لعنةُ الظل


قصي زهر الدين

كيف يتعدد هكذا، كيف يصير إلى مديةٍ للقتل، أو جناحٍ للطيران، أو فراشاتٍ يتقاسمنَ الجدرانَ وانعدامَ اللون. ذاك الرماد الذي يلبي نداءات الضوء منقلبًا بإغواء الشمس ومشافهاتها، كنه العتمة، وإيغال النور في مرضه الدافئ. إيماءُ الشكل، وانتصارُ المتحرك على الساكن، الثخين على الشفيف، الـ لا مرئي على المرئي. نقيض المرآةِ وصورتها، أو انتباهها للأقل منها وضوحًا. انتقاص الجسد وكثرته، واعتراف الكثيرِ المتمكن من القليل الحاسر، عتبُ الأشياءِ على رتابةِ شكلها، رديف فوضاها ونقيض اتساقها.

الثقيلُ الذي ألقى حمولة الأشياءِ كورقٍ شِفارٍ على رهافةِ الأرض وليونتها، وظلّ ثقيلًا.. وقود الليل وسريره الموزّع أثوابًا ليكتملَ العُريُ.

كانَ جالسًا على الكرسي، عندما انتهى الشاعرُ من قراءةِ ذاكَ التعريف الساديّ للظل، وقبيل أن يشعرَ بثقلٍ في ساقيه وظهره، وضعَ الكتاب جانبًا محمولًا على ظلّه، حاول النهوض فلم يستطع، وكأنما قوة خفية تشدُ بأضلعه وعظامه جهة الأرض، مجددًا حاول الحراك من على الكرسي أو بالكرسي ذاته، إلا أنه أبى كما قدميه المتصلبتينِ والمتشبثتينِ في غرسهما.

وبعدَ يأسٍ معافى من اللعنات، بدأ بالصراخ، أجل، صرخ بأعلى صوته بكلماتٍ سديميةٍ، يعيدها إليه الصدى كصفعاتٍ سهلةٍ، يلوح بما نجى من جسده، بينما صراخه مازالَ يغادرُ شفتيه ويرتدّ ثقيلًا كحجارة:

“أين أنتم.. قدماي لا تتحركان لقد شُللت”.

كان ضوء الغرفةِ حينئذ ينزلقُ عموديًا فوق جسده الثابت على الكرسي، وصوته يترنح كعربةٍ من دون عجلات:

“لقد شُللت!!”

البابُ مفتوحٌ. الشمس أطفأتها وسائدُ الليلِ العميقة، صفعاتٌ من الصراخ الهائج المبحوح استدعى جمعًا من الجيرانِ ليدلفوا غرفته مرتابين، دخلوها ينظرون حولهم، وكأنما شيءٌ ما سيقتنص خطوهم:

“ما بالكم أيها الحمقى لقد شُللت.. ارفعوني عن هذا الكرسي اللعين”.

اقترَبوا صامتين مجفلين، وأثقلهم جسدًا حاول رفعه بدايةً عن الكرسي، وبعد فشله الذريع أمسك بالكرسي وجسدَ الشاعر ثم حاول النهوض بكليهما، إلا أنه ما فتئ أن اختل توازنه؛ وسقط صريعًا تخدش لحمه بثور الحائط.

اقترب الآخرون وكرروا محاولاتهم الفاشلة، في إزاحته ميليمترًا واحدًا عن خشب الكرسي العنيد.

تتوالى المحاولات، وتعلو الصرخات ليتقدموا جميعًا، وبهيئة رجلٍ واحد، ليمسكوا بجسده والكرسي، وبهيئة جسدٍ واحد أيضًا، وبعد أخذٍ وجذب؛ سقطوا ليرتطموا بظلالهم.

لا بدّ أنها غرفة ملعونة: “صرخ أحدهم”، ثم خرجوا جميعًا دالفين من الباب ذاته، وجروحٌ مدماة في راحاتهم ورؤوسهم.

الشاعرُ الآن وحيد، لا يشكو من شيءٍ سوى من ثقلِ جسده على كرسيٍّ من القش، ومن الفراغِ الذي يمسكُ الهواءَ عنه دفعةً واحدة. يحاول، بكل ما امتلك من خبرة الوحيد، تفسيرَ ما يحدث؛ لا بد أنه حلم: يقول مواربًا صحوه، وكأنه يستنجد بالغيبِ ليوقظه من محنةِ الثبات، يدنو بيديه الحرتين من الكتاب، يقلّب صفحاته ورقةً ورقة، ثم، بغضبٍ أعمى، يلقي به لتتهشم صفحاته على الجدار، ويبدأ بصراخٍ مريرٍ، يصرخ ويصرخ حتى يخرج الدم من حباله الصوتية، ويتجمد على شفتيه اليابستين، ثم ما يلبث أن يذهب في نومٍ عميق.

