بخصوص “إسرائيل” و”الربيع العربي”


ماجد كيالي

منذ البداية، عبّرت “إسرائيل” عن قلقها من الثورات العربية التي اندلعت في أكثر من بلد عربي، ولا سيما في مصر وسورية، فهذه هي المرة الأولى التي يصعد فيها الشعب، في هذه المنطقة، إلى مسرح التاريخ، وهذه هي المرة الأولى التي تشهد فيها المنطقة العربية محاولةً لتغيير النظم السياسية السائدة فيها.

ومبعث قلق “إسرائيل” كان ينبع من تخوفها من التداعيات التي قد تنجم عن هذه الثورات عليها، وعلى مكانتها وصورتها في المنطقة والعالم، أي أن الأمر لا يتعلق فقط بالنواحي السياسية والأمنية، وإنما هو يتأتى، أيضًا، من التغييرات الثقافية، ومن احتمال تغير نظرة العالم للمجتمعات العربية. وفي الواقع، بعد أن خسرت “إسرائيل” مكانتها كضحية، باتت أمام احتمال خسارة مكانتها كالديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وتخسر معها الادعاءات التي طالما روجت لها عن نفسها وعن العالم العربي.

ولعل ذلك يفسر الحذرَ الذي أبدته “إسرائيل” إزاء هذه الثورات، وسعيها الحثيث، ومن الباطن، للعمل على وأدها، أو حرفها عن مقاصدها، أو تركها لتتحول إلى نوع من حروب أهلية، وفق مقولة: “عرب يقتلون عربًا، لندع العرب يقتلون بعضهم”، وهي المقولة التي أثرت في صانع القرار الأميركي، وهي القطبة المخفية التي تفسر موقف الولايات المتحدة الأميركية، بين التشجيع على الثورات، وبين تركها لمصيرها، وضمن ذلك حرصها على إبداء مواقف متقلبة إزاء الصراع السوري. وفي المحصلة، بين ذهاب السفير الأميركي في سورية (روبرت فورد) إلى اعتصام حماة 2011، في إشارة ذات مغزى، ثم التلويح بالخط الأحمر بشأن استخدام الكيماوي، وصولًا إلى تمييع بيان جنيف، والقبول بالرئيس في المرحلة الانتقالية، حصلت المأساة السورية، وضمنها تشريد نحو عشرة ملايين، ومصرع أكثر من نصف مليون، وفتح البلد إلى حروب أهلية وإقليمية ودولية متعددة الأهداف.

وبكلام أكثر تحديدًا فإن “إسرائيل” التي طالما تغّنت باعتبارها، أو بتقديمها لنفسها، كواحة للديمقراطية والحداثة في الشرق الأوسط، في سعيها تغطية حقيقتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، حاولت توظيف ذلك في تحقيق هدفين، أولهما تظهير صورتها أمام الرأي العام العالمي (والغربي خصوصًا) على شكل ضحيّة مسالمة، يتربّص بها الأعداء الذين يريدون القضاء عليها، بسبب نظامها الديمقراطي هذا. وثانيهما فرض صورة نمطية عن العالم العربي والثقافة العربية، باعتبارهما يستعصيان على الديمقراطية.

طبيعي أن “إسرائيل” لا تريد، عبر هذا الادّعاء، تجميلَ نفسها، بقدر ما تريد تأكيد استثنائيّتها، للتملّص من التزام المعايير الدولية، وتبرير احتلالها أراضي الغير وتغيير نمط حياتهم، وإيجاد حدود آمنة لها على حساب الدول الأخرى، والسعي لاحتكار التسلّح النووي، في هذه المنطقة! لذا عندما وضعت “إسرائيل” وجهًا لوجه، في مطلع التسعينيات، أمام استحقاقات عملية التسوية مع الفلسطينيين (والسوريين أيضًا)، وجدت ضالتها، للتملص من هذه العملية، في ادعاء أن التسوية لا تقوم إلا بين أنظمة ديمقراطية متماثلة!

بديهي أن “إسرائيل” لم تكن يومًا حريصة على تسوّد الديمقراطية في النظم السياسية للمنطقة العربية، بل إن وجودها، بحد ذاته، كان أحد أهم أسباب غياب الديمقراطية، وانتشار التوترات وتفشّي روح العسكرة، وسيادة الدولة الأمنية، في هذه المنطقة. إضافة إلى ما تقدم فإن “إسرائيل” بالذات تدرك أكثر من غيرها حقيقة أنها تستمد قدرًا كبيرًا من استقرارها وقوتها من هذا الخلل في النظام العربي، أي من الفجوة بين الحكومات والمجتمعات، وخصوصًا من تدنّي قدرة المجتمعات العربية على تنظيم ذاتها والتعبير عن إرادتها واستنهاض قواها.

فوق كل ذلك، فإن التجربة المعيشة تؤكد أن “إسرائيل” كانت، على الدوام، أكثر ميلًا لمخاطبة الأنظمة السائدة وكسب ودها، على خلاف المزاعم الناجمة عن خطابها الديمقراطي المعلن، بدليل أنها عقدت معاهدات التسوية مع بعض الأنظمة، من دون أن تحظى هذه المعاهدات على شرعية شعبية. وتتبدى المفارقة أيضًا في واقع أن “إسرائيل” التي تدّعي الديمقراطية، دأبت على حضّ الأنظمة التي أقامت معها معاهدات، أو علاقات ثنائية، للحد من الحريات، بمراقبة وسائل الإعلام وتقييد تحركات النقابات وقوى المجتمع المدني، لمجرد مناهضتها لـ “إسرائيل”؛ لدرجة أن الأمر وصل بها حدّ تحريض هذه الأنظمة للضغط على مواطنيها، لإجبارهم على الانخراط في علاقات التطبيع معها! إضافة إلى كل ذلك فإن “إسرائيل” تفضّل استمرار النظام العربي السائد، لأنه يؤكد فرادتها، وادعاءاتها، ولأنه يغطي سياستها العدوانية والاحتلالية والعنصرية في المنطقة.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن “إسرائيل” لا تتعامل مع الديمقراطية، في العالم العربي، بوصفها قيمة عليا، بقدر ما تتعامل معها بشكل سياسي: انتقائي ووظيفي، على طريقة الدول الاستعمارية؛ وهذا أمر طبيعي لأن “إسرائيل”، عدا عن كونها دولة استعمارية، هي أيضًا دولة استيطانية عنصرية، حيث يضع مجتمع المستوطنين نفسه فوق مجتمع السكان الأصليين الذين يُخرجون من دائرة المواطنة. وطبيعي، أيضًا، أن القيم العنصرية تتناقض مع القيم الديمقراطية، وبالتالي مع المساواة والعدالة.

المعنى من ذلك كله أن الديمقراطية العربية المتوخّاة إسرائيليًا، هي تلك الديمقراطية التي تخلق المناخ للاعتراف بحق “إسرائيل” في الوجود، وليس فقط بواقع وجودها، وهي تلك الديمقراطية التي تسلم بتفوّق “إسرائيل” وفرادتها، والتي تبدو مطواعة أمام إملاءاتها وتروّج للتطبيع معها؛ رغم كل الظلم والإجحاف الذي تلحقه بالفلسطينيين، ورغم استمرار احتلالها للأراضي العربية! وبالتأكيد فإن الديمقراطية التي تنشدها المجتمعات العربية، وتعمل عليها، تختلف عن ذلك كثيرًا، وهذا ما يفسر عداء “إسرائيل” للثورات العربية، وتخوفها من وصولها إلى خواتيمها المأمولة.




المصدر