“قيادات الصدف” وواجب الضباط الشرفاء


هشام أسكيف

أفرزت الثورة السورية، منذ بدايات الحراك الثوري الشعبي، وجوهًا على الأرض، لم تكتمل فيها بعد صورةُ القيادة، ولكن كانت صالحة جدًا لهذا الدور. اللافت بالأمر تسابق وسائل الإعلام لحشر وجوه وتصديرها المشهد، خدمة لأجندات شتى، والوجوه التي كانت كارثية على الحراك الثوري هي ذات ارتباط سابق بالنظام، وخرجت عليه سابقًا، بعد إزالة الحرس القديم من أمام المجرم الأسد، وأصبحوا مطعنًا على الثورة، وكانت شدة الضخ الإعلامي لهؤلاء وإظهارهم كمن يقود الثورة وبالًا عليها.

كانت هذه الوجوه تستغل أمرين اثنين، الشبق الإعلامي لها، وصعوبة -وأحيانًا استحالة- ظهور كثير من القيادات الثورية الشابة التي اتسمت بالوعي، لأنهم يُعرّضون أنفسهم للكشف، ويحدّون بذلك من حركتهم التي كانت تقطع الأرض السورية من الشمال إلى الجنوب.

لا ندري ما الغاية الأساسية من إبراز بعض الوجوه، خاصة تلك التي ترتبط بها ملفات فساد، وليس لها أي علاقة بالثورة وانفجارها، لا من قريب ولا من بعيد.

منذ بدأت الثورة السورية، استمات الخطاب السياسي والإعلامي للنظام في إلصاق ما يجري من حراك شعبي ثوري بالسلفية والأخوان. حاول هذا الخطاب تصويرها على أنها انتفاضة سنية متشددة، وكان الوعي الثوري الفطري، حينذاك، أعمق من كل التحليلات، مُطلقًا أهازيج وصيحات تُقاوم هذا الضخ الإعلامي.

كل هذا الضخ الإعلامي رافقه على الأرض قمع وقتل لكل الرموز الوطنية الثورية التي برزت أثناء الحراك الثوري، كمشعل تمو، وصخر حلاق، ومحمد عرب، وغياث مطر، والقائمة تطول جدًا، ولم تكن الاغتيالات والاعتقالات عشوائية، بقدر ما كانت مُتعمّدة، لاجتثاث العمود الفقري، لكل مؤهّل لقيادة العمل الثوري السلمي والنضال الذي أشعل ساحات سورية بحالة وطنية، أرهقت الآلة الإعلامية للنظام حتى أوصلتها إلى حالات هذيانية، أصبحت تُشكّل حكايات للتندر للثوار، فمن بدعة استوديوهات قطر التي بُنيت وصورت تجمعات بشرية ضخمة على أنها في قلب سورية، إلى الياسمينة الزرقاء آخر صرعات طالب إبراهيم، إلى إنكار وجود مدن وشوارع عند شريف شحادة، وحالات كثيرة أخرى لا تُحصى، ومن هذا المنطلق تهالك المنطق الإعلامي، ورزح تحت ضربات الثورة التي ملأت الساحات.

عند انطلاق الكفاح المسلح، شهدت الثورة حالات اغتيال وإخفاء لرموز شكّلوا احتمالًا حقيقيًا لقيادتها، أولهم المقدم حسين الهرموش، الضابط الذي أسس الجيش الحر، وكان أول ضابط انشق عن جيش النظام، وبعد ذلك جاءت محاولة عملية اغتيال رياض الأسعد، قائد الجيش الحر، وقد نجا منها بإصابة أفقدته قدمه، ومعها أفقدته القدرة على قيادة المعارك بشكل عسكري مثالي، وبعد هذه التصفيات ظهرت القيادات التي أرادها النظام والداعم، لا علاقة لها بالسياسة ولا بالعسكرة. أصحاب سوابق، أصبحوا قادة بالصدفة لأعظم ثورة في القرن الواحد والعشرين؛ فكانوا ملكييّن أكثر من الملك، وأسديين أكثر من الأسد. صاحب السوابق أصبح يُقابل السفراء ومندوبي الدول، ويخطط لقيادة سورية التي قادها شكري القوتلي والأتاسي وسعد الله الجابري ومأمون الكزبري.