ظلامٌ كُحلٌ، ورجلٌ يرتدي جلبابًا أبيضَ يدخل من خللٍ في الباب:

“لقت وقعتَ في شركِ الظّل” يقول ثم يمضي، بينما يحاول الشاعر جاهدًا أن يطلق كلامًا ملتبسًا من شفتيه المضمومتين، لكن دونَ جدوى؛ إذ حالَ صوته إلى اختناقٍ يحترق في جوفه.

“لقد وقعتَ في شركِ الظل”.

يعيدُ الرجل، قبل أن ينسلَّ جسده من الباب كشبح، يفتحُ الشاعر عينيه من نافذةِ الحلم إلى الحقيقةِ؛ فيدرك أنه استيقظ من كابوسٍ مزعج، يحاول تحريك جسده عن الكرسي القش، لعلّ ما هو به -أيضًا- من توريات الحلم ومخادعاته، إلا أنه يفشل مجددًا، فيصرخ بكله، وكأنه يقذف بجميع ما في جوفه من حرائق:

“لقد وقعتُ في شركِ الظل.. لقد وقعتُ في شركِ الظل”.

وعلى وقع صراخه يدخل الجيرةُ غرفته -بعد أن يدفعوا الباب- ليجدوه على ما كان عليهِ منذ ساعاتٍ، مقيدًا إلى كرسي القش من دونَ قيدٍ مرئي، فيكرروا محاولاتهم البائسة في جذبه بعيدًا عنه، مرةً فرادا ومرةً أخرى يجتمعون ممسكين أيديهم يدًا بيد، بينما الأخير منهم ممسكًا بالكرسي. والنتيجةُ دائمًا سقوطهم جميعًا مرتطمين بالأرض والجدران ومُحدثينَ خدوشًا في وجوههم وأجسادهم.

يدخل الغرفة رجلٌ ناهز التسعين من العمر مرتديًا عباءة وجلبابًا أبيضَ من الشمال السوري (تمامًا كالذي رآه الشاعر في حلمه)، يدخل قاطعًا المشهدَ وكأنه خُلقَ فجأةً وفي يديه معاولَ حديدية يرمي بها أرضًا:

“احفروا موضعَ الظل”

يلتفتُ إليهِ الحاضرون، والدهش يعتلي ملامحهم، بينما يعيد الرجل الغريب:

“احفروا موضعَ الظل”

يلتقط الحاضرون المعاول الحديدية، ويبدؤون بحفرِ ظلّ الشاعر المقيد إلى كرسيه، بينما يختفي الغريبُ بجسده وعباءته البيضاء، وبعدَ بضع ضرباتٍ ينفتقُ الظلّ كمنخلٍ معدني تساوت فيه الثقوب الصغيرة؛ إذ تُحدثُ فيهِ المعاولُ شروخًا طوليةً ينزُ منها دمٌ رمادي، يتابع الجيرةُ هدمَ الظل ونبشه فتخرج منه جثثٌ لأطفالٍ بأرجل مقطوعة، وأخرى لرجال ما زالوا يرتدون ملابسهم وبقع من الدم المتخثر يكسو أعناقهم وظهورهم، ثم ما تلبثُ أسوارٌ لمدن مهدومة أن تنبت في المشهد مغادرةً ظل الشاعر، يتبعها الجزء الغربي من قلعةِ حلب ثم جسر دير الزور الذي بدا يعرج على ساقٍ واحدة، ثم تخرج من زاوية الظل ساعة حمص، تتبعها بيوت الرّقة زاحفةً على بطونها، بساتينٌ بأشباح أشجارها، أجراسٌ نحاسيةٌ لكنائس تتكئ على مآذنَ حجرية، خوذٌ تتدحرج في عتمةِ الظل وتغادره ركلًا.. وفي المشهدِ الأخير خرجت فوارغ رصاصٍ لا تحصى ونشراتُ أخبارٍ عاجلة، تشيرُ إلى الدمِ السوريّ بأرقام منكسرة على أصفارها، تخرج الأرقام إذًا دون أرواحٍ أو حتى أشلاء تشير إلى أجسادها.

يخفُّ الشاعر، يخف ويقف ويتهاوى كضوءٍ شاحب، ثم يركض ويركض ويركض جهةَ مدنٍ لا ظلالَ لها.




المصدر