الدين بين الأيديولوجيا وسلطة المعرفة

9 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
11 minutes

محسن المقداد

جوهر “الأفعال” أن تكون لها غاية، أي تتجه بالضرورة لتحقيق أهداف معينة، بمعنى أنها تحاول صنع أشكال لهذه “الأفعال”، ولصب هذه الأفعال في أشكال معينة، كان لا بد من قوة فكرية تجمع الناس تحت مظلتها، والأيديولوجيا هي حقل ينبت الفكر الذي يعتقد بأنه أسلوب يواجه الحياة والعالم الخارجي؛ وبالتالي تشكيل الأساس الذي ينظم “إرادة الجماعة”، وهي بهذه الصفة علاقة توطيد وجمع، ولكنها في الآن نفسه علاقةٌ تتأسس على النبذ، فكل ما هو مخالف لإرادتها يقع خارجها. إذن هي إظهار لدور “القيم” في استمرار الاندماج الفردي للجماعة. ربما نعطي لكلمة أيديولوجيا معنى إيجابيًا، فواضعو الأسس الفكرية التي يرومون جعلها مرجعية يعتقدون دومًا أن التثقيف يأخذ على عاتقه دور الناشر لتكريس هذه المرجعية، آخذين بالحسبان طبيعة التشكيلات الاجتماعية التي شكلت مع الوقت نواة البنية الأيديولوجية، عبر نظام السيطرة القائم على العرف والعادة السائد في كل حين؛ وبالتالي يستنتجون نظريته حول القيمة، بواسطة المصالح التي يروم تحقيقها.

مع بداية العصر الحديث، كانت أغلب الحضارات على الأرض قد توصلت إلى نوع من التجانس بين الدين والعلمانية، باستثناء الحضارة الإسلامية، إذ بقيت محاولات الإصلاح الديني، على الرغم من جديتها، تقبع على الهامش بعيدًا عن مركزية الخطاب الديني، ومن ذلك ما حصل لقاضي قضاة قرطبة ابن رشد الذي أُزيح لاحقًا إلى الهامش، في عصر يعقوب المنصور 580-595 ه، إذ تعرّض ابن رشد للاضطهاد إرضاءً للفقهاء الذين جلبوا إليه تأييد العامة؛ فاتُّهم بالزندقة وبالهرطقة، ونُفي وأُمر بإحراق كتبه. هذا الفيلسوف صانع التنوير الأوروبي، من خلال ترجمته إلى اللاتينية وما أحدثته أفكاره من زلزلة للتفكير اللاهوتي المسيحي لم تجد مسألتُه صداها في أذهاننا.

أتفق مع الذاهبين إلى أن الحضارة الإسلامية  لم تشهد في بدء تكونها  ثنائية الكنيسة/ الدولة، إذ كان ثمة اندماج كاريزمي بين السلطة ورجل الدين، ولكني أؤمن كذلك أنه، في فترة لاحقة أي بعد سقوط الدولة العباسية، دخل الإسلام انشطارًا آخر باتجاه تشكل طبقة عالمة نخبوية (الفقهاء) وأخرى شعبوية (العامة) تمارس الأولى سلطةً، خارج سلطة الدولة، على الثانية، واضطرت الأولى في الممارسة الفعلية، لكسب ود قاعدتها الشعبية، إلى قبول عاداتها وتقاليدها وإدخالها ضمن صيغة (العرف) كأحد وجوه الفقه؛ مما مهد الطريق لتشكل طبقة رجال دين (أكليروس) تتجلى للعامة باسم “الإله” تعيد صياغة أدوات مفهومية للهيمنة “البطركية”، بإعادة موضعتها وتأكيدها وخضوعها للاستقصاء السلبي إلى حد ما، وإذا ما توخينا الدقة الصارمة أقول لقد حولت (الدين) إلى نوع من التخصص، لتضمن تفردها به، فقد عملت لقرون على استبعاد الذات البشرية، بوصفها “فعلًا جوانيا”، ولكنها وقفت على مسافة منها في الآن نفسه.

على ما يبدو، فالأمر ممنهج وقائم أساسًا على وجود “هوية ومعيار لغوي” ثابتين طوال قرون.

فارتباط الإيمان بـ “الوجود” والهوية سيجعلانه لاحقًا يتعامل بردة فعل قاسية، إزاء ما يعيد ترتيب قناعاته، وكأنه يدافع عن وجوده؛ مما جعل حركة الإصلاح الديني تسعى للوصول إلى فكر أقل حدة، وأكثر مرونة على التكيف مع الحياة المتغيرة والمتجددة، ناهيك عن القدرة في التكامل والتكيف مع العقائد المختلفة الأخرى وعدم محاولة نفيها وإقصاءها خارج “المسموح به”.

