“عذراء سنجار”.. بين الأسطورة والفاجعة


دعد ديب

صراخ السبايا في شنكال ما زال رنينه يصم الآذان، يعلو ويعلو معلنًا فضيحة العالم المتحضر، في القرن الواحد والعشرين، كلعنة كابوسية تلاحق وجدان العصر الأبكم، لتجسد ملحمة قهر بشرية مصاغة بدم ودموع، عبر تقطعات تاريخ طويل من الفزع والرعب والخوف، تعكسها المرآة الكاشفة لردات الفعل النفسية عند ضحايا شعب سنجار. سنجار المدينة الأقدم في التاريخ، بعد دمشق، وريثة آشور وبابل وسومر؛ المدينة التي استبيحت أرضها وديارها وانتهكت أعراضها، من قبل شذاذ الآفاق وهمج التاريخ، تحت أسماع وأبصار العالم والهيئات الدولية المتشدقة بحقوق الإنسان، لدرجة أن عمليات الإبادة التي أحاقت بالسنجاريين تقارب عمليات الإبادة التي تعرض لها الهنود الحمر في زمن سابق؛ الأمر الذي حولهم إلى أقليات في أوطانهم.

نشتمان.. أيقونة الصبا والوطن المضاع، السبية المفقودة، مع المرأة الحامل بجنين  يرفض المجيء إلى حياة نكراء، شكلتا أقنومَي سرد، تتمحور حولهما رواية (عذراء سنجار) لـ بدر وارد السالم (منشورات ضفاف والاختلاف لعام 2016) التي تجاوز عدد صفحاتها أربعمئة؛ حيث يمضي في تتبع خطوات شخوصه، مزاوجًا بين الواقع والأسطورة، بين الفكرة والرمز؛ لتتفاعل مع كائنات الطبيعة من المطر والعشب، الصقر والكلب، الغراب والفراشة، مشكلة صداقات عميقة، تساهم في صوغ العالم المغلق المحيط بالحامل ذات الجنين العاصي عن الولادة؛ حتى يحين أوان ولادة البلد وفك أسره من نير الظلام. فالكلب دليل التائهين والهاربين إلى ملاذ آمن، عند الأرملة التي نسجت مع الصقر المحلق حكاية عشق ملونة، بتورية مقصودة ومزدوجة الإيحاء، لطقوس أيزيدية في انتقال الأرواح وتناسخها مرة، وتجسيد الصقر بروح شنكال، الحرة المحلقة مرة ثانية. تلك الروح التي انتشلت عبيدو المجنون من وسط النار المشتعلة بمحرقة إعدام أقامتها السلطات الداعشية، وحلقت به في الفضاء تيمنًا بفنتازيا ريميديوس الجميلة، عند غابرييل غارسيا ماركيز، ومعيدًا للذاكرة القريبة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة؛ تلك الحادثة الرهيبة التي لا تصدق لفرط فظاعتها ووحشيتها ومعاصرتها لزمننا، وقد نقلتها فضائيات العالم كله.

وليست محاولة حرق الرواية التي  نحن بصددها، إلا امتدادًا لتاريخ طويل من حرق الكتب، من مكتبة بغداد إلى مكتبة الإسكندرية، إلى كتب ابن رشد، مجسدة رعب الطغاة من المعرفة، استكمالًا لطمس أفكارها الكاشفة للحقائق، والتضييق على الحريات بالتعبير والفعل، حيث التكفير أسلوب الجهلاء الذين أعطتهم فتاوى فقهاء الدين (من المسعودي إلى ابن تيمية) جواز مرور لتمرير وتبرير أعمال القتل والسبي والعنف الوحشي الذي ينفذه دعاة، انتسبوا إلى الإنسانية زورًا، بإشارة إلى الوعي المشوه الذي يصيغ شخصياتهم “لا تعول على جماهير احترفت التصفيق والطاعة العمياء، فإن في أعماقها وحشية نائمة”.

صور التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال التي تربط العالم ببعضه، كانت النافذة التي نقل بها الفتى حوادث الرعب إلى العالم الخارجي، من إخصاء الأولاد المستعبدين، إلى جلد وتعرية الفتيات الصغيرات المسبيات، إلى فصل الرؤوس عن الأجساد، ما جعل المأساة الحاصلة عارية وجلية أمام العالم بأسره.

