ماذا تعلّم السوريون في ثورتهم


ريمون المعلولي

بعيدًا عن التشويش وخلط الأوراق، ثورة أم إرهاب، وبعيدًا عن مآلات الواقع الميداني/ العسكري من مكاسب وخسارات، وعما سيؤول إليه صراع الدول والقوى بخصوص الحالة السورية، تبقى الحقيقة في القصة السورية واضحة لمن يرغب في رؤيتها، وهي أن غالبية السوريين كانوا واعين -منذ البداية- لما يرفضونه، ولما خرجوا من أجل الخلاص منه. إنهم مُصرّون على رفض العودة إلى الحياة التي عرفوها، قبل آذار من عام 2011: حكم الحزب الواحد، وسيطرة قوى الأمن على مفاصل الدولة والمجتمع، وما تبع ذلك من انعدام الحريات العامة، واتباع نهج المحاصصة المذهبية التقسيمي، فضلًا عن تعميم المحسوبيات والفساد، وما خلفته السياسات الاقتصادية الجائرة من فقر وعوز وتهميش.. إلخ.

في مقابل ذلك، لم يكن وعيهم واضحًا –بالقدر الكافي- لما يريدونه لقادم أيامهم، وكيف سيبلغونه. وأزعم أن المستقبل كان عندهم أشبه بصورة غائمة، أو نتف من مجموعة صور تختلط فيها ألوان عديدة، وتحتمل أوجهًا متعددة عند محاولة فهمها. لقد كان همّهم الأول منصبًا على الخلاص من حال لم يعودوا يطيقون استمرارها. هل هذا عيب في الثورة السورية؟

تخيلّوا أن شعبًا وُلِد غالبية أبنائه في الخمسين سنة الأخيرة، تفتحت أعينهم وهم لا يعرفون إلا حزبًا واحدًا، شعاراته تملأ كل ركن من سورية، لا حزبَ غيره، ولا سياسة، جميع الأجيال ملزمة بالمرور في مدارس البعث: الطلائع ثم الشبيبة واتحاد الطلاب، تُضخ في عقولهم أيديولوجيا الحزب، ممزوجة بالمناهج التعليمية وأنشطتها. وفي حياتهم العملية، لا يجدون سوى “المنظمات الشعبية” و”النقابات المهنية” المصاغة وفق مواصفات السلطة.

إذن لا تنظيمات مدنية، ولا أحزاب سياسية، لا انتخابات حرة، ولا قدرة على التعبير، ويكون العقاب قاسيًا لمن يجرؤ على النقد، إلى حد إزهاق الروح أو التعفن في السجون.

لم يعرف السوريون معنى الانتخاب إلا في الكتب المدرسية، ويتم شرحها لهم مشوهة، لم يتعلموا النقد والتعبير، لم يعيشوا خبرات الحياة المدنية الأولية.

من جهة ثانية، تحدّرت أجيال الخارجين عن طاعة النظام من مرجعيات متنوعة إلى درجة كبيرة: منهم -وهم قلة– كانوا ينتمون إلى أحزاب ممنوعة، ومنهم من كانوا محسوبين على الحزب الحاكم، منهم من كانوا علمانيين، أو قوميين، منهم الماركسيون، ومنهم المؤمنون المتدينون أيًا كان دينهم. فيهم الطلاب، والحرفيون والفلاحون والعمال، فيهم المثقفون: محامون ومعلمون وأساتذة جامعات وفنانون وإعلاميون… منهم الريفيون، ومنهم المدنيون، وكانت غالبيتهم من سكان العشوائيات. بالإجمال كانوا ممثلين حقيقيين للشعب السوري في تلك اللحظة، يجمعهم -رغم تنوعهم- هَمٌّ رئيس هو الإحساس بالظلم، والتهميش بكل معانيه، والفقر لفئات واسعة منهم.