رسم الفقهاء صورةً ذهبيةً للتاريخ الإسلامي، وفُرِضت على العامة لتكون وسيلة أداتية للإخضاع والهيمنة، ونفي أي مراجعة حقيقية لهذا التاريخ، فعمدوا الانتقائية والتبريرية وسلطة القضاء والقدر لجعل الحوادث والأفعال تحمل نوعًا من (القدسية) التي لا يجوز مراجعتها، إذ تؤسس تفردها على التعامل مع التراث ككل، على أنه كينونة واعية ومفكرة بذاتها (لذاتها ولنا)، ليخرج من هذا الماضي ما يعلن سيادته على الحاضر بنزعة “التعالم والإعلان”، فالتكرار المستمر والترديد جعل “الأفكار” تتحول إلى عقائد ثابتة، لا يجوز نقدها.

ومن هنا، فهم يقطعون “التراث الكتابي” لمجموع الباحثين والمؤرخين ويعطون لكتبٍ وأبحاثٍ، اعتمدَت الانتقائية، لتكون مرجعًا يبنى عليه، أي بمعنى خلق “أيديولوجيا” التقليد، وعلى الرغم من أن هذه المعرفة تكون معرفةً جزئية للتاريخ والمعلم الإسلامي إلا أن الأيديولوجية تجعل ما يعرفونه كافيًا لعملية “تصنيع” آراء وقناعات، تستجيب لهذا القول أو ذاك (قصًّا ولصقًا)، وكأن الأمر هو عبارة عن تصور كمي بسيط يحيل إلى “الرمزية”. وإذا كانت الأيديولوجية تزعم احتواء كل جوهر الواقع في انسجام مفاهيمها فإن “الأيديولوجيا الدينية” لا تعني شيئًا آخر مغايرًا، إذ تنظم طبقة الأكليروس خطابًا للمجتمع حول نفسه، ينطوي على أخلاقية داخلية في الجماعة فالقانون “مقدس” رغم اعتماده على اجتهادات فقهية، وليدعم النزعة النفعية التي وقفت في وجه (التصوف) لتبدو وكأنها انتقلت من خدمة “المقدس” إلى تقديس “القناعات”، اتجهت فيما بعد لتصبح (أداة الله) أو على تقدير أقل (مملوءة به) مما يجعله يحتقر كل ما هو غير إلهي، فتم الابتعاد عن (دين الإقناع) لصالح (دين أبهة خارجية) تعنى بالشكل “وخصخصة” الأخلاق، فالمسلم من تحلى بأخلاق عهد ماضوي، ويجعلها معرفة مقبولة يوجه سلوكه، وفقًا لها كأداة للتغلب على ما هو يومي مما أنشأ توترًا بين “النموذج” والحياة العامة.

ويغيب في رؤيتنا لهذا “النموذج” الوجه المنفعل مع الوقائع، ويحضر بقوة الإنسان فاعلًا، لا علاقة له بالمجتمع فيظهر عنصرًا في نسق الأفكار الجاهزة والمشاركة في مأزق الخطاب الديني ولتكريس “النموذج” كان لا بد لهذا الخطاب من أيديولوجيا الالتقاء بين الأسطورة والمجتمع للاحتفاظ بـ “الإطار المقدس”، فالتغيير البنيوي في هذه الحالة لا يكون ذا قيمة، فالنموذج بإطاره المقدس يعمل كقوة محركة ومحرضة، بوصفها قادرة على تحريك عواطف البشر استجابة لهذه “الأسطورة/ الفرد” وتكون “الأسطورة/ الفرد التاريخي” نظرًا لغيبيتها مجموعة ألفاظ محركة، فهي تتحد من حيث علمت أم لم تعلم – مع الأيديولوجية والتي تكمن وظيفتها هنا الإبقاء على البنى الاجتماعية القائمة وتبريرها وجعلها تطبق كنوع من (الطوباوية) العدالة الاجتماعية، بمعنى آخر هي مجموعة من الأفكار الدينية وتصورات لما وراء الطبيعة في علاقتها مع البشر، وعكس هذا النموذج بشكل عقلاني على الحياة العامة هي بمعنى ثالث (الأيديولوجية).

فالتاريخ الإنساني لا يصبح لديهم ذو معنى إلا عبر تحويله إلى تاريخ أسطوري، حيث يصير النموذج وفقًا لترتيب معين موجود في (ما وراء الوجود) رغم أنها ولدت في زمان ومكان متعين وحصلت كأي حدث تاريخي آخر، لكنه عمل ينسخ الأسطورة (النموذج) في تكرار دائم كشاهد على الوضع الراهن وجعله (مسطرة أخلاقوية) تقاس عليها كل الأفعال والأقوال، لكل بشر العالم هنا تبدو (أيديولوجيا الدين) بإظهاره (كاحتفال اجتماعي)، لا يركز كثيرًا على الاختلافات الفردية.