بهذه الصورة، سيطر النظام على تحرّك الثورة، وأدار دفتها إدارةً غير مباشرة، فهو لا يريد ظهور أي بذرة لتشكّل البديل الوطني، بل أراد حصر المسألة بالإرهاب، الموضوع الذهبي الذي يُخاطب به كل دول العالم، ترغيبًا به وبقدراته على اختراق التنظيمات التي ساهم بتشكيلها، لكي يبيعها بالقطعة للدول التي تخشى تفشي ظواهر أمنية في بلدانها، وكانت له القدرة على ذلك، عبر عدة حوامل:

1 – الدفع باتجاه الحل العسكري، بشكل يخرج الحل السياسي من سياق أي نقاش، وبالتالي يجب أن يكون هناك من يجاريه في هذا المضمار من قادة الصدفة الذين لا يُدركون معنى الثورة المسلحة أمام نظام مدجج بالسلاح؛ فدخلوا معه في صراع عسكري مباشر على طريقة الجيوش -رأس برأس- بطريقة عسكرية للمواجهة، ولو ترك الأمر لأصحاب الاختصاص من الضباط المحترفين؛ لكانت إدارة الصراع أنهكت النظام على شاكلة أول الثورة، عبر عمليات نوعية مستمرة و”كوماندوس” وحرب عصابات، الأمر الذي سيُفقد النظام توازنه إلى حد كبير، كما فقده بداية الثورة.

2 – اختراق التشكيلات العسكرية الثورية بكمّ هائل من منظومة صيدنايا التي رباها في أقبيته، وتعلمت الدموية والتطرف بشكل حرفي.

3 – تصدير خطاب دعائي أجوف، لكنه أحدث صدى لدى كل الدوائر الغربية، لأن النظام، عبر عملائه، حول الثورة إلى إسلامية سنية، وهو يُصدّر خطابًا يظهر فيه تارة أنه علماني، وتارة أنه حامي السنة من البديل (داعش) القاعدة، أو تارة حامي الأقليات.

ظهور “قيادات الصدفة” للعمل العسكري الثوري

أكثر ما نجح به النظام على الصعيد السياسي هو عزل المنطق السياسي للثورة عن الحراك الثوري والانتفاضة الشعبية؛ فحرص على اعتقال واغتيال أي بذرة محتملة من الثوار قادرة على تصدير فعل سياسي، وحرص على عدم انخراط مباشر من جيل النضوج الثوري في العمل السياسي، وترك الأمر إلى معارضة أنهكها بسنوات الاعتقال والملاحقة، والمتشظية أيضًا على خلفيات أيديولوجية مختلفة يمينًا ويسارًا، لتنقل العدوى إلى الشق العسكري، مع ظهور الانشقاقات بالرتب العالية عن جسم النظام، وانخراط قسم منهم في قيادة العمل العسكري، حيث كان لزامًا على النظام التخلص منهم؛ فحصل على ما يريد، وظهرت “قيادات الصدفة”، من أصحاب الخلفيات المهنية المتوسطة، وهم ذوو مستوى ثقافي ضعيف وأحيانًا معدوم، وأخذوا البريق الذي حققه عنوان “الجيش الحر”، وحلم بناء المؤسسة العسكرية الوطنية إلى مكان آخر.

لم يُدرك هؤلاء حقيقة الوطن، بقدر ما تم إغرائهم بمواقع تضمن لهم مكانًا لم يكونوا يومًا يحلمون به، فبعد الهتافات التي خرجت من قلب الشعب (الله محي الجيش الحر) أصبحت هذه التشكيلات أقرب إلى سلطة عسكرية، تأخذ الطابع الميليشاوي أكثر من الوطني، إذ أصبح لكل منها شعار، و”لوغو” خاصّ بها، بعد أن جمعهم علم الثورة وظللهم ووحّد أهدافهم، فأصبح الشعب السوري أمام صورتين، أناس أصبحوا إسلاميين أكثر من الإسلام نفسه، وملكييّن -أسديين- أكثر من الملك نفسه.

القضية الوطنية تُنادي كل الضباط الشرفاء الذين انحازوا لصف الشعب، ليكونوا ركيزة جيش وطني حقيقي، وهذا تكليف وطني، وعليهم فحسب تقع المسؤولية في ترك “قيادات الصدف” تُمسك بزمام الأمور.




المصدر