العازف الهندي في كولن و”جوشو بيل”


بشرى البشوات

جاء في تقارير الأنباء:

في صباح يوم بارد، وقف رجلٌ في إحدى محطات المترو، في العاصمة الأمريكية واشنطن، وبدأ يعزف بالكمان. عزف مقاطع مختارة من أرقى مقطوعات موسيقى العبقري باخ، مدة 45 دقيقة تقريبًا.

خلال ذلك الوقت الذي يسمى “ساعة الذروة”، مرّ نحو 1100 شخص في محطة المترو، معظمهم في طريقهم إلى العمل.. مرت ثلاث دقائق، تباطأ رجل في منتصف العمر في سيره وتوقف بضع ثوان؛ وهو يستمع لمقطوعة الموسيقى، ومن ثم هرع للحاق بالوقت، بعدها بدقيقة، تلقى عازف الكمان الدولار الأول، كانت امرأة ألقت له المال من دون أن تتوقف، وواصلت المسير!

شخصٌ استند إلى الجدار للاستماع إليه بضع دقائق، ثم نظر إلی ساعته، وبدأ المشي مرة أخرى، كان من الواضح أنه قد تأخر عن العمل.

أكثر من أبدى قدرًا من الاهتمام طفلٌ عمره 3 سَنَوات، كانت والدته تحثه علی السير، لكنه توقف لإلقاء نظرة على عازف الكمان. وأخيرًا، واصل الطفل المشي، مديرًا رأسه طوال الوقت، وكرر هذا الأمر العديد من الأطفال الآخرين.

الآباء جميعهم، أجبروا أطفالهم على مواصلة السير، والأطفال جميعهم -دون استثناء- حاولوا التوقف والاستماع.

في 45 دقيقة من عزف الموسيقى:

لم يتوقف ويستمع سوى 6 أشخاص! نحو 20 شخصًا، من الذين مروا، قدموا له المال، ثم واصلوا السير بوتيرة طبيعية، كانت نهاية 45 دقيقة من العزف مبلغ 32 دولار.
عندما أنهى العزف وران الصمت، لم يلاحظ ذلك أحد، لم يصفق أحد!

لا أحد لاحظ أن عازف الكمان هذا هو “جوشو بيل“، واحد من أكبر وأشهر الموسيقيين الموهوبين في العالم. وأنه عزف مجموعة من القطع الموسيقية الأكثر تعقيدًا. وأنه يعزف علی كمان قيمته 3.5 مليون دولار. وأنه قبل يومين من لحظة عزفه في مترو الأنفاق، بيعت بطاقة الدخول لحفلته في أحد المسارح في بوسطن، بمتوسط بلغ مئة دولارًا.

جوشو بيل المولود سنة 1967 الحائز على جائزة غرامي، والذي بدأ أخذ دروس الكمان وهو في سن الرابعة.

يقول التقرير الذي تناولته وكالات الأنباء إن جوشو بيل: “عزف في محطة المترو ضمن تجربة، نظمتها (واشنطن بوست)، كدراسة اجتماعية، حول التصور perception، وأولويات البشر”.

كانت الفكرة الأساسية هي:

– هل ندرك الجمال في جو غير مناسب، وفي ساعة غير مناسبة؟

– هل نتوقف تقديرًا له؟

– هل نتعرف على الموهبة في سياق غير متوقع؟
في نهاية شهر نيسان الماضي، كنت وطفلتي الصغيرة في مدينة كولن الألمانية بمحاذاة نهر الراين، في أثناء عبورنا في سوق المدينة، كان هناك عازف هندي يعزف موسيقى عذبه وبعيدة، على آلات خشبية فيها ثقوب كثيرة ومختلفة الأنواع. وصلت إلينا الموسيقى من مسافة مئتي متر وربما أكثر، حين اقتربنا من العازف تذكرت في تلك اللحظة العازف جوشو، بينما وقفت صغيرتي تسمع مرة، وتركض جهته مرة أخرى. شدتني أكثر لنقترب منه، صرنا على مسافة قصيرة، وما زال ذلك الصوت يذهب إلى البعيد ويعود إلينا، كان العازف يلبس ثيابًا تعود إلى حقبة تاريخية قديمة، تمثل إحدى القبائل الهندية: يربط شعره الأسود المسترسل كذيل حصان، يمتلك جسدًا خفيفًا يمكّنه -في كل مقطوعة جديدة- من العودة سريعًا إلى صندوقه، لاستحضار آلة مختلفة. استمر وقوفنا أكثر من ربع ساعة، وبما أن الطقس كان يساعدنا على ذلك، فقد حققنا متعة إضافية.

لم أفكر وقتها بهرم ماسلو، كما أرادات الدراسة التي شارك فيها جوشو، أن تثبت، فهرم ماسلو الذي يعود لعالم النفس الأمريكي، تحدث وأثبت تدرّج جملة من الاحتياجات الإنسانية، تبدأ بقاعدة الهرم: الاحتياجات الفيزيولوجية، احتياجات الأمان، تقدير الذات، وأخيرًا تحقيق الذات.

هل توقفت أمام العازف الهندي تقديرًا لذاتي، وتحقيقًا لرغبة من رغباتها، هل قلت سأمنحها هذه البهجة، وأهبها هذه السعادة البسيطة! لماذا لم يتوقف الآلاف الذين عبروا أمام أشهر عازفي الكمان، في محطة مترو واشنطن؟

لماذا يتوقف تقديرنا -البشرَ- على أشكال الناس الخارجية!؟

قبل أيام كان قد تدافع الآلاف لحضور حفلة جوشو. وصل سعر تذكرته إلى مئة دولار، وبعدها بأيام يقف جوشو، بثياب عادية، ويقدم أشهر معزوفاته في محطة مزدحمة بالعابرين، ولم يحظَ بأي تقدير يذكر، ولا بأدنى اهتمام، هل حياتنا وأمورنا اليومية من الأهمية بمكان، لدرجة أنها لا تسمح لنا بالتقاط الأنفاس!

يقال -أيضًا- إن ممثل هوليود المشهور “ريتشارد غير” قد قام مرة بفعل مشابه لفعل جوشو: “جلس على الرصيف، في شارع من شوارع نيويورك، ومرّ به مئات الآلاف ولم ينتبه إليه أحد، ظنًا منهم بأنه متشرد”.

كل هؤلاء البشر لم يلتقطوا لحظة واحدة للمتعة، اكتفوا بالمرور، البعض حدّق، البعض على عجل، والآلاف عبروا بمتعهم الصغيرة، عبروا ببهجاتهم المجانية، دون أن يكنزوا منها، ولو مجرد إلتفاتة، كم أضعنا في لهاثنا وكم نتفة سقطت من أرواحنا!.




المصدر