أستطيع أن أوضح فكرتي فيما كتبه “ماندفيل” في قصيدته (حكاية النحل) عن حياة للأفراد من خلية النحل يتصفون بالرذيلة، ولكنه وازن كل سوءة بما يمكنها إحداثه، فالشح هو التوفير والإسراف حافز للكد والجهد، والحماقة سوف تحث على الإبداع، فلكل سوءة فضيلة تقابلها، والنتيجة كما رآها (أجزاء من الرذيلة وفردوس في المظهر العام) هذا لأنها في المحصلة ستكون منتجة باختلافها فتخليص الخلية من الرذائل سوف يؤدي إلى تخليصها من فضائلها أيضا. ربما يكون هذا المثال غريبًا لدى أصحاب (الوثوقية)، ولكني أجد له بنية في الحديث القدسي ((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولأتى بقوم غيركم، يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)).

اتكاء على الوثوقية كنقطة ارتكاز داخل ذواتنا، ونوع من الملاذ لعدم ثقتنا بالعالم الخارجي، تم نشر فكرة (أيديولوجيا التصحيح الذاتي) واستعادة الوضع القديم ليكون -حسب زعمهم– جديدًا ومتطورًا ومتقدمًا، وقد عم هذا الخطاب لسد الهوة بينه وبين العلم الحديث إلى نشر مصطلحات من قبيل (الطب الإسلامي – الاقتصاد الإسلامي) كأيديولوجيا لإيهام العامة بوجود علم يستقل عن المعارف الغربية الحديثة، ويتكأ على الإسلام، وهذا ما لم يفعله المسلمون الأوائل. وللتدليل مثلا تستطيع بعد قراءة ثلاثمئة صفحة ونيف من الطب الإسلامي، حصد نتيجة مفادها بأنه بالمجمل يدور حول العسل كحل وحيد ونهائي لكل أمراض العصر مدعومًا –أي العسل– بيقين ميتافيزيقي غيبي لا يجوز معه حتى بعد فشل العلاج الاعتراف، بعدم جدواه، وقد استفادت من مجموعة من المفاهيم والتقاليد التي تأخذ شكل القيم في ثقافتنا الشعبية لتصبح خطابًا وأداة للهيمنة.

وعلى المدى الطويل، بقي الدين الأداة الأكثر فاعلية من أجل استبطان الهيمنة وبسط سلطة المعرفة الكلية في نشره ودفاعه عن ثلاث نقاط:

1- الشمولية: إذ جميع الأسئلة المطروحة في الحياة تجد إجابتها في العقيدة.

2- النصوصية: حيث النصوص (مقدسة) وهذه الصفة تحتم أخذها على ظاهر اللفظ وحرفيته.

3- الحقيقة المطلقة: حيث لا نقاش يطال المبادئ، ولا وجود لوجهة نظر مخالفة.

توحي هذه النقاط الثلاث بقدر غير قليل من الانغلاق، إضافة إلى قدر أكبر من تأكيد الذات ومواجهة ذوبانها فهي تنكر التعلق (بالحقائق العرضية) رغم أنها السبيل نحو إدراك الواقع الاجتماعي.

لقد تحدث برتراند راسل في (حكمة الغرب)، عن مأزق التمركز على الذات، وما يقدمه هذا المبدأ من بقاء الذات الفردية مقيدة في حيز ضيق من إحساساتها الراهنة والخاصة بها.

نستطيع، بعد هذه المعالجة، طرحَ السؤال الذي ينشغل به هذا البحث: أيمكن للدين أن يكون أيديولوجيا؟ يتحدد هذه السؤال في ضوء سؤال سابق مغفل: هل الأيديولوجيا معرفة اتباعية أم إبداعية؟

أبتعد عن أفواج المتدينين بعقليات ماضوية ترى التراث مقدسًا غير قابل للنقد؛ لأقول:

يعد الإنسان، بطبيعته التي أوجدها الله فيه، وبما ذرأ فيه من حب للجديد ونهم للمعرفة والاطلاع، قادرًا ومتمكنًا، بإرادته، من (إبداع الممكنات من خلال الضرورات)؛ فيتخذ الفكر اعتمادًا على منجز سابق إنتاجًا تراكميًا دون استقالة معرفية، تمجّد الاتباع وتعلن صراحة العجز، إذ من المهم اكتساب المعرفة، ولكن الأهم طبعًا هو طريقة استخدام هذه المعرفة.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]