كانت اللحظة التاريخية التي تفجر فيها غضبهم، وأعلنوا العصيان والتمرد على نظام موغل في استبداه وبطشه، وهذا في حد ذاته كان معجزة، خرجوا رافضين المذلة وهم مستعدون للموت -بالمعنى الحقيقي للموت وليس المجازي- في سبيل الكرامة. فهل يصح أن نلومهم لعدم تمكنهم من تنظيم أنفسهم في كيانات سياسية قبل أن ينتفضوا؟ هل يصح أن نحملهم مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم فيما بعد؟ هل كان عليهم تعلم فنون الثورة قبل إعلانها؟.. أسئلة ماكرة يطرحها القابعون على حافة الثورة.

الحقيقة الواضحة اليوم لمن يريد الرؤية، أن السوريين باشروا التعلم –ومن كيسهم كما يقال في اللغة السورية الدارجة- يتعلمون من خلال تجاربهم وممارساتهم اليومية، يكدسون خبراتهم مع كل قطرة دمٍ تنزفها جراحهم، ومع كل وجع يعانونه.. يومًا بيوم وساعة بساعة، يرسمون ملامح مستقبلهم. هذه خاصية الثورة السورية.

فماذا تعلموا؟ وماذا اكتشفوا في سياق تعلمهم؟

لقد تعلموا تنظيم أنفسهم من أجل التظاهر السلمي، شكلوا الشبكات الإعلامية والاتحادات والتنسيقيات في مختلف المدن والبلدات والقرى السورية، وها هم لا يفوّتون أيّ فرصة آمنة كي يخرجوا في تظاهرات رافعين شعاراتهم التي صاغوها مع بداية الثورة هاتفين للحرية.

تعلموا كيف ينظمون أنشطتهم التطوعية وإدارتها وممارستها، أقاموا المشافي الميدانية وأداروها في أصعب الظروف، شكّلوا فرق الإسعاف والإنقاذ التي تعمل على خطوط القتال ومواقع القصف، نظموا حملات جمع التبرعات والمساعدات في داخل سورية وخارجها، ومن ثم توزيعها على المتضررين في أحياء المدن وفي القرى والمخيمات ومراكز الإيواء. أقاموا جمعياتهم وتنظيماتهم المهنية والأكاديمية البديلة في المناطق البعيدة عن سلطة النظام، فيهم الحقوقيون والفنانون والإعلاميون والكتاب والأكاديميون والطلبة..

هزّوا مُحرمات النظام وخطوطه الحمراء، وتجاوزوا مسلمّاته، فالسوريون خبروا قبل ثورتهم عواقب الحديث عن مسائل مثل: آل الأسد، وأجهزة الأمن، والقائد الخالدٌ، والبعث القائدٌ، والاستفتاءات، والتوريث.. إلخ. باشروا التخلص من أفكار مسبقة، معلّبة ودوغمائية، عمل النظام طويلًا على تكريسها فيهم عبر آلته التربوية–الإعلامية.

يتعلمون مبادئ التحليل والتركيب لمشاهد عجيبة في تعقيداتها، يتعلمون أوليات الاستقراء والاستنتاج من خلال حقائق مبعثرة تكتنف حيواتهم، باشروا في تعلم النقد، والتعبير، إنهم يتعلمون النطق من جديد.

يتعرفون -بالضرورة- على القوانين الدولية المتصلة بحقوق الانسان، يقرؤون عن معنى جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وعن واجب حماية المدنيين في أوقات الحرب، يبحثون في معنى محكمة لاهاي ومهماتها، يتعلمون توثيق الانتهاكات، واتقنوا التعامل مع المنظمات الإنسانية الدولية، ومع وكالات الأنباء.

تمكّن السوريون من تحريك المياه الآسنة في المستنقع الذي هيأه النظام مكانًا لحيواتهم. “فالثورة رفعت غطاء الطنجرة وظهرت التشقّقات المجتمعية، وظهر العفن الطائفي الذي خلفه النظام بعد حكم نصف قرن” على حد تعبير المفكر السوري صادق العظم. واكتشفوا العفن السياسي والنفاق الطائفي لعديد الحركات على الساحة السورية، ومحيطها الجيوسياسي، يسارية كانت أو إسلامية، عدّت نفسها، لمدة طويلة، ممثلة للعدالة والمقاومة.

