جميل داري: العربية لغة عقلي وروحي، والشعر أحد أعمدة الفن دومًا


مشعل العدوي

أكّد الشاعر السوري الكردي جميل داري عشقَه للغة العربية، وهو الذي عمل لأكثر من أربعين عامًا بتدريس اللغة العربية، وأعرب عن قناعته بأن الشعر هو أحد أهم أعمدة الفن، مهما قسا عليه الدهر، ورأى أن ما صدر من إنتاج شعري -خلال الثورة- يفتقر إلى روح الفن، ولا يتعدى أن يكون نفثات غضب وألم، فيما حذّر من النشر الإلكتروني، وقال إنه سلاح ذو حدين.

وعن طفولته، يقول داري، ابن مدينة (عامودا) السورية، في لقاء مع (جيرون): “أتذكر الكثير من ملامح تلكم الطفولة وظلالها المرتعشة، لكنها لم تكن غنية بالأحداث الغريبة والمثيرة، سوى أنني كنت أتحدث لغتي الكردية خارج أسوار المدرسة، والعربية داخلها، ولا أعرف الظروف التي جعلتني أختارها لغة لعقلي وروحي حتى الآن، وفي نهاية تلك الطفولة وجدتني مجيدًا للغة العربية التي أحببت، ورأيت فيها ضالتي الضائعة، وفردوسي المفقود للتعبير عن نفسي التواقة إلى كتابة الشعر، منذ الصف السابع، مستمرًا في اعتناقه حتى هذه اللحظة الحرجة من عمر الشعر الذي تختلف فنونه ومناهجه ومدارسه، وأنا أواكبه كما تواكب أم رؤوم ابنها في مراحله العمرية المختلفة، لكن الجميل أني استطعت الاحتفاظ ببعض الطفولة في روحي، فلولاها لما استطعت اقتراف القصيدة التي تحنّ إلى أطلالها البعيدة، وكتبت بعض القصائد للأطفال وعنهم منذ: ليتَ الحياةَ طفولةٌ .. وإلى الطفولةِ منتهاها.

وعن بداياته في كتابة الشعر، ومدى تأثير بيئة (عامودا) في شعره، قال: “حتى الآن أسال نفسي: لماذا الشعر؟ ربما هي الفطرة أو الموهبة أو حاجة النفس إلى التعبير عن نفسها بطريقة ما، فأنا وجدتني في أحضان القصيدة أقرؤها بمتعة عالية وتذوق عميق، وكان حبي لها يزداد عمقًا ورسوخًا، مع اكتشاف كل نص جميل ومدهش، لدى الجواهري وبدوي الجبل ومحمود درويش ونزار قباني، ومع الزمن كان ذوقي يتطور، فلا تعود القصيدة القديمة تجذبني إلا بمقدار ما تحمل من نبض وفن وشعرية، وهذا الذوق يختلف من شخص إلى آخر، إلى حد أن بعض أصدقائي الشعراء، من عامودا، كانوا ينظرون إلى كتاباتي على أنها بضاعة قديمة وبالية، لمجرد أني لا أكتب مثلهم نثرًا تقليدًا لرواد النثر من العرب والأجانب، ولا أعرف ما الذي كان وما زال يجعلهم يناصبون الوزن العداء عمومًا، لكنهم يرضخون لشاعرية محمود درويش أو سليم بركات ذات الإيقاع الموسيقي العالي؟ الشعر مسألة أكبر من الوزن واللاوزن، وقد كتبت بعض المقالات حول هذه الفكرة، مبينًا أن الوزن وحده لا يصنع شعرًا، وإلا كان الفراهيدي أمير الشعراء عبر التاريخ العربي”.

وتابع: “في يوم واحد، قد تقوم بجولة عبر الزمان والمكان؛ فتقرأ لامرئ القيس ولبدر شاكر السياب في اللحظة نفسها، دون أن يكون بينهما ذلك الفرق الإنساني، فكلاهما يعبر عن روحه بطريقته، ويجر آلامه خلفه، فالنجوى الإنسانية غابة تتعدد فيها الأشجار ما بين عملاقة وصغيرة، لكنها معا تشكل تلك السمفونية التي تتعطش إليها الروح في زمن الصخب والحرب والموت، ويبقى الشعر أحد أهم أعمدة الفن، مهما قسا عليه الدهر، ينبت بين الصخور، ويُضفي على الكون بهجة وجمالًا، فهو الماء والهواء وهو الإنسان في حالاته جميعها.

وعن رأيه بما صدر في المجال الأدبي، شعرًا ورواية، بما يخص الثورة الثورية، قال داري: “ليس لدي اطلاع كاف على ما صدر في هذا المجال، ولا سيما الرواية، لكن قيل الكثير من الشعر إلكترونيًا وورقيًا، ومعظمه يُعبّر عن روح التمرد على واقع كان فاسدًا، وزاد فسادًا بعد الثورة التي تشوهت فيما بعد، ولم تعد تُعبّر عن كفاح الشعب السوري في حياة كريمة، لقد امتطى صهوتها الأدعياء، فصارت كاليتيم على مائدة اللئيم، وللأسف الكثير من هذا الشعر يفتقر إلى روح الفن الشعري، فما هو إلا نفثات غضب وألم على ما أصاب الشعب من ظلم فادح، وما أصاب الثورة من تشويه من هذا الطرف أو ذاك”.