غرائبية المشاهد التي يرسمها بدر وارد السالم، تذكرنا بأدب الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية، فلوحة الخال فيدال التي ترميه القوات الغازية من بناء مرتفع، يندفع ليغوص عميقًا بالأرض، ولتنبت مكانه شجرة التين المقدسة، محملة بدلالة تعمقها في المكان وقدسية الشهادة في الوقت ذاته، ليصبح ضريحه مزارًا ومحجًا للبائسين والثكالى، ولتتناوب شخوص العمل بين الأرض والسماء تحليقًا وتجذرًا، بفانتازيا مدهشة، مؤكدة على افتراق العمل الروائي -كحالة فنية- عن الكارثة المعاشة والمعاصرة، في تجانسٍ لصياغة الأسلوب الحكائي مع الوصف السردي لصور المكان، مقاربًا بين الخراب والظلمة والوحشة والبرد، في رسم تبادلي مع كوامن الشخصيات والرعب الذي يعتمل في نفوسها. ويتتابع المشهد المؤسطر، بورقة التوبة التي يرميها الحمام الزاجل لسربست، حتى يستطيع التجوال بظل سطوة ذوي الأعلام السود على بلدته، يرافقه الفتى المفجوع بذبح أهله، على الرغم من مرجعيتهم الإسلامية، بإشارة توضيحية تفرّق بين مجرمين يحملون راية الإسلام، ومسلمين بحكم انتمائهم الطبيعي.

الأب والعاشق اللذان يجمعهما هدف واحد، هو البحث عن نشتمان الابنة والمحبوبة والمسبية والرمز، عبر تجوال بالسهل والجبل، وبين معاقل (داعش) ليسبر الكاتب الحياة المزدوجة للشخصيات (الشرطي دلشاد، البقال، سالار) التي تعيش بوجهين، وبقيت لم تقتل أو تؤسر، لتعيش واقعًا في النهار مخالفًا لما تحياه في الليل؛ حيث السرّانية والتخفي ضريبة استمرارها في الحياة؛ وأي حياة.

التنامي الدرامي لشخصية سربست/ آزاد، قاده إلى حوار قاس مع الذات والتاريخ، وإثارة أسئلة كبيرة عن عبث الانتماء والوجود، والتقوقع  في كينونة مغلقة على ذاتها، قاربت التجديف بموروث الآباء والأجداد، حول هذا الدين الغامض والمغلق الذي ينتقل شفاها، ويحمل على كاهله أربعًا وسبعين غزوًا متتابعًا عبر التاريخ، كونه الطريدة السهلة والحلقة الأضعف، كاشفًا عن مكابدات وجدانية، حول هذا الانتماء الذي لا يحصن أفراده من الانتهاك المتتالي، بتورية مصحوبة برغبة في الانفتاح على الآخرين والابتعاد عن الجمود وامتلاك أسباب القوة، في لفتة ذكية من الكاتب لإعادة كشف الغطاء عن المقدسات لأي انتماء، وإخضاعها لمنطق العقل لا النقل.

الرواية غنية بالإحالات الدلالية إلى ابتهالات طقوسية وروح فطرية ومناجاة تأملية “آمين ..آمين تبارك الدين … الله أحسن الخالقين…… إن الدنيا تفيض من نور الله”، في شكل علاقتها مع الإله الخالق خودا، والملاك الوسيط طاووس ملك، عبرت عنها الراهبة تالين أثناء مرورها بمعبد لالش، وقبر عدي بن مسافر، لتطهير نفسها -جسدًا وروحًا- من الدنس الذي ألحق بها، بمزيد من التمسك بدينها وعقيدتها، في إضاءة على الأيزيدية بصفتها جزءًا من تاريخ متجذر في المنطقة، وديانة عتيقة لها فلسفتها الخاصة والجميلة، ومعلَم مهم من فسيفساء ثقافة المنطقة الثرية والمتنوعة، وأغنية عزاء لهذا الشعب المسالم والمسبي والمحروم، نردد مع الشاعر سرمد سليم:

لشنكال التي تخاف من الظلام

شمس آذار،

وصلوات أبي وشرفدين،

لشنكال، تلك البلاد الجائعة

خبز أمي وقلبي ونهدا حبيبتي،

لتلك الأرض العطشى

يفتح الله أزرار عينيه

ويبكي بغزارة.




المصدر