فدعاة ما يسمي نفسه بـ “اليسار” تفككت لحمة تنظيماتهم، لأسباب تتصل -في جزء منها- بالموقف من الحدث السوري، ونتج عن ذلك انحياز كتلة كبيرة من قواعده إلى جانب الثورة، فيما بقيت قياداته ومجموعات قليلة من قواعده على تعصّبها وإخلاصها لمواقفها القديمة، وهؤلاء هم الأكثر عدائية للثورة السورية، والأقرب إلى دعم النظام، ما زالوا يُغلّبون في مواقفهم الفكرية والسياسية ما يسمونه بـ “الصراع الرئيسي مع العدو الخارجي على الصراع الداخلي الاجتماعي مع النظام”. وأثار تدخل (حزب الله) اللبناني في سورية توترات حادة بين قيادته وشرائح من أنصاره، شيعة وسنة، وانفض كثيرون من حوله. وكذلك أشعلت أيديولوجية “تنظيم الدولة الإسلامية” وممارساته العنفية، والحركات الجهادية الأخرى وممارساتها الخلافات في صفوف التيارات الدينية عمومًا، وباتت مفاهيم تتصل بهوية تلك الحركات من مثل: الجهاد والشهادة، الدين والوطن، الوطني والاجتماعي، المقاومة والدين والطائفة والانتماء.. إلخ محل مراجعة واختلاف، أفضى في مواضع عديدة إلى حدوث تصدعات وانقسامات في صفوف بعض الحركات، ولم تسلم من ذلك حتى تشكيلات العشائر السورية.

وكي يكمل السوريون تعلمهم عليهم العمل على توليد قيادتهم التي تشبههم، وينفضوا عنهم “القيادة” المأزومة، والممزقة، وذلك من خلال بناء أو إعادة بناء هيئة جامعة لكل أطياف السوريين، ذات خطاب وطني–مدني، يُحيي آمال القانطين أو المترددين والمنسحبين أو المستائين، ويبدد مخاوف الخائفين، في الداخل والخارج، تؤكد على الطابع السياسي الديمقراطي للثورة، قادرة على استثمار كل ما تعلمه السوريون وراكموه خلال نضالهم.

يحتاج السوريون إلى قيادة جديدة تتعلم، وتجدد تعلمها في السياسة والإدارة على المستوى الداخلي والخارجي، تنظم شؤون السكان الحياتية والمعيشية في المناطق البعيدة عن سلطة النظام وتديرها، توجه جهودهم وطاقاتهم، تولي القضايا الإنسانية (المعتقلين، والمهجرين والمحاصرين.. إلخ) الأهميةَ التي تستحقها فهي قضايا عميقة وجامعة. تعيد صياغة علاقاتها وتعاملاتها مع أطراف الصراع الخارجية بعيدًا عن الأوهام والايديولوجيات، تتقن التعامل مع مصالح القوى المؤثرة وتستثمر تناقضاتها، وتعزز رصيدها وقرارها المستقل، تنظر إلى المستقبل، تتمسك بحق العدالة الانتقالية، وبالمحاسبة عن جميع الانتهاكات بحق السوريين.

إن نجاح السوريين في حل عقدة تمثيلهم في قيادة حقيقية، سوف يبعث برسالة واضحة مفادها أن محاولات حسم المسألة السورية عسكريًا أو سياسيًا لغير مصلحة الشعب السوري لن تؤدي -على المديين المتوسط والبعيد– إلى وضع خاتمة للمأساة السورية. فالسوريون باشروا ثورتهم، وما زالوا يتعلمون فيها، ومنها، ولأجلها كل يوم، وسوف يجدون طريقهم نحو مستقبل يريدونه. إن ثورتهم لا تشبه، في كثير من خصائصها وديناميتها وظروفها، الثوراتِ الأخرى. فلها منطقها ولها صيرورتها الخاصين بها.




المصدر