واعتبر أن دور الأدب في الثورات غاية في الأهمية، لأنه يمهّد لها، وقال: “الأدب الحق هو ثوري قبل الثورات وفي أثنائها وبعدها، لا بل إنه يُمهّد للثورة، فنحن نعرف أثر رواية (الأم) لمكسيم غوركي في الثورة الروسية عام 1917، وكذلك أثر رواية (عودة الروح) لتوفيق الحكيم على قيام ما يسمى الثورة المصرية عام 1952 الخ، لقد كُتب أدب ثوري وتنويري كثير، منذ بدايات القرن العشرين إلى يومنا هذا، ولكن ما هو الأثر الذي تركه في واقعنا المدجج بالجهل والخرافة والعصبيات؟ المفكر الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود قال في ذلك (إن الوضع التنويري في منتصف القرن العشرين كان أفضل من نهاياته)، فأين ذهبت كل الجهود الفكرية؟ ألم تعصف بها رياح التخلف والفساد والاستبداد؟”.

وفي ما إن كانت النخب المثقفة قد قامت بدور إيجابي، وشكلت حاملًا لمطالب الشعب لرفع الظلم والطغيان؟ قال الشاعر السوري: “هناك نخب مثقفة لا نخبة واحدة، فنخبة مع ثورات الجماهير ومصلحتها في حياة حرة كريمة، وهناك نخبة صامتة يبدو وكأن الأمر لا يعنيها، وهناك النخبة الثورية التي تعبر عن آلام وآمال الشعب بكل وسائل الفن.. ومع ذلك يبدو لي أن أثر الإبداع يبدو واهيًا؛ وإلا من أين ظهرت لنا الحركات الدينية والطائفية والمذهبية، وكما ترى فالوضع يزداد سوءًا، فماذا على الأدب والفكر أن يفعلا في واقع عضال؟

واستبعد أن يكون هناك فجوة بين الكاتب والمثقف من جهة، وعامة الشعب من جهة أخرى، وقال: “لا أظن أن هناك فجوة، ولكن بشكل عام، فإن الناس قليلو الاهتمام بالفن، ولا سيما في هذه الظروف العصيبة، حيث القتل والتشريد والفقر والجوع، بحيث إن الفن صار في نظرهم ترفًا لا داعي له، فماذا يستطيع الفن أن يُقدّم لهم وكل قوى الشر في العالم قد وقفت ضدهم؟”، وتابع: “وأقول إن السوريين شعب عظيم، بدأ بشعار “الموت ولا المذلة”، وها هو يُترجم هذا الشعار إلى واقع يومي، فلا يمر يوم إلا وقوافل الشهداء تترى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، فالحياة كما قيل وقفة عز، وشعبنا قد وقف هذه الوقفة الجبارة، ولن يركع لأحد، فراية الحرية مهما تخضبت بالدماء لن تنكس في سماء سورية الحبيبة”.

وعن مدى تأثير الإنترنيت على انتشار الكتاب الشِعريّ تحديدًا، قال: “النشر الإلكتروني سلاح ذو حدين، فهو متاح للشعراء والمتشاعرين معًا، وقد غلب عليه الغث دون السمين، وهذا لا يضر، طالما أن الزمن القصير كاف لغربلة القمح من الزؤان. وسيبقى النشر فيه حلًا وحيدًا للوقوف في وجه دور النشر التي تأنف من الشعر كونه لا يُدرّ عليهم ربحًا وفيرًا، كما في الرواية وغيرها، وربما يكون الحق معها، فلا قارئ للشعر، ويشهد على ذلك قلة مبيعات كتب الشعر في معارض الكتب، وعدم إقبال الناس عليه في أمسياته وأصبوحاته ومهرجاناته الاستعراضية، ولكن يبقى لبعض الشعراء النصيب الكبير في رواج شعره كما لدى محمود درويش، وهذا يحتاج منا إلى نقاشات لمعرفة أسباب ذلك”.

وحول إصداراته وأكثرها قربًا له، قال “ديوان (هناك)، مصر، المنصورة 2016. (اشتعالات)، عن دار تموز، دمشق، 2015. (حرائق) عن رابطة الشعراء العرب، الشارقة 2014. (ظلال الكلام) 1995 عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق، (السفر إلى عينيك بعد المنفى) عن دار مجلة الثقافة بدمشق 1984، بالإضافة للكثير من القصائد المنشورة في دوريات ومواقع إلكترونية، ومئات القصائد غير المطبوعة، أما أحبها إليّ فهو ديوان (إن القرى لم تنتظر شهداءها) الصادر عام 1993 عن اتحاد الكتاب العرب”.




المصدر