدولة بيرقراطيًا بالاقتصاد تحكمًا مركزيًا من جهة. وفشل السياسات (النيوليبرالية) بتجنب الأزمات الاقتصادية الخانقة من جهة أخرى. وإذا كانت تلك التجارب تدعو إلى التخلص من ثنائية: إما الدولة البيرقراطية المتحكمة مركزيًا بالاقتصاد، وإما (الدولة النحيلة) بحسب التعبير النيوليبرالي. وإن صح ذلك عمومًا، فسيكون ضرورة قصوى في إعادة تأسيس سورية ومستقبلها. سورية ستقلع من قاعدة انطلاق منخفضة وهشة بل مفتتة. دور الدولة في الاقتصاد ليس بديلًا من (السوق)، وليس بمعزل عنه. إضافة إلى دور الدولة التقليدي بوصفه مُنظِمًا ومُشرِّعًا وراسم سياسيات، يمكن لها، وواجب عليها، أداء دور حاسم في نهوض سورية ونموها وتنميتها. على الدولة العمل على زيادة إيرادات الموازنة العامة إلى أقصى حد ممكن، لتتمكن من رسم سياسة إنفاقية توسعية بشقيها: الإنفاق الجاري (صحة، تعليم، بحث علمي، أجور، تأمين وضمان، إنفاق اجتماعي يحفز الطلب الكلي ويخلق فرص عمل)، والإنفاق الاستثماري (بنية تحتية حديثة، القيام بمشروعات ضرورية للمجتمع لا يقوم بها الاستثمار الخاص بسبب ضخامة رأس مالها الثابت وبطء دورة رأس مالها وانخفاض ربحيتها). كذلك دخول السوق بوصفها (مستثمرًا خاصًا) في العملية الاقتصادية، الإنتاجية منها والخدمية. بتأسيس شركات و/أو الإسهام في شركات تُؤسَس وفق قانون الشركات الذي يُنظّم تأسيس الشركات الخاصة. وتُعامل أموال الدولة العامة المسهمة في هذه الشركات معاملة الأموال الخاصة أمام مسؤولياتها والتزاماتها القانونية والقضائية.

    2- الاستثمار والمناخ الاستثماري

المناخ الاستثماري المطلوب لا يقوم على سياسات (التسهيلات والإعفاءات الجمركية والضريبية)، وعرض قوة عمل رخيصة. بل يرتكز على سيادة القانون، وبنية تشريعية صديقة للاستثمار، وقضاء مستقل عادل ونزيه، وسريع البت في النزاعات. تسهيل الإجراءات الإدارية المتعلقة بالترخيص، وتسريعها، وخفض تكاليفها. قيام هيئة استثمار حكومية بدراسات علمية متكاملة لمشروعات محددة، يحتاج إليها الاقتصاد وتستوفي معايير الجدوى الاقتصادية، وعرضها والترويج لها بهدف اجتذاب مستثمرين جادين. تشجيع الادخار، وتسهيل ضخ المدخرات الصغيرة والمتوسطة في الدورة الاستثمارية.

    3- السياسات الضريبية

تركيز الحصيلة الضريبية على الضريبة المباشرة على الأرباح والريوع، وتخفيف الاعتماد على الضرائب غير المباشرة على الاستهلاك الأساسي وليس الكمالي والتفاخري، واعتماد الضريبة التصاعدية بما لا يعوق النمو والاستثمار، وإعفاء ضريبي على حد أدنى مجزٍ من الأجور والرواتب، ومكافحة التهرب الضريبي، ومكافحة التهريب الجمركي، وتحسين الجباية الضريبية، ومكافحة الفساد في المؤسسات الجمركية والضريبية.

    4 – السياسات الإنفاقية

اتباع سياسات إنفاقية توسعية بشقيها؛ الإنفاق الجاري على الصحة، والتعليم، والبحث علمي، والتدريب والتأمين والضمان، وإنفاق اجتماعي يُحفّز طلبًا فاعلًا يخلق فرص عمل. الإنفاق الاستثماري على بنية تحتية حديثة، والقيام بمشروعات ضرورية للمجتمع لا يقوم بها الاستثمار الخاص، بسبب ضخامة رأس مالها الثابت وبطء دورة رأس مالها وانخفاض ربحيتها.

    5- سياسات الأجور

اعتماد حد أدنى للأجور والرواتب تؤمن حياة كريمة. اتباع نظام سلالم متحركة للأجور، سلم يربط الحد الأدنى للأجر بالأسعار والتضخم، وآخر يربط شرائح الأجر العليا بإنتاجية العمل وجودته. سياسة تأمين وتقاعد تحمي الكرامة البشرية وترتبط بمستويات المعيشة المتغيرة.

    6- تنمية القطاعات المتوسطة والصغيرة

الاقتصاد السوري اقتصاد نمط الإنتاج الصغير، وسيتزايد حجمه النسبي مع انطلاقة عملية إعادة تأسيس الدولة، تعمل فيه قاعدة عريضة من السكان، وتعيش منه. لن تحصل تنمية حقيقية وكاملة إلا إذا حدثت تنمية للمشروعات الصغيرة، والصغيرة جدًا، والمشاغل الأسرية. وتنمية هذا القطاع لا تقتصر على الناحية الاقتصادية، فنمو هذا القطاع سيقلص البطالة، ويحد من الفقر، ويرفع مستوى معيشة شرائح واسعة من المجتمع. ومن الضروري اتباع سياسات تنموية خاصة به، ومن أهمها: التوسع في التمويل الصغير، وتسهيل الوصول إليه بفوائد منخفضة، ووضع برامج توعية وإرشاد لخلق روح المبادرة الفردية لارتياد الأعمال الصغيرة، خصوصًا لدى النساء والشباب. وتركيز العمل في الأرياف وعشوائيات المدن.

تأخذ تنمية القطاع المتوسط أهمية كبيرة، لما لها من نتائج اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية. فاتساع القطاع المتوسط وازدهاره يمنح البنية الاقتصادية الحيوية والمتانة والقدرة على النمو، وامتصاص الأزمات الطارئة والتكيف معها، وكلما احتلت الفئات الوسطى منزلة عريضة في الهرم الاجتماعي ازدادت فرص الاندماج الاجتماعي، وتراجعت الهشاشة المجتمعية. وقوي المجتمع المدني ونشاطه. واتسع الحراك السياسي وحيويته. ونهضت الثقافة والعلوم والآداب والفنون.

    7- تنظيم القطاع غير المنظم

يمثل القطاع غير المنظم نسبة عالية في الاقتصاد السوري، وسترتفع هذه النسبة في بدء الاستقرار. وسيُعمل في هذا القطاع أعدادًا كبيرة من السكان. لتنظيم هذا القطاع ضرورات قصوى اقتصادية واجتماعية ومعيشية وبيئية. يجب ألا يجري التعامل مع هذا القطاع بالحظر والملاحقة بل بالتحفيز والتشجيع والتسهيل. بإجراءات بسيطة للترخيص. ورسوم رمزية. وإيجاد ساحات عامة للتجميع تُخدّم بالماء والكهرباء والتنظيف.

    8- تنمية الاقتصاد التعاوني

الاهتمام بالقطاع التعاوني، وتشجيع إحداث الشركات التعاونية وتسهيله، بما فيها الشركات المساهمة التعاونية، تحفيز النقابات على إحداث مشروعات تعاونية، قيام البلديات بمشروعات تعاونية مساهمة يساهم بها السكان.

    9-  تشجيع شركات القطاع الخاص الكبيرة وتحفيزها للالتزام بمسؤولياتها الاجتماعية.

    10- تأليف مجلس اقتصادي ـ اجتماعي

يتكون من ممثلين عن الحكومة، والقطاع الخاص، والقطاع التعاوني، والنقابات العمالية والفلاحية والمهنية، والمجتمع المدني بما فيه المنظمات النسائية والشبابية، ومن خبراء وأكاديميين.

خاتمة

بعيدًا عن النظريات، وتجارب البلدان الأخرى المختلفة. تفيد الخصوصية السورية الملموسة عبر تاريخ يزيد على نصف قرن:

في خمسينيات القرن الماضي تحقق نجاح اقتصادي في ظل ديمقراطية سياسية، لكن غياب العدالة الاجتماعية أسهم في انعدام الاستقرار السياسي وزعزعة الديمقراطية الهشة، ولاقت التضحية بها قبولًا شعبيًا طوعيًا واسعًا.

في ستينياته نجح الاستبداد السياسي في فرض سياسات اجتماعية، لكنه فشل اقتصاديًا، فبقي أثر السياسات الاجتماعية محدودًا وموقتًا، ثم تراجع ووصل إلى طريق مسدود.

خلال العقود الثلاثة اللاحقة هدر النظام الشمولي الموارد والطاقات وخلق اقتصادًا ريعيًا ضعيفًا تخنقه متلازمة مافيا النهب والفساد. وظل عاجزًا عن النمو المستدام علاوة على التنمية والعدالة الاجتماعية.

في العقد الأول من القرن الحالي عملت السياسات النيوليبرالية وغياب الديمقراطية، مع استفحال المافيات وفجور النهب والفساد على إيصال سورية إلى الكارثة والدمار. أصبحت (أرض اليباب).

تحتاج سورية في مستقبلها، أكثر مما احتاجته في ماضيها، لتلازم الديمقراطية مع التنمية والعدالة الاجتماعية. وبتعبير آخر لترابط الديمقراطية السياسية مع الديمقراطية الاقتصادية، ما يُعرف بالنظام الديمقراطي الاجتماعي.




المصدر